لا يريدون زوال إسرائيل.. هذه هي أهداف الفلسطينيين الرئيسية من “مسيرة العودة”

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/14 الساعة 16:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/15 الساعة 08:11 بتوقيت غرينتش
شبان محتجون قرب الحدود بين قطاع غزة واسرائيل يوم الجمعة . تصوير: محمد سالم - رويترز

في الجمعة الأولى من مسيرة العودة الكبرى، ذهبتُ إلى الحدود بين غزة وإسرائيل مُصطحِباً أصغر أطفالي؛ ياسر ويافا. أجل عزيزي القارئ، لقد قرأتَ الاسم بشكلٍ صحيح، لقد سميتُ ابنتي الوحيدة باسم المدينة التي كان من المفترض أن أُولَد فيها. وهذا تقليدٌ مُتّبع لدى الفلسطينيين، خصوصاً إذا كان للاسم وقعٌ خاص.

لوَّح كلا الصغيرين بعَلم فلسطين في أيديهما الصغيرة وهما يسيران. سألني ياسر وهو ينظر مباشرةً صوب السياج الحدودي: "أبي، هل تقع يافا خلف هذا السياج؟". لم يبدُ على صغيرتي الانزعاج من سماع اسمها في سياقٍ غامض.

وأنا أحدّق في قناصٍ إسرائيلي جاثم على بندقيته بأحد المتاريس الترابية التي وضعها الجيش الإسرائيلي على الحدود، خُيِّل إليَّ أنَّني دخلتُ معه مسابقةً في التحديق. حاولتُ أن أقول له بعينيَّ إنَّ طفليَّ لا يشكلان أي تهديدٍ لك، وإنَّنا نقف على مسافة تبعد عنه بأكثر من 300 متر؛ كما أنَّ الصغيرين لا يحملان أي سلاح أو حجارة؛ ولم يحضرا إلى هنا للقتال.

هذا خيالي الخصِب بطبيعة الحال؛ ففي وقتٍ لاحق من اليوم نفسه وفي الأسابيع التالية، استخدم الجنود الإسرائيليون القوة المفرطة لإخلاء المنطقة؛ إذ ألقوا على المتظاهرين قنابل الغاز من طائراتٍ دون طيار، وقصفوا بالمدافع، وأطلقوا الرصاص الحي.

ستصل مسيرة العودة الكبرى، التي يقوم بها سكان غزة في تعبيرٍ سلمي عن المقاومة على الحدود، على مدار الأسابيع السبعة الماضية، إلى ذروتها الثلاثاء 15 مايو/أيار 2018، في الذكرى الـ70 لما يطلِق عليه الفلسطينيون "يوم النكبة"، وتحتفل به إسرائيل باعتباره يوم ميلاد دولة إسرائيل.

لفتت التظاهرات على الحدود انتباه وسائل الإعلام؛ إذ قُتِل العشرات، بينهم أطفالٌ أكبرهم في أوائل سنوات المراهقة، وصحفيون، وأصيب آلاف آخرون. وأعتقد أنَّ أي قلقٍ دولي نابع من الخوف من تصعيدٍ عسكري على نطاقٍ أوسع. ومع أنَّ هذه مخاوف مشروعة، فإنها تكشف أيضاً عن التباس عميق في فهم طبيعة "مسيرة العودة".

وكلمة "النكبة" تُعبِّر عن رؤية الفلسطينيين لما حلَّ عام 1948، وتحديداً للحظة التي أُخرِج فيها ما يربو على 700 ألف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم التي دُمِّر معظمها، وهي أيضاً اللحظة التي أُعلِن فيها قيام دولة إسرائيل.

بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين، يُعَد عام 1948 العام الأول في الكابوس الجماعي الذي نعايشه منذ ذلك الحين ولا مفرَّ منه. كل ما تلا ذلك -من النزوح والفقر والحروب وحظر التجوال والاستجوابات والاعتقالات والانتفاضات والجوع ونقص مستلزمات الحياة الرئيسية (مثل الدواء والكهرباء والمياه النظيفة والصرف الصحي) والقيود على السفر … وكل ما عدا ذلك من الأهوال التي نزلت بالفلسطينيين- كل ذلك بدأ بتلك اللحظة.

كان من الممكن أن أُولد في أحد قصور أجدادي على الشاطئ الجنوبي لمدينة يافا. ولكني وُلِدتُ بمخيمٍ مكتظ وبائس للاجئين شمال مدينة غزة. كثيراً ما يقول لي أصدقائي الأوروبيون: "وماذا في ذلك؟! كثيرٌ من الناس نزحوا من بيوتهم خلال الحربين العالميتين، لكنَّهم لم يستسلموا وبنوا لأنفسهم حياةً جديدة نعموا فيها برغد العيش".

