بلاد الرافدين وما تبقى من تاريخها.. هذه روح المدرسة المستنصرية

مجدداً أقولها بكل أسف، لا نعرف قيمة حضارتنا إلا عندما نفقدها، والمستنصرية هذه المرة هي الضحية التي قد وُوريت حكايتها تحت الثرى بعيداً عن الاحترام لخدماتها التي قدمتها يوماً ما للعالم أجمع، فذاك الصرح المجيد يشكو آلامه للمخلصين ممن يكترثون للفكر والثقافة والسلام بين الأوطان، ويدق أجراس الإنذار كي تصحى الضمائر فتعتذر لبلاد الرافدين، وأدرك أن هذه الكلمات بمثابة حالة من التراجيديا، وببساطة لأننا نحن العراقيين نستنشق الحزن بضريبة دمائنا السومرية والآشورية الخالدة، ولدينا قصة حبٍ عميقة مع الحروب والصراعات منذ ولادتنا وربما سنستمر بالبكاء حتى آخر رمقٍ من حياتنا.

جولة خالدة بين الماضي والحاضر

اصطحبني صديقي الوفي حسين الخضري إلى شارع المتنبي في أول فرصة لقاء بيننا خارج العالم الافتراضي "فيسبوك" قادماً هو من أميركا وأنا من الموصل، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل لأن أرواحنا تفهم حنينها لبغداد، ثم جرتنا أقدامنا لا شعورياً نحو المدرسة المستنصرية، فشكراً للحظات الرائعة التي عشتها مع الصديق صاحب الإحساس العالي.

كنت خائفاً للوهلة الأولى من دخول البوابة العملاقة، لأني أتعلق بالأماكن وأحزن إذا تشوهت صورتها في قلبي، إذ لا أريد الإصابة بالإحباط عند اصطدامي بالواقع المأساوي ومقدار الجهل تجاه التراث والتاريخ واللامبالاة من الحكومة وضعف الوعي الشعبي، فتخاذل الحكومة ووزارة الثقافة والهيئات الآثارية وإهمالها لتلك المواقع الحضارية تشعرني بالأسى عندما أقارن حروب الإمبراطوريات على قطعة واحدة من الآثار ومخطوطةٍ من التراث فهي تمثل ثروة حضارية، تمتد دماؤها الجيلية لمئات السنين، ومن هذا المنطلق كنت أتجنب زيارة أي موقع أثري كي تبقى الصورة الجميلة في عيني عندما أقرأ الروايات وأشاهد الأفلام الوثائقية عن ما تملكه بلاد الرافدين من قصص عميقة، وكأن الماضي يرفض الخروج من رؤوسنا.

وهنا لا بُد أن أحدثكم عن حسين لتفهموا الواقع العراقي البائس، فصديقي شاب طموح من عائلة بغدادية مثقفة أصيلة، اضطر لمغادرة العراق والهجرة إلى أميركا بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة، والإرهاب لا يفقه حرية الإنسان ومعتقداته لأنه يقتل كل شيء جميل بلا مبرر، وبالطريقة ذاتها قتل الإرهاب بغدادنا القديمة وهجر سكانها الأصليين تحت مسميات الدين والسياسة، لكنها كانت من أجل المصالح فقط، وما زلت لا أصدق كيف ينام الفاسدون وضمائرهم لا توجعهم بعد كل جريمة قتل واختطاف وحرق وتفجير وتهجير وسلب للحقوق واعتقال للأبرياء.

لكن بعيداً عن هذه الأجواء والتناحرات التي تسود العراق، تبقى المستنصرية فخراً تليداً للعالم بأسره.

روح عراقية عالمية

خذ نفساً عميقاً وأغمض عينيك واصغِ لأصوات الجدران وراقب تحركات الطلاب.. فقط تخيل ذلك!

