تلقيت الأسبوع الماضي رسالةً من سيدة أربعينية مطلَّقة منذ عدة أعوام، قالت لي إنها ترفض تكرار تجربة الزواج مرة أخرى، إذ إن زوجها السابق الذي حاربت أهلها من أجله كان يشك في تصرفاتها من دون داعٍ، حتى ضاقت بالحياة معه، فطلبت الطلاق في المحكمة بعد سنوات من الشجار.
وسردت لي تلك السيدة بعض تصرفات زوجها، حين كانت تتحدث وهي نائمة، وتنادي على أشخاص غير موجودين في الحقيقة، فيوقظها ليحقق معها عن الأشخاص الذين تنادي عليهم وهي مستغرقة في سبات عميق.
وشكت لي أنها تعرَّضت لمضايقاته بسبب أحلامها، وكانت تخاف من النوم، لأنها لم تكن تتذكر تلك الأحلام والأشخاص الذين تحلم بهم، حتى تنامت الشكوك في نفس زوجها وأخذ يراقبها، ويقفل أبواب المنزل بالمفاتيح، ويمنعها من الخروج بمفردها، ويفتش في هاتفها المحمول، ومنع وجود أجهزة الكمبيوتر والإنترنت في المنزل، فضاقت بهما الحياة وانتهى زواجهما بالطلاق، بعد أن تحول عشّ الأحلام إلى سجن عتيد.
قصة تلك الزوجة التي انتهت حياتها بسبب الشك تكرَّرت كثيراً مع رجال عانوا من شكوك ومطاردة الزوجات، فصارت الحياة مستحيلة، تشبه العيش داخل قفص أسد، لا تدري متى يكون جائعاً، وبسبب الخضوع الدائم للتحقيقات والجدال والاستنزاف الذهني الذي يقتل الحب، تحوَّل هؤلاء الرجال مع الوقت إلى خائنين بالفعل، عندما بحثوا عن أخريات يصدقن ما يقولون دون تفحيص وتمحيص.
استوقفني ما سبق للتفكير من جديد، والسؤال كيف يمكن للحب أن يستمر عندما يصبح أحد الشريكين متهماً، يُبرر وينفي، يفسر ويوضح ويدفع عن نفسه الاتهامات، ويقسم بأغلظ الأيّمان أنه لم يخن، خائف من العثرات ومن السهو والخطأ.
استحضرت "نار الغيرة" التي تغنَّت لها الراحلة وردة، وكانت تقصد الخوف من الفقد، فهذا الذي تفانى فيك يغار حباً وشغفاً لا تحكّماً، يرغب في الاقتراب أكثر، تتزاحم في مخيلته المخاوف أن يبقى وحيداً دونك، يخشى أن تركله الحياة بعد أن اكتمل فيك، يغض الطرف عمّا يزعجه، لكنه لا يحتمل رحيلك، يغار من الآخرين أن يحتلوا مرتبتك في قلبه، فتبيت وحدك لا يغمض طرفك، حائراً، تتلاحق الأسئلة بلا أجوبة في ذاتك، وحين يطرق الحبيب بابك تهوى كل المخاوف السابقة، فلا لوم ولا عتاب.
أما الشكّاك فلا هو يحب ولا هو يستريح ولا ينام، وقد يصطحب شريك حياته إلى النفق المظلم، وينسى آية الله "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرَاً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" فيتحجَّج بالحب والغيرة تارة، وبسلوك شريكه الغامض تارة أخرى، يتجسَّس ويتلصَّص، وهو في الحقيقة يقوم بدور المحقق والشرطي المتربص الذي ينتظر خطيئة، ويسهر فربما يتصيَّد جرما فادحاً، يقيم محاكم التفتيش، ويتهيأ للمحاسبة وعقاب الحبيب، يضعه تحت المراقبة والإقامة الجبرية، دون فهم ووعي للفرق بين المسموح والمرفوض.
قد تختلط المشاعر عندما نتحدث عن الغيرة والشك، فيفهم البعض أن عَقد الزواج هو عقد تملُّك واحتكار، فتنشأ غيرة لطيفة ناشئة من غريزة التملك، قد تتحول إلى شكٍّ في بعض الأحيان، أو يكون شكّاً دون مقدمات الغيرة، وبرغم هذا التداخل فإن تلك المشاعر يلفها دُخَان من ضباب المشاعر والأحاسيس، يحوّل الإنسان من محب وعاشق مسالم إلى آخر غضوب شرير ينتظر العثرات، أو كاره مضطهد يتمنى لو يتخلص من الكابوس الجاثم على صدره.
في الحب نحن نطمح إلى الحرية والدعم، نرتبط عاطفياً ليصدقونا ويثقوا فينا ويسامحونا، لا أن يكسروا أنفسنا، أو يقفوا لنا بالمرصاد، يشعلون المحارق، ويقيمون المجازر بسبب هفوات وزلات لسان.
تحضرني الآن حكمة بليغة تقول إن الحب مثل الزئبق في راحة اليد، إذا قبضت عليه بقوة تبعثر، وإذا بسطت يدك تجمَّع فيها.
يشبه الأمر الضغط على حبيبك، فكلما زادت الملاحقة والتخوين اقترب هذا الحبيب نحو الهاوية، فيذهب للبحث عن آخرين يصدقون ما يقوله، فيتحول إلى خائن حقيقي، أو يهفو إلى علاقة عاطفية أخرى يظن أنها ستعيد إليه الثقة المفقودة.
سيتجنب الحديث خوفاً من الخطأ، سيُجاملك كذباً، سيجف نهر الحب، ففاقد الشيء لا يقدر على منحه، وقليلون هم من يتعاطفون مع جلَّاديهم.
فحين تحبّون امنحوا الأمان، وهبّوا إلى تكريس السلام، ولا تحوِّلوا أنفسَكم إلى خونة بالإكراه، لا تدفعوا الأحبة للهروب والبحث عن مرافئ أخرى، صدِّقوهم، أعطوهم مساحات شاسعة، اهدوهم فيضاً من الحب والتسامح، وأجنحةً للتحليق، وهيِّئوا لهم السَّحاب، لا تحرجوهم، ولا توبخوهم، واعفوا عنهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.