هذا صحيح، لكن على الأقل انتهت الحربان العالميتان، ووجدت اقتصاداتٌ بأكملها طريقاً لتعيد بناء نفسها. أما ما بقي من فلسطين، فلم يسمح قَط بهذه النهاية السعيدة؛ إذ رفضت معظم الدول الأوروبية، ومِن قَبلها الولايات المتحدة بالطبع، الاعتراف بفلسطين كدولة. فما الفرصة التي كانت أمامها للنجاة؟ حتى بريطانيا، التي كرَّست سياساتها في فلسطين من بعد عام 1917 لإحلال المهاجرين اليهود مكان الفلسطينيين؛ لتنتهك بذلك شروط انتدابها التي كانت تقضي بإعداد البلاد للاستقلال- تعترف بإسرائيل، لكنَّها لا تزال ترفض الاعتراف بفلسطين اعترافاً غير مشروط.

بالنسبة لي، لم أفقد ملامح مدينتي بالكامل بينما أكبر. فكان (ولا يزال) مخيم جباليا، حيث عشتُ، مُقسَّماً إلى أحياء، كلُّ حي منها يحمل اسم البلدة والقرية التي نزح منها سكانه. وبهذا، كبرتُ أنا في حي يافا، وعلى مسامعي كانت تُقَصّ مغامرات صيد السمك وحكايا حقول البرتقال؛ ذكريات الحياة بواحدةٍ من أكثر مدن فلسطين نبضاً بالحياة في أثناء النصف الأول من القرن العشرين.

دائماً ما كنتُ أشعر بأنَّ من يَقُصُّون هذه الحكايات كانوا يُلقونها على مسامعنا والألم يسري في أجسادهم؛ تخيَّلتُ أنَّ بجسم كل واحدٍ منهم جرحاً مستتراً ينزف بهدوء وهو يحكي. ولم يكن الأمر أنَّهم كانوا لا يزالون يعيشون في الماضي، ولا أنَّ الماضي كان يلاحقهم؛ بل الحقيقة أنَّ الماضي هجرهم، وهم أضاعوه بطريقةٍ أو بأخرى، ويحتاجون إلى تطمين أنفسهم بأنَّه حدث بالفعل ولم يكن حلماً.

جدتي عائشة، واحدة من هؤلاء القصاصين. حين أُخرِجَت من منزلها الفسيح على شاطئ يافا ونُقِلَت إلى منزلٍ صغير يتكون من خيمة بيضاء على رمال غزة الساخنة، كان عليها أن تمشي حينها مسافة أطول من 100 كيلومتر لتحصل على هذا المنزل. وأينما استمعتُ إلى إحدى قصصها، شعرتُ بأنَّ من واجبي أن أعيد قصَّها على الآخرين، وأن أقُصَّها بالطريقة التي قصَّتها هي.

لذا، بدأتُ أولى محاولاتي للكتابة وأنا في الثانية عشرة. نظمتُ قصة من تلك التي كانت تحكيها لي دائماً عن زيارتها الطبيب في يافا. ثم أدركتُ أنَّ هناك قصصاً أخرى يمكنني مشاركتها وحكايتها. نتيجةً للنكبة، تشتَّتت أسرتي بين غزة والأردن ويافا، حيث نجحت قلة من أقاربي في البقاء فيها. وأصبح لمُّ شمل العائلة هدفي من الكتابة، ولو في داخلي على الأقل.

وفي حين نجحت عائشة في تضميد جروح العائلة عبر شهاداتها وذكرياتها، كانت مهمتي أن أروي شجرة الحاضر بالأمل. أكتب لتظل حياة عائلتي في تقدم دائم. ولكنّ هذه طريقة شخصية جداً للبقاء على قيد الحياة. لكل فلسطيني طريقته في الحفاظ على النبض المتبقي بحياته وحياة من يحبهم. وتُعَد مسيرة العودة الكبرى واحدة من المناسبات النادرة التي وجد فيها الشعب استراتيجيةً جماعية للبقاء.

بطبيعة الحال، يعرف المتظاهرون أنَّ أحداً لن يعود إلى أي مكانٍ في نهاية هذه المسيرة. وبالطبع، لا خطة لديهم (أو طريقة) لإزالة السياج الحدودي. وبالطبع أيضاً، هذه التظاهرة ليست محاولة لمحو دولة إسرائيل من الوجود أو عدم الاعتراف بها. وأي إشارة إلى أنَّ هذا هو الهدف أو المتوقع تُعَد سخيفة.

كل ما في الأمر أنَّ المتظاهرين يريدون إيصال صوتهم؛ كل ما يريدونه هو أن يروا النكبة، وما تبعها من عقود من التداعيات المؤلمة، تدخل ضمن سردية العالم بدلاً من نبذها. وما يُبقي الفلسطينيين على قيد الحياة طوال هذه الأعوام الـ70 -عبر الحروب والحصار والإهانات والمخاوف السرمدية- هو الأمل الذي يحدوهم إلى أن نصبح دولةً مُعترفاً بها اعترافاً كاملاً في يوم من الأيام (مع كل ما يتبع ذلك من أشكال الحرية). هذه الأعوام السبعون حوَّلت قطاع غزة إلى سجنٍ مؤبد لنا جميعاً ولأطفالنا وأحفادنا والأجيال التي تليهم.

