لن أتكلم عن الليبرالية وتعريفها بطريقة السرد، ولن أحاول تغليب أيديولوجيا على أخرى لأنني أرفض أن تمنعني أي أيديولوجيا مهما كانت عن حرية التفكير، وأن أعتبر أفكارها فوقية، وأعلامها أناساً لا يمكن مناقشتهم ونقدهم، بل الهدف هو عرض أبعاد هذا الفكر بسلبياته وإيجابياته، لنرى ماذا يمكن أن يقدّمه لمجتمعاتنا المتخلّفة.
يتّفق الفلاسفة أن مصطلح "الحرية" هو مصطلح غامض، عجزت كل المذاهب الفلسفية عن شرحه، فمن المنطقي ألَّا يكون المصدر الأول للفكر الليبرالي مصدراً فلسفياً بحتاً، بل اقتصادياً، أي أن الحرية الاقتصادية كانت هي الأساس في قيام هذا الفكر، وتلخصه مقولة (دعه يعمل دعه يمر) التي أعلنها آدم سميث، الذي ناصر عدم تدخل الدولة في الأوضاع الاقتصادية، ورَفَض وضع القيود على المانيفاكتورات، أو الحواجز، وفرض الضرائب على التجارة من قبلها، وبالعموم في الليبرالية يتم الاعتقاد بأن تقدم الإنسانية سيكون بتقدم العلم والاقتصاد، مما سيدفع السياسة إلى التطور، وهذا لا يأتي إلا بحماية حرية الفرد قبل كل شيء.
ما يُعاب على هذا الموقف هو ربط تحقيق المصلحة بإبعاد الدولة عن التدخل في نشاط المجتمع، لأننا شهدنا تجارب العديد من البلدان التي ركبت قطار التنمية الاقتصادية ولحقت بالدول المتقدمة (كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين…)، شهدنا أنّ تدخل الدولة في تأطير عملية التنمية والاستثمار العمومي في المشاريع الصناعية الكبرى والمهيكلة، وتمويل البحث العلمي وضمان تطبيق مخرجاته في مجالات الاقتصاد المختلفة كانت عوامل حاسمة في تحفيز النمو والتقدم الاقتصادي.
ولم يكن تدخل الدولة إذن بذلك السوء الذي تصفه الليبرالية، ويعتقده الليبراليون. لأنه يكفي أن تتوفر عناصر الإدارة الرشيدة والرؤية السياسية السليمة، والإرادة الحقيقية، حتى تتمكن الدولة من الاضطلاع بدور إيجابي ومكمل بجانب القطاع الخاص، في الدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام.
ومن هنا تم ابتكار نموذج آخر من نماذج الليبرالية، وهو ما يُطلق عليه "الليبرالية الاجتماعية"، التي هي في الحقيقة قريبة مما يسمى بـ "الاشتراكية الديمقراطية"، فكلاهما يحتل موقعاً وسطاً بين الرأسمالية والاشتراكية كاتجاه ثالث، لكن الفرق الرئيسي في القيم هو أن الليبرالية الاجتماعية تؤكد أكثر على حرية الفرد كقيمة عليا، وبذلك ترفض تقييد الحريات الفردية رفضاً شديداً، بينما تركز الاشتراكية التقدمية على حكم الأغلبية، وتهمل بعض الحريات الفردية.
وما سبب مُطالبة الليبرالية بالإبعاد التام لتدخل الدولة إلا الإيمان بالفكرة الطوباوية، القائلة إن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي تتضاءل فيه سلطة الحكومة بأكبر قدر ممكن، وعن طريق الانضباط الاجتماعي تتشكل الحياة المدنية بطريقة تجعل من وجود أي سلطة غير ضروري، ولن يعاني المواطن أي عائق لحريته ، باستثناء ما هو ضروري لضمان الآخرين المساواة في الحرية.
