عن الببغاء مرجان وعقدتي مع اللغة العربية وأشياء أخرى

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/15 الساعة 07:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/23 الساعة 11:16 بتوقيت غرينتش
vector illustration of happy man with parrot…

أحاول في أوقات فراغي حالياً كتابة قصة قصيرة هزلية، أحد أبطالها ببغاء ناطق متفلسف ومدعي حكمة وثقافة يُدعى "مُرجان".

في البداية كنت أكتبها ببغاء، وهو اللفظ الصحيح  للكلمة لغوياً وأنا أعلم ذلك جيداً، ولكن كلما ذكرت الببغاء "مُرجان"  في موضع من مواضع القصة، شعرت أن هناك شيئاً ما ثقيل الظل جداً وغير لطيف وغير مريح أبداً في كلمة ببغاء رغم صحتها، تلك قصة خفيفة الروح بسيطة الأحداث أشبه بقصص الأطفال والفذلكة اللغوية غير مناسبة لها وستفسدها، إحساسي يخبرني بذلك، ولذلك قررت أن أكتبها البغبغان "مرجان" كما ننطقها في مصر بلغتنا العامية بدلاً من الببغاء (مرجان)، وأتعشم أن يغفر لي السادة القائمون على مجمع اللغة العربية خطيئتي الصغيرة هذه، فعلت ذلك وأنا أعلم أنه سينتفض من مجلسه، ويقفز إلى أعلى كالفرقع لوز، أحد الأذكياء المتربصين، حين يقرأ كلمة بغبغان –إذا كُتب لقصتي تلك النشر-  ليعلن عن اكتشافه للجريمة الشنيعة، وعن موت الأدب العربي على يد أمثالي من الجهلة المستهترين البلهاء، والتي ستؤثر على مبيعات قصصهم البسيطة بالطبع على مبيعات أدب نجيب محفوظ ودوستويفسكي!

أنا لا أفهم ما مشكلتي أيضاً مع قواعد اللغة العربية ؟ لا أفهم تلك القواعد أبداً، أجدها مملة جداً ولا أحاول حتى أن أبذل مجهوداً كبيراً في فهمها، أترك أمر تعلمها  للمصادفة البحتة دائماً، أنا لا أعلم بصراحة الفاعل من المفعول به ولا المنصوب من المرفوع من المجرور، ولكنني فقط تعودت أن أتبع حدسي، حدسي يخبرني أن تكوين الجملة خاطئ، وأن هناك شيئاً ما غير صحيح  يجعلني أحذف كلمة هنا، وأضيف أو أعدل كلمة هناك، حتى أشعر بالرضا عن كتابتي بشكل ما.

أحياناًً أرتكب الأخطاء عن سهو أو عن جهل ببعض القواعد، ولكن في أوقات أخرى كثيرة جداً كنت أرتكبها عن عمد، أنا مثلاً حتى فترة قريبة جداً كنت أجهل مكان الهمزات على لوحة المفاتيح، ولا أبذل أي مجهود  للبحث عنها؛ لذلك كنت ببساطة لا أستعملها وأؤجل محاولة البحث عنها ليوم آخر، وما زلت لا أعلم أماكن أغلب علامات التشكيل على لوحة المفاتيح رغم معرفتي بكيفية استخدامها نوعاً ما.

كما أنني حتى فترة قريبة أيضاً لم أكن أستخدم علامات الترقيم والتنصيص أبداً، وكنت أكتفي بوضع عدة نقاط عشوائية للفصل بين الجمل،  كما أنني غالباً لا أراجع ما أكتب أبداً قبل أن أفكر في النشر إلكترونياً، أنظر إلى ما كتبت بعد نشره وأنا أعلم أنه كان يمكنني تحسين النص أكثر من ذلك، كان يمكنني أن أبذل جهداً إضافياً  لتغيير كلمة هنا أو إضافة همزة نسيتها هناك.

ولكنني أشعر أن الأمر لا يستحق كل هذا العناء؛ لأنني حتى فترة قريبة جداً وقبل أن أقرر الاستسلام لرغباتي في الكتابة أخيراً ومحاولة التعامل مع  الموضوع بشكل جاد.

كنت أتعامل مع الكتابة رغم محبتي الشديدة لها على أنها نوع من أنواع الخطيئة التي أرتكبها يومياً، يؤنبني ضميري بشدة حين أجلس كالمسحور؛ لكي أكتب شيئاً ما أفكر فيه أو أضع الملامح الأولى  لقصة ما خطرت على بالي، أنسى نفسي وبقية مهامي اليومية لساعات طويلة ، وأشعر بالخلاص أخيراً حين أنتهي من كتابة ما أريد، أكتب كثيراً جداً وأنشر قليلاً جداً.

الكتابة نوع من أنواع الإدمان، إدمان يتسبب فى إهدار الوقت والعمر بالنسبة لي ولا أستفيد منها أي شيء على المستوى الشخصي سوى المتعة الخالصة.

