تثير التقارير بشأن الزيادة الكبيرة في عدد الإيرانيين الراغبين في طلب اللجوء إلى أوروبا، خصوصاً من الأطفال غير المصحوبين بذويهم، قلقاً كبيراً.
ولفتت المحامية الحقوقية البارزة شادي صدر الانتباه مؤخراً إلى هذه الظاهرة عبر مجموعة من التغريدات على موقع تويتر، سلَّطت فيها الضوء على الزيادة في عدد طالبي اللجوء الإيرانيين في الفترة بين عامي 2013 و2018.
وغرَّدت قائلةً: "من المثير للاهتمام أنَّ عدد الأطفال الإيرانيين غير المصحوبين بذويهم الراغبين في الحصول على اللجوء كانت أعلى من عدد القُصَّر غير المصحوبين من كلٍ من أفغانستان وإثيوبيا وسوريا، وهي ثلاث دول تشهد صراعاتٍ مسلحة".
وكان المستخدمون الذين ردوا على تغريدات شادي مصدومين وغير مُصدِّقين. فإيران بعيدة كل البعد عن أن تكون جنة، لكنَّها بالتأكيد أكثر أمناً واستقراراً من معظم جيرانها المتأزمين الذين يعانون من الصراعات الداخلية والاقتصادات المتعثرة. ولهذا لا يفهم الكثير من الإيرانيين جيداً كيف أو لماذا قد يختار بعض الآباء منهم المخاطرة بحياة أطفالهم بإرسالهم وحيدين إلى المجهول.
واتهم كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي الأسر التي اختارت إرسال أبنائها إلى الخارج دون وسائل الحماية القانونية والاقتصادية الضرورية بعدم المسؤولية. بل وألقى البعض باللوم على القنوات الفضائية، مثل Manoto وBBC Persian التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، ومقرهما لندن، بتقديم صورة مغلوطة عن الغرب بنشرها القليل من المواد فقط عن الصعوبات هناك.
لكنَّ الواقع ليس بهذه البساطة، فالإقدام على إرسال طفلك ليخوض مثل هذه الرحلة الشاقة لا يشير إلى عدم المسؤولية أو السذاجة، بل اليأس الشديد الذي انتشر عبر طبقاتٍ كثيرة من المجتمع الإيراني.
فقدان الأمل
بالطبع لا تمثل الهجرة من إيران ظاهرة جديدة. فعلى مدار العقود الأربعة الأخيرة، غادر مئات الآلاف من الإيرانيين بلادهم وكوَّنوا بمرور الوقت شتاتاً يتألَّف من أربعة ملايين شخص في مختلف أنحاء العالم. تمكَّن البعض من بدء حياةٍ جديدة، واجتاز بعضهم الجبال وقفز من فوق الأسلاك الشائكة وقاسوا في مخيمات اللاجئين قبل أن يستقروا في منزلٍ جديد.
حدثت أكبر موجة هجرة بعد ثورة 1979، بعدما شنَّ النظام الجديد حملة محاكماتٍ شرسة ضد كل المجموعات المعارضة. وجعل بداية الحرب مع العراق في العام التالي الهجرة مسألة تتعلَّق بالبقاء ذاته بالنسبة للكثيرين وتسبَّبت في اشتداد موجة الهجرة هذه أكثر. ثُمَّ كانت هناك موجةً أخرى بعد فشل إدارة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في إحداث تغييرٍ سياسي كبير، وموجة كبيرة بعد قمع الحركة الخضراء.
وعلى مدار العقد المنصرم، كان معظم المهاجرين الإيرانيين يغادرون البلاد بسبب حملات القمع السياسي، أو مصادرة الدولة للأصول بصورة غير القانونية، أو التحكم الصارم اجتماعياً ودينياً، أو خطر التعرُّض للاضطهاد على أساس التوجهات الجنسية.