تريد "مسيرة العودة" أن تبعث برسالة بسيطة، مفادها أنَّنا لا نستطيع أن نعيش على هذا النحو إلى الأبد؛ حتى ولو بعد 100 عام لن يمكن لأحد أن ينكر على الفلسطينيين حقوقهم الأساسية المكفولة لجميع البشر، مهما حاول الإسرائيليون وأد هذه الحقوق. لا يمكن لإسرائيل أن تنعم بالسلام أو الاستقرار أو الرخاء بينما نحن محاصرون كما لو كنا أنعاماً في حظيرة. هذا السياج ليس حاجزاً مادياً فقط بين الدولتين، وإنما أيضاً خط تمييزي بين عالَمين وواقعين. والبؤس النازل بأحد العالمين يحقق السعادة للعالم الآخر؛ وأحلام هذا الأول مطمورة أسفل عقود سبعة من الرمال في الأخير.

في اليوم الأول لمسيرة العودة الكبرى، ضحكتُ لرؤية فتيان مراهقين يمزقون صوراً لترمب. الولايات المتحدة تمد إسرائيل بالسلاح منذ أن أصبحت دولة، والفلسطينيون يعلمون علم اليقين دور واشنطن في تقوية شوكة الاحتلال وإرساء دعائمه. غير أنَّ المختلف في قرار ترمب، الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، هو أنَّه قرارٌ نفسي بحت؛ ولا يمكن أن نتوقع أي آثار له سوى استفزاز مشاعر الناس.

من دواعي الحسرة أنَّ المجتمع الدولي أخفق طوال القرن الذي تلا وعد بلفور في الاعتراف -ولو مرة- باحتياجات الشعب الفلسطيني، ولم يعامله سوى على أنَّه عدوٌ لليهودية. دائماً ما كان الفلسطينيون قادرين على التمييز بين اليهودية كديانة ودولة إسرائيل وحكومتها. ومن العار أن يعجز المجتمع الدولي عن أن يُميِّز هذا في كل مرة يُوجِّه فيها النقد لإسرائيل الدولة والحكومة؛ وهو بذلك يخفق باستمرار في الاتساق مع الأخلاق والأعراف والقوانين التي أرساها.

وحين طمس ترمب أي أثر للسردية الفلسطينية فيما يتعلق برؤية العالم للقدس، فإنَّ كل ما فعله هو أنَّه سلط الضوء على نفاق المجتمع الدولي في التعامل مع الفلسطينيين. وحين تُسلِّط الضوء على أمر، يبدأ تطبيق السيناريو المعروف نفسه، وتنجح فيه، ثُمَّ تُمهِّد الطريق أمام جرائم أخرى مقبلة.

رفضت أمي أن تقبل في بدايات تسعينيات القرن العشرين الشروط التي أملتها اتفاقية أوسلو. لكن حين أُبرِمت الاتفاقية، خرجتْ في شوارع جباليا للاحتفال مع الآخرين؛ ظناً منها أنَّها ستتمكَّن أخيراً من عناق ابنها (أخي نعيم) بعد الإفراج عنه من المعتقل السياسي كجزء من الاتفاقية.

هذا العناق الذي طال انتظاره لم يحدث قط؛ فقد ماتت وهي قيد انتظار نتائج الاتفاق! قَبِل الفلسطينيون بفتات الفتات في أوسلو، فقَبِلوا بدولةٍ قوامها كاملاً 22% من مساحة وطن آبائهم. ولم تكن إسرائيل راضية النفس حتى عن ذلك؛ بل تريدنا أن نشركها حتى في هذه النسبة الضئيلة من الأرض. ووضعت إسرائيل العراقيل والحواجز ونقاط التفتيش والمستوطنات عمداً في طريق الوصول إلى تسوية تفضي إلى قيام دولتين.

والآن.. ماذا بعد؟ يمكن أن تنتهي مسيرة العودة الكبرى غداً، غير أنَّ الأسئلة التي أثارتها لن تظل فقط؛ بل وستواصل مراكِمةً الضغط في محيط الأراضي الفلسطينية المحاصرة. ويصعب عليَّ أن أتخيل الوجهة الذي سيسلكها هذا الشعب البائس، بعد قرن من التجاهل السياسي له و70 عاماً من النزوح، و11 عاماً كبيساً من الحصار لأهل غزة تحديداً.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عاطف أبو سيف
أستاذ علوم سياسية فلسطيني
تحميل المزيد