هذا لا يعني أن موقف الليبراليين من الحرية غامض أيضاً، بل يجب ألا يضر سلوك الفرد حريات الآخر. فأن تكون مؤمناً أو ملحداً، خلوقاً أو منحلاً أخلاقياً فذاك شأنك، وذلك لا يعكس إلا صورتك، لكن أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين بأن تثمل وتقود السيارة، أو تتحرش بفتاة في الشارع مثلاً، فذاك لا يعود لشأنك، وبالمختصر المفيد، أنت حرّ ما لم تضر.
وليست هناك دلالة على الجهل بتاريخ الفكر الإنساني، إلا عندما يدّعي أحد أن الليبرالية تعني "الحرية المطلقة"، فالإنسان البدائي كان مطلق الحرية في "حالة الطبيعة"، ومن صورها القتل والتدمير دون ضابط، وعندما أدرك حاجته إلى الاتحاد مع أقرانه اختار أن يتنازل عن بعض من حريته لصالح ذلك المجتمع الذي تحكمه سلطة موثوقة، وهذا ما يسمى بـ "العقد الاجتماعي".
إن ما يخسره الفرد بموجب العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقه غير المحدود في كل شيء، لكن ما يكسبه هو الحرية المدنية وحق امتلاك ما يريد بطريقة قانونية لا تضر مجتمعه، فما معنى أن تزايد على الليبراليين، وأن تتهمهم في أخلاقهم، بمجرد خلطِك بين الحرية الطبيعية التي تنازل عنها البشر منذ عشرات القرون وبين الحرية المدنية التي تعبّر عن إرادة المجتمع، والتي هي أساس الليبرالية.
أحد الأخطاء الشائعة هو دمج الليبرالية مع الديمقراطية، المفهومان ليسا مترادفين، بل لم يكونا متوافقين في البداية. فمنذ عهد الإغريق القدماء كانت "الديمقراطية" تعني "حكم الشعب".
فسّر البعض ذلك ليعني المشاركة السياسية المباشرة من قبل جميع المواطنين الذكور. وقد اعتبرها الآخرون بمثابة نظام تمثيلي قائم على حق التصويت لجميع المواطنين الذكور. في كلتا الحالتين، في القرن التاسع عشر كانت غالبية الليبراليين معادية لفكرة الديمقراطية نفسها، التي ارتبطت بها الفوضى وحكم الغوغاء والدهماء. فمن الصعب العثور على ليبرالي متحمس للديمقراطية خلال ذروة ما يسمى في كثير من الأحيان (الليبرالية الكلاسيكية).
الكثير ممن يستشهد بمؤسسي الليبرالية كتوماس هوبز أو بنثام، نسوا أن هذين لم يكونا ديمقراطيين، لكن ذلك لم يمنعهما من الوصول إلى نفس النتيجة على اختلاف المنطلقات، وهي أن أساس الليبرالية يعني الاختيار والحرية، هوبز على سبيل المثال كان سلطوي النزعة سياسياً، ولكن فلسفته الاجتماعية بنيت على الاختيار الحر، كانت منطلقة من حق الحرية والاختيار الأولي.
وبنثام كان نفعي النزعة، ولكن ذلك كان نابعاً أيضاً من قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولي، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة التي وصل إليها في النهاية.
ما جعل فلاسفة للفكر الليبرالي يرفضون حكم الشعب في البداية، هي الثورة الفرنسية التي أظهرت لهم أن الجمهور غير مستعد تماماً للحقوق السياسية. كان الناس جاهلين وغير عقلانيين وعرضة للعنف، ومستعدين لممارسة الإرهاب، لقد أثبتت شعبية الإمبراطور نابليون بونابرت لهم بشكل لا لبس فيه، أن المواطنين الفرنسيين كانوا يميلون بشكل غير صحي إلى الحكام الاستبداديين، وكانوا عرضة للدعاية وفريسة للدكتاتوريين وخطابات الديماغوجيين. ولهذا تم اختراع كلمات جديدة لتبرئة نظامه الديمقراطي الزائف، بوصفه بأنه "استبداد ديمقراطي".