لكنَّ إرسال الأطفال غير المصحوبين بذويهم في رحلةٍ خطيرة أمرٌ جديد. وتُتَّخذ مثل هذه القرارات اليائسة اليوم في إيران لأنَّ الكثير من الإيرانيين فقدوا كل الأمل في المستقبل. وهم يعتقدون أنَّه لا يمكن لأطفالهم أن يحظوا بمستقبل إلا إذا غادروا البلاد.
وبالطبع هناك آباء إيرانيون يمكنهم تحمُّل تكلفة توفير مسار آمن لأطفالهم إلى الغرب.
وتبدأ قائمة هؤلاء الآباء بالساسة النافذين، الذين يُفتَرَض أنَّهم أعداء شرسون للغرب. ويعيش أبناء الكثير ممن هم في قمة هرم السلطة، بدايةً من رئيس البرلمان علي لاريجاني وحتى حسين فريدون، أخ ومساعد الرئيس حسن روحاني، في الغرب. ومؤخراً كان هذا الموضوع محل نقاشٍ محتدم في الإعلام الإيراني، لدرجة أنَّ محمود أحمدي نجاد، سلف الرئيس روحاني في الحكم، طالب علناً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنشر قائمة بأسماء كل أبناء مسؤولي الحكومة الإيرانية الموجودين في الولايات المتحدة.
ثُمَّ هناك الطبقات المتوسطة في المدن الكبرى، المؤيدة للغرب أكبر بكثير من الساسة البارزين. وتمر تلك الطبقات بصعوبات كبيرة كي ترسل أبنائها إلى الخارج، غالباً عن طريق دفع رسوم باهظة للجامعات الأوروبية والأمريكية.
ضريين والريفيين الذين أُرسِلوا إلى الخارج في رحلاتٍ خطيرة كآخر منارة أمل لكامل أسرهم الممتدة. ودائماً ما كان الفقر حاضراً في إيران، لكنَّ الرغبة في الهجرة الجماعية بين المجتمعات الفقيرة لم تكن قط أقوى مما هي عليه اليوم.
لديّ أقارب في جنوب إيران –صيَّادون تقريباً لم يغادروا بلداتهم على مدار حياتهم- يتحدَّثون الآن عن الهجرة. وأعرف مزارعين جنوب غربي البلاد عايشوا الثورة، ثُمَّ الحرب الإيرانية-العراقية، والفقر، وبقوا في إيران، لكنَّهم أيضاً قرَّروا الآن، بعد كل تلك السنوات، أنَّ على أبناء أسرهم من الشباب أن يغادروا.
هذه إشارة على مستوى جديد من فقدان الأمل بين الإيرانيين لم نره من قبل قط. لكن لِمَ يبدو مستقبل جيل الشباب في إيران قاتماً للغاية؟ هناك ثلاثة أسباب على الأقل.
الفساد المستشري وعدم المساواة
وضعت الثورة الإسلامية عام 1979 محاربة الفساد على رأس قائمة أولوياتها. لكن اليوم، بعد 40 سنة، بات الفساد مستشرياً لدرجة أنَّه يُسبِّب عدم مساواة كارثية والكثير من الغضب العام. ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، كانت إيران في عام 2017 رابع أكثر بلدان العالم فساداً في نظر شعبها.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، اختلست النخبة الإيرانية، مُستغِلَّةً اضطراب السوق وتحت غطاء الخصخصة، ملايين الدولارات من البنوك والمؤسسات المالية والشركات وحوَّلت الأصول إلى الخارج. فعلى سبيل المثال، حُوِّلت 30 مليار دولار من إيران خلال الربعين الأخيرين من عام 2018 فقط.
ويؤدي وضوح التفاوت في المدن الكبيرة، لاسيما طهران، إلى رش الملح على هذا الجرح. إذ ترى الجماهير التي تعاني أبناء النخبة الصغيرة وهم يقودون سياراتهم اللامبورغيني والبورش الباهظة في الشوارع، وكذلك وهم ينشرون صور حفلاتهم الباذخة ورحلاتهم في مختلف أنحاء العالم على مواقع التواصل الاجتماعي. ويثير هذا المشهد من عدم المساواة غضباً وتشاؤماً عميقين حيال المستقبل.
