كانت مياه النيل تداعب الزورق، على ضفته جواميس تخور الماء بلطف، وصيادون ينتظرون السمك، وفي الخلفية أضواء مئذنة جامع في مدينة أسوان. هكذا تصف السائحة البريطانية كاثرين نيلسون أولى ليالي رحلة أمهات عزباوات في مصر مع ابنتها ميا.
كاثرين التي تزور مصر لأول مرة كانت مع مجموعة أمهات عازبات قدمن معاً من لندن، بينما تسترد السياحة في مصر عافيتها شيئاً فشيئاً.
وهنا نسرد قصتها كما أوردتها في صحيفة The Guardian:
اليوم الأول.. رحلة أمهات عزباوات في مصر تبدأ بـ "لا شكراً"
وقفت ميا، ذات الـ13 عاماً وسط مجموعة أطفال على الطابق العلوي في زورق خشبي "الفلوكة"، الذي يؤويها هذه الليلة.
بالاستعانة ببعض التعليمات من يوتيوب، وبفضل خبرة الدليل المصري وليد في قيادة الأطفال وتوجيههم، انشغل الأطفال بصنع طائرة ورقية من عيدان الخشب والخيوط والقماش المشمع، فيما الكبار يتسامرون ويتنادمون كؤوس الشراب الباردة.
الشعور مختلف جداً عن الجنون المغبر في القاهرة، التي ابتدأت منها رحلة الأمهات العزباوات قبل بضعة أيام.
هناك لقَّن وليد الجميع أولى كلماتهم في اللغة العربية؛ كي يردوا بها على الباعة المتكاثرين، وأصواتهم المتعالية قرب أهرامات الجيزة، فيقولون: "لا، شكراً!"
The Pyramids as you've never seen them before: Breathtaking aerial footage taken from a paramotor shows ancient wonders in incredible detail: https://t.co/aRVvORPUWR #pyramids #giza pic.twitter.com/oiaJFvdNZv
— Talking Pyramids💬 (@Bennu) December 13, 2018
ثم الأهرامات، التي تهز الكيان عن قرب بهيبتها وأسرار ملوكها
تقول كاثرين: "تشوش الأهرامات كل إحساس لدينا بالأحجام، فهي لا تهز لك رمشاً من بعيد، فيما تهز كيانك كله عن قرب".
ووصفت توقيت الرحلة بأنه الوقت المناسب للاقتراب من الأهرامات، فالمخاوف الأمنية من حوادث سقوط الطيران ضربت السياحة المصرية في مقتل.
ومع أن أعداد الزوار تتعافى تدريجياً، إلا أن مواقع الآثار خلت من الازدحام، وباتت أكثر هدوءاً.
الهرم الأكبر الذي بُني للفرعون خوفو قبل أكثر من 4 آلاف سنة مفتوح للزوار.
هرعت مع ابنتها ميا مسرعتين في ممراته الضيقة، حتى وصلتا غرفة الملك التي تعرَّضت منذ زمن للسرقة والتخريب، لكنها ما زالت محافظة على هالتها ورهبتها.
الهَرَمان المجاوران خفرع ومنقرع شبه خاويين من الزوار.
يبدوان كسراب ذهبي اللون كالعسل، فهما كومتان عاليتان من الصخور وسط الصحراء الجرداء، التي تخلو إلا من الإبل المتناثرة هنا وهناك، فيما تبدو مدينة القاهرة بعيدة وراءهما.
ثم المتحف.. حيث المومياوات والكنوز الذهبية التي لا ثاني لها
عند أبي الهول التقطت مع ابنتها بعض صور السيلفي اللطيفة، قبل أن يحين موعد العودة إلى القاهرة والمتحف المصري، حيث من المزمع افتتاح قسم جديد خاص بالجيزة فيه العام المقبل، تبلغ كلفته مليار دولار.
تنفغر أفواه الجميع دهشة من جلد وأظافر الفراعنة المتفحمة في صالة المومياوات الملكية، ولِقلَّة عدد الزوار أمكننا بسهولة نسبية تفحُّص كنوز توت عنخ آمون، ومنها قناع الموت الشهير، والتابوتان الذهبيان الفريدان.
Crack of dawn visit at #Pyramids pic.twitter.com/y7jh2IHCTu
— Caty Clement (@CatyClement) December 14, 2018
الليلة الأولى.. النوم في القطار وحديث عن مغامرات
ليلتها بات الجميع في عربة المنامة في القطار المتجه إلى أسوان، وتصف كاثرين شعور الجميع بالسعادة، من كونهم "شلة" مجتمعة.
كانت ابنتها ميا في قمة السعادة للنوم خارج البيت مع شلة أطفال أكبر منها، يجتمعون على لعب الورق والشطرنج.
أما كاثرين فانضمت إلى الأمهات الـ5 الأخريات، جميعهن عدا واحدة كنَّ أمهات عزباوات، أمضين الليل يتسامرن حول قصص مغامرات السفر وحياتهن في الوطن.
واعتبرت أن لحظات اجتذاب الحديث مع الكبار هذه تعيد إلى المرء عقله، و"هي عادة ما ينقصنا نحن الأمهات الوحيدات في الأسفار".
رحلة الأمهات العزباوات في مصر وجهة من عدة وجهات مخصصة لهن فقط
ففي سنواتها الأولى من العزوبية تعرَّضت كاثرين لضغط هائل، لتملأ دور الأب الشبيه بغطسة عميقة ينقطع فيها النفس في حديقة مائية إسبانية.