ليست هناك ليبرالية نسخة بالكربون في كل مجتمع، فهي تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها، وتختلف من مجتمع غربي متحرر إلى مجتمع شرقي محافظ، فإن الأنظمة الليبرالية في كل أصقاع المعمورة تختلف وتتفق هنا عن هناك بقدر اتفاق واختلاف القوانين، فالليبرالية في أميركا -مثلاً- تختلف عنها في فرنسا أو بريطانيا، وهذه الاختلافات تكون تبعاً لاختلاف القوانين وطبيعة كل مجتمع وبيئته المعينة.
ما يهمنا في عرضنا المختصر هو أن الليبرالية، اهتمامها الأول هو الإنسان وواقعه، ومن هذا الإنسان وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبثق القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً، وبالتالي هي من أحد فروع العلمانية، وهذا لا يعني أنها تهمل الدين أو تحاول إقصاءه كما يزعم التيّار الديني، لأن هناك فرقاً بين فكر يدعو لإقصاء الدين من حياة الإنسان، وليبرالية أسّسها أصلاً متديّنون كجون لوك، التي هدفها تحرير الإنسان من أي سلطة خارجية، وأهمها سلطة رجال الدين…
يزايد فكر التيّار الديني على الفكر الليبرالي بأنه نشأ خارج فضاء الدين، وهذا القول لا معنى له، وهو لا يصلح إلا لمن لا يعرف طبيعة الفكر الديني، فحتى الفكر الديني الإسلامي يحمل أفكاراً اجتهادية وأحكاماً شرعية لم يأت بها الإسلام، تبعاً لمصالح الناس (جزء منه يدخل في حيز الفكر الدنيوي)، فالصحيح هو أن نقول الليبرالية تهتم بالمجال الدنيوي، أما المجال الروحاني فقد تركته للدين. وهذا أمر طبيعي، فالأفكار لا تتكون تلقائياً دون التأثر بالواقع، فالإدراك الخالص من كل تأثير واقعي لشيء محدد هو خرافة.
ما يعني أن حيلة المتأسلمين المعروفة برمي كل فكر يخالفهم بتهمة معاداته للدين لمجرد نشأته خارج الدين لا تنطلي إلا على السذج، الذين لا يعرفون حقيقة الدين نفسه، الذي ينقسم إلى ثوابت ومتغيرات، والمتغيرات هي محور الفكر الإنساني، فلا معنى لمقولة إن العلمانية باطلة ورجس من عمل الشيطان، لمجرد أنها تهتم بالشأن الدنيوي، وأصلاً دينك مبني على ثوابت لا تمسها العلمانية، بل تحميها، ومتغيرات تجعلها فوق طاولة البحث والمناقشةّ.
هناك سؤال كثيراً ما يكرره مَن يبحث في الليبرالية، وهو: "هل الإسلام يتصادم مع الليبرالية؟"، الإجابة: منذ متى كانت الليبرالية ديناً حتى نقارنها بالإسلام؟ هل يصح أن تقارن بين دين سماوي وفكر إنساني؟ وجدلاً لو قبلنا بالمقارنة فهذا يعني أن المجتمعات التي عرفت الليبرالية استطاعت الوصول إلى غاية الإسلام الأولى، وهي تحرير الإنسان، وتحقيق أقصى درجات العدالة الاجتماعية، دون أن تعرف الإسلام، إذن أليست هذه المقارنة هي ظلم للإسلام نفسه؟
صدام الليبرالية هو مع الكهنوت، الذي يريد تحويل العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم إلى عقد يكون فيه رجل الدين، أو الكاهن، بمثابة وسيط بين الله والإنسان، وهذا يخالف المبدأ الليبرالي، الذي يعلن بكل وضوح ألَّا وصاية لإنسان على إنسان، إن هذا الإعلان الصارم هو الذي يجعل المتأسلمين عموماً يقفون بشراسة ضد الليبرالية، لأنها ترفض تسلطهم ووصايتهم على عقل الآخر، رغم تبجّحهم بأن الإسلام يرفض الكهنوت فإنهم على ما يبدو إما لا يفهمون معنى الكهنوت، أو يمارسون التقية أسوة بأعدائهم أو منافسيهم في السيطرة على رقاب الناس (الرافضة).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.