العقوبات الاقتصادية
بعد سنواتٍ من العقوبات الشديدة، التي دفعت الاقتصاد الإيراني إلى حافة الانهيار، وقَّعت إيران في النهاية خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015، والتي رفعت بعض العقوبات. لكن في الوقت نفسه الذي كان الاقتصاد الإيراني يعود للوقوف على قدميه، مزَّق ترامب عبثاً وبصورة أحادية الاتفاق الذي وافقت إيران على الالتزام به بالكامل.
وكما كان في الماضي، سيكون المواطنون الإيرانيون العاديون هم مَن يتحمَّلون وطأة نظام العقوبات. إذ سيتأثَّر العمال والموظفون الحكوميون بشدة، وكذلك فقراء الريف والحضر، المعتمدون على الدعم الحكومي ويعانون من جرَّاء تقليص الدعم وتأخُّر صرف الرواتب. ويصيب معدل التضخُّم المرتفع للغاية للسلع الأساسية الفقراء أولاً ويُقلِّص قدرتهم الشرائية.
ويشعر الكثير من الإيرانيين، العالقين بين مطرقة العقوبات القاسية غير المبررة من المجتمع الدولي وسندان قادتهم غير الأكفاء، بأنَّهم جرى التخلّي عنهم وتعرَّضوا للخيانة من جانب العالم الذي كان يعدهم قبل ثلاث سنوات فقط بالسلام والرخاء.
أزمة بيئية
بعيداً عن الفساد والعقوبات، اللذين كانا سمتين دائمتين للواقع الإيراني لسنواتٍ كثيرة، يبدو أنَّ هناك عاملاً آخر مهماً يتسبَّب في محاولة الإيرانيين من سكان الريف –ولنقل مثلاً أحد الصيادين في محافظة بوشهر أو مزارع في قرية بمحافظة لورستان- إرسال أبنائهم إلى الغرب. هذا العامل هو تغيُّر المناخ.
تُعَد إيران حالياً في خضم مأساة بيئية. إذ تسبَّبت سنوات من الجفاف، بالتزامن من سوء إدارة المياه والتكنولوجيا الزراعية التي عفا عليها الزمن، في نقص المياه في مناطق كبيرة من البلاد، الأمر الذي يُعرِّض حياة وعمل المزارعين للخطر. كذلك أدَّى رتفاع درجة حرارة المحيطات والصيد الصناعي عن طريق قوارب صينية في الغالب إلى تراجع عدد الأسماك. ووفقاً لبعض التقديرات، يعاني 97% من إيران مشكلات حقيقية مع الموارد المائية.
وتسبَّب هذا، إلى جانب العقوبات الاقتصادية والفساد، بالفعل في موجةٍ ضخمة من النازحين داخلياً. حتى أنَّ وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي حذَّر مؤخراً من أنَّ الهجرة الداخلية ستُغيِّر وجه البلاد في غضون خمس سنوات، وستتعرَّض إيران لـ"كارثة ضخمة" في غضون 10 سنوات إن استمر الاتجاه الحالي.
أعقتد أن إجابة سؤال لماذا يُرسل الإيرانيون أطفالهم إلى أوروبا؟ باتت معروفة لكن في حال استمر الفساد بنفس أسلوبه الجامح الحالي، واستمرت العقوبات الاقتصادية في التسبُّب بالمعاناة، واستمر ترك الأزمة البيئية دون التعامل معها، قد يكون الضغط على النسيج الأساسي للمجتمع أكبر من أن يُحتمَل. ومن شأن هذا أن يفاقم الهجرة الداخلية باتجاه شمال البلاد ذي الطبيعة الزراعية أكثر، وأن يواصل زيادة عدد المهاجرين إلى البلدان الأخرى، لاسيما الأطفال غير المصحوبين بذويهم، الذين لا ترى أسرهم أملاً في مستقبلهم بإيران.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع شبكة الجزيرة القطرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.