ما سبب إعراض كثير من الناس عن الإنصات لدعاة اليوم؟ لا شك أن هناك العديد من الأسباب وراء تلك الظاهرة، وتجاهل هذه الأسباب بالتأكيد يزيد من الفجوة بين الجانبين، ويضاعف من النفور وحالة الانسداد بين الطرفين.
في السطور القادمة محاولة لفهم المشكلة التي تنتاب التوعية الدينية والخطاب الديني. هذا الكلام صالح لكل من يتصدر للنصيحة أياً كان، أفراداً أو مجموعات.
خصوصية الدين في حياة الإنسان
للإنسان حاجات أساسية تكلم عنها كثير من العلماء، منهم ستيفن كوفي في كتابه الشهير العادات السبع، ذكر ستيفن أربع حاجات أساسية هي: الحاجات الفيزيائية، مثل الحاجة للغذاء؛ والحاجات الاجتماعية مثل الحاجة للعيش والاختلاط مع آخرين؛ والحاجات العقلية مثل الحاجة للعلم والقراءة؛ والحاجات الروحانية مثل الحاجة للعبادة والتوجه واللجوء لقوة مطلقة.
وعليه فالدين مهم في حياة الإنسان بشكل عام. فهو يمثل جانباً من جوانب الاتزان النفسي وحائط دفاع قوي ضد مشاكل الحياة. حتى اللادينيون يلجأون لوسائل ورياضات مثل التأمل واليوجا وغيرها، لسد جوع الروح لشيء أسمى من المادة.
ومكانة الدين تختلف من شخص لآخر. مثلاً هناك المتدين جداً، الذي يجعل الدين محور كل شيء في حياته، وهو الموجه لكل سلوك من سلوكياته، وهناك الشخص المتدين العادي المتوسط، وهذا النوع يغطي الطبقة الأكبر من المجتمع، وهناك المتساهل الذي لا يصلي إلا نادراً، وهناك العلماني الذي يؤمن بالله، لكنه يرى أن الدين علاقة بين الإنسان وبين ربه، ويجب محوه من كل مظاهر الحياة واستبداله بالمخزون الحضاري الذي توصل إليه الإنسان، مثل العلم والديمقراطية؛ لأن الدين أصبح لا يناسب العصر الحاضر المتطور، وهذه هي العلمانية السائدة في العالم العربي (أيضا هي العلمانية الجزئية كما يعرفها عبدالوهاب المسيري).
وهناك اللاديني المنكر للدين بالجملة، وهو العلماني بالمعنى الغربي الذي لا يؤمن بأية معايير أو مطلقات أو كُليات (وهذا تعريف العلمانية الشاملة لعبدالوهاب المسيري).
وهنا نحن نتحدث هنا عن الفئة التي يهمها الدين، وترى فيه أهمية للنجاة في الآخرة، وهي الطبقة الكبرى في المجتمع، هذه الفئة لدى كل شخص فيها تصور خاص عن الله.
مثلاً هناك من يراه رحيماً، وهناك من يراه شديد البطش، لذا هناك من يأخذ بالرخصة وهناك من يأخذ بالعزيمة. برغم أن الشرع قد وضع أسساً للتصور عن الله، إلا أن هذه الأسس يختلف الناس في فهمها باختلاف الأفهام والعقول ومقدار العلم لدى كل شخص.
يفعل ذلك عامة الناس، ويفعل ذلك العلماء، فقد اختلف العلماء مثلاً في تفسير آيات الصفات، مثلاً (يد الله فوق أيديهم) منهم من يأول اليد بالقدرة، ومنهم من يثبتها لله بغير تأويل.. وهكذا..
وسيظل الاختلاف ليوم الدين، وسيظل فهم الناس للدين متبايناً ومختلفاً. أن يرى الناس جميعاً نفس الرؤية ويفهمون نفس الفهم، هي فكرة معلولة ملعونة مريضة لن تتحقق أبداً، ولا بد من احترام الاختلاف بين الناس، ويجب تقبل ذلك مثل تقبل أن السماء زرقاء والواحد أقل من الاثنين.
من المهم إدراك أن علاقة الإنسان بالله علاقة خاصة يصوغها بنفسه ولا يترك أحداً يرسمها له إلا إذا ارتضاه ووثق به وأحبه. الانصياع وراء كلام أحد من المتحدثين أو العلماء هو نوع من الاستسلام له، وهذا الاستسلام لا يتم إلا بسلطان، إما سلطان العلم، أو الثقة أو الحب.
كان هذا تمهيداً والآن ما هي أسباب نفور كثير من أفراد الفئة التي تعطي الدين أهمية في حياتها من الخطاب الديني ودعاة اليوم.