رغم محبتي الشديدة للقراءة منذ طفولتي، ولكنني كنت أكره بشدة دروس مادة اللغة العربية، وخصوصاً أقسام البلاغة والنحو، تعودت أن أترك في أغلب الاختبارات أسئلة النحو والبلاغة بلا إجابة، متعمداً طوال سنوات دراستي في المرحلة الابتدائية والإعدادية ، كنت أكتفي بالإجابة عن أسئلة القراءة والتعبير فقط ، لم يكن لديّ طموحات كبيرة للتفوق الدراسي بصراحة أثناء فترة تعليمي الأساسي وكنت أتعشم أن هذا كافٍ جداً للحصول على درجة النجاح، والحمد لله لم أرسب أبداً في امتحان للغة العربية، ولكن حين وصلت إلى الثانوية العامة وجدت نفسي في ورطة كبيرة جداً، أنا في عرض نصف درجة ومضطر للإجابة عن أسئلة النحو والبلاغة في الامتحان حتى أحصل على مجموع جيد يؤهلني للدراسة في الكلية التي أحلم بها ، كما أنني أيضاً كنت أجهل قواعد بسيطة يعلمها أي طفل في المرحلة الابتدائية، ولذا  فأنا مضطر لاستذكار كل ما قد فاتني من دروس في كل سنوات الدراسة السابقة، بالإضافة إلى منهج النحو الخاص بالمرحلة الثانوية.

كان يأتيني مدرس لغة عربية خاص لعلوم النحو والبلاغة فقط في مرحلة الثانوية العامة، كان تعيساً ومسكيناً، وكنت أشعر بالشفقة عليه جداً، أخبرني كثيراً أنه يفكر بجدية في اعتزال التدريس بسببي، أحياناً كنت أشعر أنني مسؤول بشكل ما عن تعاسته في الحياة، أنني أحد أسباب اكتئابه واضطرابه النفسي، كم تمنيت كثيراً أن أخبره أنني شخص لطيف وطيب مثله بالضبط، وأنني حزين جداً؛ لأننا في تلك الحياة  القصيرة الماكرة نجد أنفسنا مضطرين دائماً؛ لأن نجلس أحياناً لساعات طويلة لكي نفعل أشياء لا نحبها، هو مدرس ويكره التدريس، وأنا طالب وأكره النحو، كنا نغلق باب الغرفة وتبدأ جلسة التعذيب له ولي، يعلمني قاعدة ما ثم يسألني "فهمت؟" فأهز رأسي ببلاهة متظاهراً بالثقة خوفاً من إحراجه وحتى لا يتهمني بالغباء أيضاً، يمتحنني، أجيبه بثقة عمياء وببساطة على أسئلته، يستمع إلى إجابتى، ثم يستند بظهره على الكرسي، وينظر إلى الأعلى محدقاً في سقف الغرفة فاتحاً فمه، ويبدأ بالهمهمة بأصوات منخفضة بكلمات غير مفهومة، وكأنه يقرأ تعويذة سحرية؛ ليتواصل مع شيء ما خفي لا أراه فى سقف الغرفة.

أناديه ببراءة  "أستاذ، هو فيه حاجة؟"،  يعود إلى دنيانا من عالمه الغامض ويلتفت لي، يغلق عينيه للحظات ويتنفس بعمق  محاولاً الحفاظ على أعصابه من الانهيار، ثم يبدأ في إعادة شرح القاعدة بهدوء  مرة أخرى.

أحياناً كان ينجح في شرح قاعدة ما، كنت أستوعبها أخيراً، فيقفز من مقعده ويصرخ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الله أكبر"، يصفق بجزل كالأطفال ويضحك  بسعادة، أحياناً كان يبالغ بالاحتفال بانتصاره وكـأنه الجنرال الإنكليزي (مونتجمري) وقد فاز لتوه على خصمه الألماني ثعلب الصحراء (روميل) في معركة العلمين، فأشعر بالإهانة لذكائى نوعاً ما.

لم يكن هذا هو الحال مع بقية المواد، لم أكن سيئاً للغاية، حصلت على مجموع كبير في الثانوية العامة وتأهلت لكلية الهندسة كما كنت أتمنى، كنت أستوعب قواعد الرياضيات والفيزياء بسهولة نوعاً ما، ولكن كانت لدي عقدة ما متراكمة عبر سنوات طوال مع قواعد اللغة العربية، هناك قناعة ترسخت لديّ في مرحلة من مراحل طفولتي المبكرة  أن علم (النحو) شيء صعب جداً ومستحيل الفهم وتلك العقدة استمرت معي حتى أنهيت تعليمي الأساسي، كنت أنظر بانبهار شديد لمن يفهم تلك القواعد من زملائي بسهولة، وكأنه عبقري مثلاً!، وفي امتحان الثانوية العامة لم أتخلّ عن عادتي فى ترك أسئلة النحو بلا إجابة.

