قد تكون هاجساً باعثاً على الَموت، ثَمه مَوت في اتساعها الأبدي في عيون البعض، وحيوات أخرى في رُوح عاشقيها..
هذه اختصارات غير مجدية في وصف الصحراء.
فيما مضى من سنوات سَنحت لي الفرصة عندما بدأت رعونتي كشاب في الانضباط بأن أندس وسط صحراء سيناء.
بِتّ جوار النار في الرمال، تنقلت مع مهربين محليين في مهام صحافية، وصلت أقصى الحدود شرقاً وتأملت النقب في الأفق مرات عِدة، خرجت من سيناء ولم تخرج رمالها ورائحة الرجولة فيها وصدق الطبيعة بتفاصيلها من قلبي.
حكايات لا تنتهي، أثارها فيَّ الفيلم الأردني ذيب.
ذيب ذاك الفيلم للمخرج الأردني ناجي أبو نوار، تَم تصويره، الذي هو قصة باسل غندور في الصحراء الجنوبية للمملكة الأردنية.
حكاية لا تخَطف إلا قلوب المغرمين بالصحراء وربوعها ومضارب قبائلها..
طفل يدعى ذيب وشقيقه حسين يخرجان بأمر من أخيهم الأكبر لتوصيل جندي إنكليزي ومرافق له من أهل البدو إلى منطقة ما بها بئر في الصحراء، كان ينتظر فيها الجندي جماعة ما يأخذونه لكتيبة إنكليزية، تدور الأحداث قبيل اندلاع الثورة العربية الكبرى في أواخر أيام الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى.
خرج ذيب وأخوه كمرشدين للإنكليزي ومرافقه، ومن ثم خرج عليهم قطاع الطرق فقتلوا الإنكليزي ومرافقه، ولحقهم حسين أخو ذيب.
وظل الطفل الصغير ذو العشر سنوات وحيداً في الصحراء، وهنا تبدأ الحبكة المؤلمة والتي استنهضت كل مشاهد للفيلم للتواصل مع ذيب وحركاته كي يخرج من بئر الماء الذي وقع به وهو يهرب من قطاع الطرق، ففي الوقت الذي كان ذيب ينازع بجسده الصغير للخروج من البئر كانت يداي وقدماي تتحركان، وكأنني أنا من يقوم بتلك المهمة الصعبة على جسد طفل.
مَهمة الكاتب في هذه النقطة من الفيلم كانت الوصول بالمشاهد لحالة اندماج نفسية مؤلمة، ودَس نفسية المشاهد في قلب ذيب الصغير.
فنام ذيب جوار جسد أخيه حسين الذي يسيل منه الدم، فلا أمان في وَحشة ليل الصحراء له غير أخيه وإن كان قتيلاً، وفي الصباح قادته فطرته لدفن أخيه ووضع حجر كشاهد على رأسه.
أول ليلة لذيب وحده أشعل النار "طمأنينة الصحراء" جوار قبر أخيه الصحراوي، وهو مشهد قاس لطفل وسط صحراء كهذه.
تطورت الأحداث حتى استسلم ذيب لأحد قطاع الطرق، كان قد أصيب في الاشتباك، وقاد ذيب معه إلى مقر الحامية العثمانية لبيع متعلقات الضابط الإنكليزي المقتول.
رفض ذيب نقوداً من الضابط العثماني بعد أنه عرفه اللص على أنه ابنه، وخرج تاركاً مقر الحامية وأخرج مسدساً من سرج الجمل.
وحين خروج قاطع الطريق أطلق عليه ذيب النار وفي كلمتين مقتضبتين قال للضابط هذا من ذبح أخي..
فقال له الضابط اذهب إلى أهلك.
وصل الفيلم لأوسكار في 2016 ونافس مع عدة أفلام على أفضل فيلم أجنبي لعام 2016.
من بينها فيلم كولومبي وآخر فرنسي تركي ودنماركي.
فكانت ضربة أبو نوار الأولى الأردنية لباب العالمية، حيث لم يرشح فيلم أردني قبل ذلك لهذه الجائزة في هذه المرحلة المتقدمة.
استخدم أبو نوار الكاميرا بشكل احترافي في كوادر عَظيمة، وقت أن وقع ذيب في البئر، فضلاً عن طبيعية الكاميرا الحرة في رصد جمال الصحراء التي قد يراها البعض رتيبة، الطبيعية في الحركة والتنقل من عين الطفل ذيب كانت مبهرة لفضول طفل يكتشف لغة وملابس إنكليزي عسكري دخل أول مرة لمضرب قبيلتهم.
الطبيعية في كاميرا أبو نوار هي أن المشاهد يشعر بحركة الذبابة ونَفس ذيب وتفاصيل حركته ومشاعره بين الرمال، وفي حركته مع أخيه بالمشاهد الأولى بالفيلم.
الحوار بالفيلم بسيط وقد يُعد نادراً داخل الأحداث وهو ليس فيلماً صامتاً، فلم ينتقص من الفيلم شيئاً بل كانت حالة أضافت لبؤس المعاناة في الفيلم؛ يصيب ذيب الطفل الذي لا يقوى على حوار حتى ولو نفسي لصغر سنه، لكن الأحداث والصَمت ارتقت بالطفل في رحلة نضوج بالصحراء انتهت به أن قتل أحد المتسببين في أن يعيش تلك الحال.
أخذني الفيلم بنمط حكايته إلى رواية الطوارق لكاتبها الإسباني ألبرتو باثكث والتي تحكي عن غزال صياح آخر الطوارق المتمسكين بالعادات القديمة في الصحراء الكبري بإفريقيا.
وهي رواية ملحمية ترصد جمال الصحراء بشكل غير مسبوق أن وُصِف قبلاً، فضلاً عن حكاية بطولية لرجل من الطوارق يناضل ضد نظام سياسي قتل ضيفاً له في خيمته، فأصبح يطارد نظاماً وقوات عسكرية من أجل الانتقام في رحلة عبقرية تعتبر إرشاداً صحراوياً للعيش في الصحراء، وكأنك تشاهد حلقة لبرنامج من أجل البقاء الأميركي.
الصحراء من الممكن أن تخرج مشاهد عظيمة سينمائياً تصل بأبطالها إلى قمة أوسكار، كما ذيب.
فكل ما على الكاتب الطامح هو أن يذهب في رحلة لصحراء ما كي يقتني حكاية مكتملة الجمال الصحراوي، يغزلها في مشاهد سينمائية حركة وصورة ويضبط إيقاع إحساسه على شخصيات طبيعية، كما الطبيعة الخام للصحراء ومخرج يستشعر حبات الرمال بصدق كي يصل إلى أعماق نفس الصحراويين، ومن هنا يذهب بهم إلى السجادة الحمراء بزيهم الشعبي لأوسكار، كما الأردني ناجي أبو نوار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.