1- الضحالة العلمية
إذا تحدثنا عمن يظهرون على الفضائيات مثلاً، فإن خطابهم في الغالب يفتقد للتأسيس والاستشهادات من القرآن والسنة وأقوال العلماء السابقين، ومن الأمانة أن يسوق العالم الآراء المعتبرة في كل مسألة يسأل عنها، ومن حقه أن يقول أنا آخذ برأي فلان، أو يجتهد إن كان يستطيع الاجتهاد، لكن كل هذا نادر جداً، إن لم يكن موجوداً…
وضعف اللغة واللحن فيها يضعف المصداقية، والضحالة الشديدة في العلوم، التي تخدم الرؤية الدينية، مثل علم النفس والفضاء وغيرهما.. ليس مطلوباً من عالم الدين أن يُلم بهذه العلوم، لكن يجب أن يكون لديه الحد الأدنى منها، لأن الدين الآن يحارب بالعلم، الحد الأدنى المُوَثَّق بالأدلة والبراهين والمراجع، لا الكلام المرسل والشعارات.
والمصيبة تأتي إذا تنطَّع أحد ولبس ثوب العلم ليدافع عن الدين، فيأتي بالعجب، كأن يقول إنَّ نظرية التطور قد تجاوزها الغرب ذاته، ووكالة ناسا قالت كذا وكذا.. وكل كلامه خطأ.
والحديث في الإعجاز العلمي في السنة والقرآن بما لا يُحتمل. والحق فيما نرى أن الإسلام دين هداية من ظلام الشرك والوثنية إلى نور التوحيد وعبادة الله. الإسلام ليس منهج بحث علمي، والقرآن ليس ورقة بحثية.
الإسلام فيه دعوة للتفكر والتأمل، لكن ليس هدفه الإعجاز العلمي، فيجب أن نضع الأمور في نصابها، رد الفعل على الضحالة العلمية وخاصة في العلوم الحياتية يكون في شكل انتقاد قاس (يرفضه جملة وتفصيلاً المتدينون)، كما يفعل خالد منتصر في مقالاته مثلاً، وإبراهيم عيسى في برنامجه مُختلف عليه.
وأنا هنا لا أقول إن كل النقد صحيح، لكنْ هناك مآس في الخطاب الديني. ورد الفعل ربما يكون غير منضبط، أو شرساً، بما يوحي بأن الإسلام كله خطأ بالجملة.
منتقدو الخطاب الديني يجب الاستماع إليهم أياً كانوا، فكرة الاستماع للآخر ستقلل من حالة الاحتقان وتمنع التكفير للمخالف، بل هي حالة صحية تساعد على تصحيح الأخطاء، يجب الاعتراف بأن هناك حالة من عدم تقبل الآخر، تجعل البعض يكفّر المخالف له ويخرجه من الملة، وهو يقول لا إله إلا الله، مثلما حدث من تكفير نصر حامد أبو زيد، ومثل اغتيال فرج فودة بعد تكفيره. الفكر يواجه بالفكر ولا غير.
2- مخالفة القول العمل
أكثر ما يدمر مصداقية كل من يتصدى للخطاب الديني هو أن يخالف قوله عمله، وتملقه للسلطة، وأن يبارك الظلم، ويصمت عن الحق. هذه هي شهادة الوفاة للمتصدر للخطاب الديني، هذه الضريبة بالفعل صعبة وثقيلة، لكن على الأقل إن لم تستطع الجهر بالحق فلا تساند الظلم، اصمت وحسب، وهذا أقل الضررين. بالمناسبة هذه قاعدة عامة في تقبل الناس للأشخاص، فمثلاً أَحَبّوا الشاب أحمد خالد توفيق لأنه كان صاحب مبدأ، وكرهوا غيره لأنه خذلهم.
3- فكر الاصطفاء والعزلة الشعورية
بعض المتصدرين للدعوة أفراداً أو مجموعات يرون أنفسهم أفضل من باقي الناس، لأنهم حازوا بعض العلم أو العبادة، الناس عوام، وهم الصفوة، وهذا بشكل أو بآخر يصل الناس، مما يشكل بينهم وبين الجمهور حالةً من الفوقية يشعر بها المستمع.
هذا أحد أسرار مقت وكره بعض الدعاة، ربما تسرَّبت بشكل جاد في وجدان بعض الدعاة فكرة المفاصلة الشعورية التي دعا لها سيد قطب في كتبه، الحق أنها فكرة خطيرة تماماً. ربما من توابعها كره المجتمع والاستعلاء عليه، وفي حالة التطرف في تبنى هذه الفكرة تكون محاربة المجتمع واجبة، لم يدعُ سيد قطب لمحاربة المجتمع، لكنه قال بفكرةِ جاهليةِ المجتمع، والتطور الطبيعي لهذه الفكرة هو محاربته.