وكثيراً ما كانت تنهزم أمام هذا الضغط، على حد تعبيرها، مثلما كانت تقهرها تكاليف رحلات السفر الترفيهية، المصممة لعائلة من 4 أشخاص.
لهذا السبب كانت هذه الرحلة مريحة لها.
تقول لي ديان مكاي، من وكالة Intrepid، إن رحلات الشركة العائلية باتت محببة لدى الأمهات العزباوات "لأنها تسمح للأطفال بتكوين صداقات، فيما تستمتع الأمهات بقسط من الراحة والاسترخاء".
ولهذا السبب أطلقت وكالة السفر هذا العام رحلات مخصصة للأمهات العزباوات إلى كوستاريكا والهند ومصر والمغرب وتايلاند وفيتنام، ما مجموعه 7 وجهات بشكل عام، رتبت 33 رحلة إليها لعام 2019.
ثم وصلن إلى أسوان.. حيث الصحراء وإيقاع الحياة المسترخي
عندما وصلت المجموعة إلى أسوان، راقها إيقاع الحياة البطيء المسترخي، وأعجبت الجميع المناظر الجميلة، والنسيم الذي يخفف من وطأة الحرارة البالغة 35 درجة.
الفندق يقع على ضفاف النيل، ومن سريرها الشمسي استطاعت ميا أن تلمح "الصحراء الكبرى بعينها".
تستمتع ميا كثيراً بالأجواء التي ناسبت هواها ومزاجها، فهي تتعلم ألعاب ورق جديدة بين كل غطسة وأخرى في المسبح، وتتذوق الفلافل، وتستمتع بنشوة التسوق في السوق.
وصمَّمت مع كاثرين إشارات سرية كي تتفقا على السعر فيما بينهما.
اعتادت المجموعة سريعاً على تجنُّب مياه الصنابير، وبِتن جميعاً يعبئن زجاجاتهن من قناني وليد المعبأة، كي لا تحل عليهن "لعنة الفراعنة".
لم تستطع مجموعتنا مقاومة إغراء الركوب على ظهر الإبل في جزيرة الفيلة المجاورة.
تشعر ميا أنها بلغت مرادها على متن ناقة عالية السنام، أما كاثري فحملقت برهة في السرج عديد الطبقات، متسائلة بأي منها تتشبث؟!
شيئاً فشيئاً تتحول الرمال إلى اللون الزهري، مع ميلان الشمس نحو الزوال، فيما تسير القافلة المرحة متهادية عبر الوادي.
ما تلبث أنوار الإضاءة في أسوان أن تتلألأ فيما تصدح المآذن بصوت الأذان.
Egypt uncovers intact 4,400-year-old pharaonic #tomb near Giza #pyramids. pic.twitter.com/KejVJ1l8gl
— China Daily (@ChinaDaily) December 16, 2018
الليلة الثانية.. في ضيافة عائلة نوبية وعشاء مصري أصيل
نزلت المجموعة بضيافة عائلة محلية، فرشت لهن مائدة من يخنة الباذنجان والبامية وسلطة النعنع وجبنة الفيتا المصنوعة من حليب جاموس الماء، مع أرغفة خبز الذرة وعصير الجوافة.
هي عائلة نوبية من بين العوائل الـ100 ألف التي فقدت مأواها في موطنها الأصلي في ستينات القرن الماضي، مع إنشاء بحيرة ناصر، ذاك الخزان المائي الضخم الواقع وراء سد أسوان العالي.
يقول وليد إن العديد من معابد المنطقة كادت تُغمر بالمياه، لولا أنها فُككت ونقلت من مكانها.
وصفت كاثرين دليلهم وليد هذا بـ "الخلطة الفريدة"، فهو مزيج من خبير آثار مصرية وفني حجوزات وفنان ترفيهي للأطفال، حيث يستخدم الأطفال في تمثيل وتجسيد القصص المنحوتة على الأحجار الأثرية القديمة.
ثم زيارة لحتشبسوت أميز النساء وتوت عنخ آمون
معبد رمسيس الثاني في أبوسمبل جميل جداً، و3 من تماثيله الـ4 الأصلية التي يرتفع كل منها 20 متراً، تتجه بأنظارها نحو بحيرة ناصر.
ثمة أيضاً متحف تماسيح صغير يعد من الوجهات المفضلة، لأنه يزخر بجيش من تلك الزواحف المحنطة.
وسط حقول قصب السكر الخضراء بالأقصر وحجارته الكلسية الحمراء، يقع المعبد الحجري للفرعونية القوية حتشبسوت، التي يعني اسمها أميز النساء.
تقف مايا مسحورة تماماً بالتماثيل المهيبة التي تصور الفرعونة كملك بلحية.
وفي وادي الملوك نقشت على قبر رمسيس التاسع كتابة هيروغليفية أخَّاذة، لكن الدهشة كانت عارمة في غرفة دفن توت عنخ آمون.
لم تتوقع كاثرين أن تشاهد فيها جسده المحنَّط، وعندما أنار أحد الحراس ضوءاً وسلَّطه على وجهه ظهر جلياً ذاك الملك الصبي الميت.
وأخيراً، تعود المجموعة إلى الأقصر، وتحديداً فندق Sofitel Winter Palace، الذي لَطالما نزلت فيه الكاتبة أغاثا كريستي.
وبينما كانت كاثرين تناول شراباً على الشرفة مع اثنتين من صديقاتها الجدد، كانت ابنتها ميا تخوض نقاشاً عميقاً مع أصحابها، حول فرص طيران جديدة لتلك الطائرة الورقية التي صنعوها بأيديهم، ووجهة سفر جديدة مع أمهاتهن العزباوات.