فتاة تعرفت عليها منذ فترة، أخبرتني فى إطار حديث لطيف لنا معاً عبر الإنترنت عن الفارق بين الياء التي نكتب أسفلها نقطتين وبين الياء التي بدون نقطتين، أخبرتني أن الأولى هى الياء الحقيقية  يتم نطقها في نهاية الكلام (ياء) كما نكتبها، أما الثانية اسمها الياء المقصورة وهي عبارة عن حرف (أ) يستهبل ويتنكر في صورة (ياء) نستخدمها في بعض الكلمات التي نسمع صوت الألف في نهايتها عند نطقها، مثل الفارق بين علي وعلى؛ الأولى اسم في نهايتها ياء حقيقية، والثانية حرف جر في نهايتها ياء مقصورة ننطقها (أ)، تأملت فيما قالته  لي بانبهار وشعرت لأول مرة أن الأمر لم يكن أبداً بتلك الصعوبة التي كنت أتصورها وكـأنه كانت هناك غشاوة ما على عيني طيلة تلك السنوات وأنزاحت أخيراً، وشعرت أيضاً أننا أحياناً نبني قلاعاً من أوهامنا ومخاوفنا ونسكنها، كما أن ما قالته أكد لي أن كل شيء عصي الفهم قد يصبح سهلاً وتافهاً جداً إذا قامت بشرحه لك فتاة جميلة!

قرأت موضوعاً منذ فترة طويلة لكاتب معروف إلى حد ما، – كاتب عجزت أرحام النساء عن أن تأتي بمثله، يعاني من جنون العظمة ويمتدح كتاباته المقدسة دائماً بشكل دوري وكأنه يأتيه الوحي من السماء- يشبه فيه الكُتاب المبتدئين الذين يجهلون بعض قواعد النحو والإملاء بالجاموسة العُشر، وقرأت موضوعاً لكاتب آخر مغمور نوعاً ما، يتوسل إلى هواة الكتابة أن يتوقفوا عن الكتابة؛ لأنها مهنة مثلها مثل الطب والهندسة والمحاسبة، وأن يترك هؤلاء المتطفلون الكتابة لأصحابها الكُتاب فقط.

من المفهوم طبعاً حين تصبح الكتابة مصدر رزقك الأساسي أن تدافع عن أكل عيشك وتحاول حمايته بشراسة من المتطفلين على المهنة، وأنا هنا من موقعي على الكنبة – كمتطفل آخر جديد على تلك المهنة – أقول أن تعلم واحترام القواعد أمر جيد ورائع بالفعل، ولكن ليس هو الفيصل الوحيد للكتابة الجيدة، ويجب أن يتم وضع تلك الأمور في حجمها الطبيعي بلا مبالغة أو تهويل، الكتابة نوع من أنواع الفنون مثلها مثل الرسم مثلاً، يمكنك امتلاك أدوات رسم باهظة الثمن، ويمكنك القراءة كثيراً عن كيفية  استخدام الظلال والزوايا والنسب وقواعد رسم الكتل البعيدة والقريبة، ولكن لا أضمن لك حين تمسك الفرشاة وتقرر رسم شيء ما أن تصبح ليوناردو دافينشي مثلاً إذا استذكرت وتذكرت كل تلك القواعد جيداً، كما يمكنك أن تحصل على دكتوراه من المعهد العالي للموسيقى، ولن تصبح موتزارت آخر، الكتابة مثل الرسم، مثل التلحين، موهبة ربانية يوزعها الله على عباده بدرجات متفاوتة، وكما أنه من حق كل إنسان أن يمسك الفرشاة ويرسم ما يحلو له، فمن حقه أيضاً أن يمسك القلم ويكتب ما يحلو له، بل وقد يتمادى ويتهور ويحاول أن ينشر ما يكتب  أيضا ً ويجرب حظه، لا يوجد معيار واضح للحكم على الفنون عموماً، وما تراه أنت قبيحاً ومزعجاً جداً قد يراه غيرك جميلاً جداً ويؤثر فيه بشدة.

إن محاولة  أداء دور الرقيب على الفنون عموماً وإخبار الناس بما يجب أن يفعلوه وبما لا يجب أن يفعلوه في حياتهم أراه قُصر ذيل نوعاً ما ، إذا لم يعجبك كاتب، لا تقرأ له مرة ثانية  ببساطة!

في النهاية.. لا أعلم إذا كانت ستًكتب لقصصي تلك  النشر يوماً ما أم لا؟ هل أنا كاتب جيد فعلاً كما يخبرني بعض الناس  أم لا؟ كل ما أعلمه أنني سأواظب على جمع وتعلم قواعد النحو مصادفة من الفتيات الجميلات – وهن قلة نادرة جداً للأسف – في محيط حياتي، وسأواصل إضاعة وقتي الثمين فى الكتابة يومياً لساعات طويلة  في كل الأحوال؛ لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي أستمتع بفعله في حياتي فعلاً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد الخولي
كاتب مصري
تحميل المزيد