الرجل اجتهد، أصاب وأخطأ، ودور من جاء بعده أن يستفيد من الحسن، ويصحح الخطأ، وقد نقد الأخطاء في فكر سيد قطب علماء كُثُر من داخل الإسلاميين أنفسهم، منهم القرضاوي في مجموعة مقالات (مع الأستاذ سيد قطب "محطات تاريخية ووقفات نقديةٌ")، ومحمد سليم العوا في كتابه (المدارس الفكرية الإسلامية)، وأبوالحسن الندوي في كتابه (التفسير السياسي للإسلام)، وقد كتبه أصلاً للردِّ على كتاب (المصطلحات الأربعة) للمودودي، الذي كان محلَّ إعجابٍ من سيد قطب، رحم الله الجميع.
على كل حال لا ينبغي الانفصال عن المجتمع، بل يجب مخالطته، وخفض الجناح له، والاختلاط بالمجتمع غير المشروط، وتقبله بشكل صادق، والتواضع له.. غير ذلك ستكون النتيجة حالة من الانسداد بين أهل العلم والمجتمع.
4- لهجة الخطاب واحتكار الحقيقة المطلقة
فكرة أن يقول العالم إن الله يقضي بكذا في المسألة، كذا أمر صعب… هذا يوحي للمشاهد بأنه يتحدث باسم الله. الحق المطلق يعلمه الله، أنت مجرد ناقل للعلم، انقل الآراء بأمانة، ولا تتعدى العلم الإلهي المطلق، الناس لهم كبرياء، ويجب أخذه في الاعتبار إن أردت أن يستمعوا لك، لذا لا تتعالى عليهم بسلطان العلم، أو سلطان المنبر، المفروض أن يمنحك العلم تواضعاً وليناً.
عوامل تساعد على تقبل الخطاب الديني:
التواضع: التواضع ضروري في الخطاب الديني، يتمثل التواضع في لهجة الحديث، التي ينبغي أن يكون فيها لين ورحمه (وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، لا أرى أية ضرورة للتحدث بشكل أحياناً مفزع في خطب الجمعة، هذا فعلاً إزعاج للمستمعين، ولا يضيف منطقاً للإقناع.
أن يرد المتحدث كل قول له إلى أصله: بمعنى أنه إذا كان يتبنَّى رأياً فقهياً معيناً في مسأله ما فينبغي أن يقول: هذا رأي فلان، هنا إذا كان جمهور المستمعين لا يحب هذا المتحدث ويكرهه لعدم ارتياحه له، فمِن الوارد أن يسمع كلامه، لأنه ناقلٌ للعلم لا حسب.
الحق أحياناً يتعدَّد: بمعنى أن هناك أموراً فقهية مثلاً، يختلف فيها الفقهاء، لكن الرأي الحق واحدٌ فيها فقط، لكن أيضاً هناك أمور يختلف فيها الفقهاء، وقد كتب الله قبل خلق الخليقة أن الحق في هذه المسألة هو كذا وكذا.. أي أن الحق عند الله في مسألة ما من الممكن أن يتعدد.
كتب الشيخ العثماني المتوفى 800 هجرية كتابه (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)، وبيَّن فيه أن كل ما ذهب إليه الأئمة الأربعة هو حق، وإنما القضية دائرة بين الرخصة والعزيمة، وقد ذهب إلى ذلك علماء آخرون، منهم العلامة عبدالوهاب الشعراني، المتوفَّى 973 هجرية، في كتابة (الميزان الخضرية).
إن إدراك هذه الحقيقة يجعلنا أكثر رحابة في قبول المخالف.
الاعتذار عن الخطأ: إذا أخطأ العالم يجب أن يعلن خطأه ويعتذر، لا شيء يمكن إخفاؤه في علمنا اليوم، كل شيء متاح على الإنترنت.
دع الاختيار للمستمع: لا ينبغي للعالِم أن يُجبر الناس على خياراته ومزاجه الخاص، الأفضل سرد الآراء والأدلة ومراعاة الحال، وترك مساحة لحرية الاختيار.
أحياناً يغلب الغرور عالم الدين، فيشعر بالزهو، ويلبس ثوب الأب الذي ينصح الصغار غير الناضجين، هذا شيء مقزز جداً، خاصة لعالم دين، تواضع يا هذا، واعلم أن الله يمقت الكِبر. إذا كنت تتحدث في الفضائيات فأعلم أن المشاهد يدرك أنك تأخذ مقابلاً لظهورك.
أخيراً، هذا الكلام صالح لكل من يريد أن يسمع الناس نُصحه ويتبعون كلامه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.