شكوت بعض أحوالي لنفسي قبل فترة عندما ضاقت بي السبل، فذكرتني نفسي بما هو آت..
لعل القدر وحده شاء لك أن تعيش بعد أن كدت تموت، ألم تبلغك والدتك أن والدك ذهب لكي يبحث لك عن مكان يدفنك فيه عندما كنت رضيعاً بعد أن اشتد عليك المرض في فصل شتاء قاسٍ ولدت فيه.
ألم تبلغك والدتك أيضاً أنه بمجرد عودة والدك تحسنت صحتك وبدأت تلهو كعادتك، ما دلل على حبك للحياة وما جعله يعدل عن فكرته غير السوية.
وما إن كبرت قليلاً حتى بدأت والدتك وشقيقاتك بإبلاغك أن لك أماً أخرى على سبيل الدعابة، وكنت تسأل والدتك على سبيل الدعابة أيضاً من أنت إذن؟. وسرعان ما أزيلت حالة الانبهار تلك عندما عرفت أن والدتك وضعتك على يد قابلة ولم تضعك في مستشفى، وأنك تعلقت بتلك القابلة رحمها الله بشكل عاطفي بعد أن رأيتها وعرفتها عن قرب كونها كانت تحبك وتعاملك معاملة خاصة، ما جعلك تتيقن مغزى كلام والدتك حول الأم الأخرى.
ثم كيف لا تذكر أول أيامك في رياض الأطفال عندما كونت تلك الصداقات الواسعة ليس مع أقرانك من الأطفال فحسب بل حتى مع معلماتك. وكيف لا تذكر أول أيامك في المدرسة عندما استوصى بك خيراً أحد أبناء جيرانك الخيرين الأكبر سناً رحمه الله وقام بالحضور لبيتك خصيصاً من أجل اصطحابك إلى المدرسة ما يعني أنك كنت تعني الكثير له ولهم. وكنت تعني الكثير لمعلماتك اللاتي قمن بمنحك معاملة خاصة أحسستها من الأعماق ما ساعدك على أن تكون أحد أهم الطلبة في مدرستك، خصوصاً أنك كنت أحد أهم المشاركين في فرق الكشافة المدرسية.
وكيف تنسى تلك الشعبية الطاغية والمحبة الخالصة بين أقرانك عندما كنت على مقاعد الدراسة، لم لا وقد كنت لاعباً ماهراً في كرة القدم ما جعلهم يتعلقون بك كونك كنت تحقق لهم الانتصارات على حساب فرق مدرسية أخرى. وكيف تنسى أنك أصبحت رمزاً لكثير منهم بعد أن التحقت بفريق الناشئين بأحد أفضل الأندية الأردنية ما جعلهم يرون فيك ما عجزوا عن رؤيته بغيرك.
وكيف تنسى فصاحتك وبلاغتك في اللغة العربية أثناء الدراسة وإعجاب أستاذك بها. ثم ألا تذكر أيضاً إعجاب أستاذ اللغة الإنكليزية بطلاقتك وقدرتك على الحديث بتلك اللغة الجديدة عليك وحبك الشديد لها وإتقانك لمفرداتها.
وكيف تنسى عندما اشتد عودك تلك العاطفة الجياشة من بعض جيرانك الأوفياء، من رجال ونساء، الذين رأوا فيك ما لم يروه حتى في أبنائهم.
وبعد ذلك، أو قبل كل ذلك، يتعين عليك أن تتذكر أنك شخص من نوع خاص جلود لا يستكين ولو تآمروا عليه، ولو حاولوا (تصفيته) أكاديمياً. ألا تذكر تلك الشهور التي قضيتها في مدينة عمان تعمل في أعمال شاقة من أجل تعليمك الجامعي الذي أخذ حيزاً كبيراً من وقتك وجهدك. ثم ألا تذكر كيف انبعثت من بين الركام كطائر الفينيق في أكثر من مرة وبعد أن عملت في أكثر من مكان كان الناس فيها يملؤهم الحقد والغيرة الأكاديمية والنظرة القبلية الضيقة. ثم ألا ترى مساهماتك العلمية من مؤلفات وأبحاث ودراسات ومقالات وكيف أصبحَت يشار لها بالبنان على مستوى محلي وإقليمي ودولي.
ويتعين عليك أن تذكر أو تتذكر تلك اللحظات العصيبة التي عشتها في مرحلة دراساتك العليا وكيف كنت تكتب أجزاء من أطروحة الماجستير في بعض الأحيان على ضوء الشموع بسبب انقطاع التيار الكهربائي نتيجة الظروف التي كانت سائدة في فلسطين بين الأعوام 2000-2004. وكيف أنك أصبحت آنذاك حالة أو ظاهرة تحدث عنها الجميع، وساهمت، دون شك، في رفع الروح المعنوية بين زملائك وزميلاتك عند انتهائك من مناقشة أطروحتك خلال فترة وجيزة في تلك الظروف شديدة الوطأة.
وهل تريدني أن أذكرك بمرحلة دراسات الدكتوراه في أوروبا وكيف كنت دائم السفر من أجل الإلمام بالعلوم واكتساب المهارات ذات العلاقة. ولعله من المفيد أن أذكرك بإعجاب أساتذتك الأجانب بك وبجدك في تعلم اللغات الأجنبية، إضافة إلى إعجابهم منقطع النظير بقدراتك في مجال البحث العلمي في الحقل محل التخصص. وإعجابهم بما لديك من مهارات الاتصال والتواصل يدلل على ذلك تلك الصداقات العميقة والكثيرة والصادقة مع زملائك وزميلاتك من الأجانب في الجامعة رغم كونك أكبر سناً من معظمهم، والتي لا تزال قائمة لغاية الآن.
بعد كل ذلك، أو قبل كل ذلك، أقول لك عشت لتكون.. ولعل مشيئة الله شاءت أن يتحول موتك الذي كان متوقعاً إلى حياة، وأية حياة؟
حياة بحساب السنين وحياة بحساب الإنجازات، وحياة بحساب الأزمنة والأمكنة، أي بحساب التاريخ والجغرافيا.
إن الشمس تشرق كل يوم، وكل يوم يأتي بصورة فجرية مشرقة.. وما عشت إلا لتكون، وما كنت إلا لتعيش في حاضر وذاكرة الكثيرين من الأوفياء المخلصين. أما أولئك الهامشيون المحبطون فلا تأبه بهم، ولا تأس، واعلم أن الدائرة ستدور يوماً عليهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.