دخلنا المدرسة المستنصرية وكنا محظوظين بعدم وجود الحراس الذي يغلقون دوماً الأبواب ولا يسمحون لنا بالتحرك سوى في الباحة الخارجية، وهذه المرة أكرمنا الله بحبه أن تغلغلنا في أعماق المدرسة، فدخلنا في غرف نوم الطلاب المطلة مباشرة على نهر دجلة حيث نسيم الهواء العذب وأشعة الشمس التي تعكس جمال دجلة في قطرات المياه الصغيرة عندما يسكنها الطمأنينة، وتتعمق الحوارات في الليل بين الطلاب القادمين من مختلف أنحاء العالم، فكيف سنتخيل لغة الحوار بين الأندلسي والشامي، وبين المصري والتركي، وبين الشرقي والأوروبي، وأخيراً بين العراقي وتاريخه، ومئات اللغات التي تركز على الحديث باللغة العربية الفصحى، تلك اللغة العميقة كالبئر الذي لا يجف أبداً بمشاعره الصادقة، وهل لك أن تتخيل أيضاً مستوى النقاشات الفلسفية في أروقة المدرسة، وكيف كانت الأخلاق تسبق الأفكار، وكيف كان للاحترام مكانة تعظم دور الأستاذ، وهناك حيث الشعور بالمسؤولية الرسالية للطلاب الذين تحملوا الصعاب والمسافات الشاسعة كي ينقلوا تجربتهم لأوطانهم ليطوروها ويرفعوا من شأنها، وهل لك أن تتخيل تلك السهرات الثقافية المليئة بالعفوية عندما كان يجتمع الطلاب في باحة المدرسة قرب النخيل، فيتحدثون عن ثقافاتهم وتقاليدهم، فتتحول سلوكياتهم إلى منهج حياتي تقبل الآخر مهما كان اختلافه، فتلك المدرسة العريقة تعتبر أول مكان علمي درس المذاهب الإسلامية الأربعة (الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي).

الحبر الأحمر والأزرق

هل ما زلنا نكتب تاريخنا بالحبر الأحمر لندفع ضريبة الدماء بعد وصولنا إلى القرن 21، يا للعار!

كانت مكتبة المدرسة المستنصرية زاخرةً بأعداد ضخمة من المجلدات النفيسة والكتب النادرة، وبلغ تعدادها 450 ألف كتاب كانت بمثابة مصادر ومراجع مهمة للطلاب، قتل المغول عدداً كبيراً من المفكرين ورموهم في نهر دجلة فتحول لونه إلى اللون الأحمر الداكن بسبب كثرة الدماء التي سالت في مياهه، ولم يكتفِ المجرمون بهذه المجزرة البشرية بل امتدت أياديهم إلى العلم  فقاموا بإحراق الكتب والمؤلفات التي كانت موجودة في بغداد جميعها حتى تغيّر لون نهر دجلة إلى اللون الأزرق بسبب الحبر الذي انسال في مياهه، آنذاك تعرضت المستنصرية للضربة القاضية.

وما زلنا ربما نقتل مدرسة المستنصرية بتكميم أفواهنا وتناسينا لحضارتنا العريقة فاكتفينا بماضينا وتركناه وحيداً بلا مدافعة، في هذه الحالة ربما نشارك نحن أيضاً بتدمير تاريخنا.

المدرسة المستنصرية .. لماذا لا يتم الاهتمام بها؟

ظل التدريس قائماً في المدرسة المستنصرية لمدة أربعة قرون منذ أن افتتحت في سنة (631)هـ ، /1233م،  حتى سنة (1048)هـ ، /1638م، وإن تخلل ذلك فترات انقطاع بسبب الحروب ، وتزداد الشكوك حول تواطؤ الحكومات العراقية المتعاقبة بملف إهمال المدرسة المستنصرية لأنها تعاني من إحراج طائفي مقيت، وهذا ما شهدناه في 100 سنة الأخيرة التي عانت المدرسة من تراكم النفايات في باحتها، وحرق السجلات التي قد وُثق فيها الزيارات الدولية الثقافية من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة لتصدع جدرانها العملاقة وزوال نقوشها وتكسر السقوف والأعمدة نتيجة سببين؛ الإهمال وسوء طرق الترميم والتشطيب الهندسي.

ونعود لسؤال التعجب الصادم مرة ثانية، لماذا بالذات المدرسة المستنصرية؟

فهي لا تدخل ضمن الزيارات الميدانية الثقافية والسياحية وينبت من باحتها المستطيلة أشكال الطحالب، وتحولت غرفها إلى مستودعات للمعدات ومواد البناء، وقاعاتها الدراسية يغطيها التراب وتنتشر على أرضيتها الأوراق القديمة المتهالكة، أما مكاتبها الرسمية فقد تحولت إلى مكان فوضوي لاستراحة الجنود.

مسؤوليتنا

تقتضي الضرورة أن نتحرك إعلامياً وصحافياً نحو الضغط على وزارتي الثقافة والآثار كي تسارعا بإنقاذ المدرسة المستنصرية، ولن تستكين مطالباتنا إن لم يتم احترام هذا الصرح التاريخي، فحضارة العراق مهددة وتحتاج لأقلام تكتب عنها، ويتعطش تراثنا للكاميرا الاحترافية كي توثق ملامحها ودورها الرسالي في رفع قيمة البلاد، إن لم نسع مراراً وتكراراً في توصيل هذه المناشدات سيمحى العراقي بكيانه فالعمران التاريخي هو جزءٌ لا يمكن يتجزأ عن هوية الإنسان.