بعد مشاهدة فيلم الإسكندر الأكبر المقدوني الذي يعد أحد أكثر الشخصيات شهرة والذي حقق فتوحات لم يسبقه أحد إليها، تلاحظ أن هوليوود وكعادتها دمجت الحقيقة مع الخيال مبتعدةً عن الوقائع الحقيقية.
مشاهدة فيلم الإسكندر الأكبر المقدوني
في العام 2004، نجح المخرج السينمائي أوليفر ستون في إخراج فيلم ملحمي يستعرض حياة الإسكندر الأكبر، وقام ببطولته: كولن فاريل، وأنجلينا جولي، وأنتوني هوبكنز.
مُستنداً إلى الأحداث التي ذُكرت في كتاب "الإسكندر الكبير" للمؤرخ روبن لين فوكس.
وبسبب بعض التفاصيل التي جاءت في الفيلم، واجه العمل العديد من الانتقادات، والاتهامات بتزييف الحقائق.
هل هناك فرق بين قصة الفيلم وما جرى في حقيقة الأمر؟
تبدأ أحداث الفيلم في العام 356 ق.م، عندما يحكي بطليموس الأول قصة حياة الإسكندر الأكبر بكل تفاصيلها منذ طفولته وحتى وفاته، وإن كان السرد جاء غير مُرتب زمنياً.
لنشهد على مدار الفيلم حياة الإسكندر الكبير، وبعضاً من تفاصيل علاقاته، التي تبدو متوترة أو غير مُكتملة، سواء مع والديه، أو زوجته، أو هيفايستن صديقه المُقَرَّب.
مع عرض الكثير من المعارك التي قام بها الإسكندر في سن الـ27 على مدار 8 سنوات، ما نتج عنه تأسيس إحدى أضخم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.
وصولاً لوفاته متأثراً بوفاة صديقه المُقَرَّب، تاركاً خلفه زوجته الحامل في ولي العهد، ورجال الدولة المُتنازعين فيما بينهم للاستيلاء على الحُكم.
معركة جاوجاميلا.. أعداد الفرس في الفيلم لم تكن حقيقية
بعد دقائق قليلة من بدء الفيلم، يجد المشاهد نفسه أمام واحدة من أهم المعارك التاريخية، معركة جاوجاميلا التي تعامل فيها الإسكندر بذكاء وعقلية حربية متميزة.
ما نتج عنه انتصار جيشه وإسقاط الإمبراطورية الفارسية، انتقاماً من احتلالها لبلاده.
وهو ما أدى بالتبعية إلى تغيير خريطة العالم في ذلك الوقت، إذ أصبح الإسكندر ملكاً على بلاد شاسعة، تمتد بين أوروبا وآسيا وإفريقيا.
رغم أن المُخرج أوليفر ستون نجح ببراعة في تصوير المعركة بما جاء فيها من مناورات والتحامات.
إلا أن بعض المؤرخين أشاروا إلى عدم إظهار التفوق العددي للفرس على المقدونيين.
وإن كان هناك اختلافات بين مؤرخين فيما يخص الأعداد الدقيقة، لكن لم يختلف أحد على حقيقة التفوق العددي للفرس.
وفقاً للإحصائيات العسكرية التاريخية، شمل جيش الفرس:
- ما يقرب من 100 ألف من المشاة (بما فيهم النساء والأطفال وأفراد
الأسرة الملكية وآخرون). - 10 آلاف مرتزق يوناني.
- 35 ألف فارس.
- أما جيش الإغريق، فضَمَّ:
- 40 ألفاً من المشاة.
- 7500 فارس وخيال.
كذلك أظهر الفيلم الفرس غير مُنظمين، وهو مُخالف لحقيقة أنهم كانوا ذوي قوة تنظيمية مُحكمة.
ومن المُغالطات التاريخية الأخرى التي ظهرت في المعركة نفسها استخدام الفُرس للمركبات ذات الأحصنة والاستفادة منها.
إذ لجأت إليها القيادات الفارسية لدعم المُشاة وتفادي الاشتباك المباشر، خاصةً بعد أن أصبح من الصعب تعويض النقص الواضح في عدد مشاة الفرس.
وذلك بسبب تَعَذُّر شراء المرتزقة، في ظل فرض الإسكندر لسيطرته على معظم البلدان، سواء بلاد الإغريق، أو آسيا الصغرى وغيرها من البلدان المُحيطة.
لكن أمام مهارة وحنكة الإسكندر وحُسن إدارته للمعركة استطاع إلحاق الهزيمة بالفرس.
ما جعل تلك المركبات -على أرض الواقع- عديمة الفائدة، ولم تلعب أي دور محوري بعكس ما ظهر في الفيلم.
الإسكندر المقدوني .. سكير مُصاب بجنون العظمة أم قائد عظيم يطمح لتوحيد العالم؟
ما وقف أمامه بعض دارسي التاريخ هو تجاهل المخرج القضايا الرئيسية في حياة الإسكندر، مثل:
"الحصار الكبير" الذي قام به الإسكندر، وهو حصار "صور" الذي جرى عام 332 ق. م.
وذلك لما لتلك المدينة من أهمية بسبب موقعها الاستراتيجي الناتج من كونها المدينة الأكبر على ساحل البحر المتوسط والوحيدة، التي لم تكن خضعت بعد للسيطرة المقدونية.
ورغم أن الإسكندر بدأ الأمر مُسالماً بعرض المُعاهدة، مُعلناً رغبته في دخول المدينة لا لشيء سوى تقديم القرابين للآلهة.
إلا أن أهل المدينة لم يُصدقوا مسعاه، وظنوا أنها خدعة، فما كان منهم إلا أن قرروا الوقوف على الحياد من الحروب الدائرة حولهم ورفض دخوله.
وهو ما جعل الإسكندر يُرسل بعثة أخرى تعرض التحالف، الأمر الذي ترجمه أهل صور على كونه موقف ضعف، تصرفوا بناءً عليه بأن قتلوا أعضاء البعثة.
هنا لم يجد الإسكندر بداً من اتخاذ القرار بالهجوم واقتحام المدينة بالقوة.
وإن كان أهل المدينة لم يشعروا بالقلق، بسبب موقعهم المميز ونجاح مدينتهم في التصَدِّي لتحديات سابقة.
لكن القدر خَدَم الإسكندر حين أرسل إليه أساطيل الفرس الذين اضطروا لإعلان الولاء له.
قبل أن يستغل مراكبهم في فرض حصار بحري على المدينة، ساعده على تحقيق مسعاه أخيراً، ولكن بعد أن كان خسر الكثير.
أو تصوير المعارك الأخرى الهامة في مشواره، منها على سبيل المثال: معركة إسوس التي جرت في جنوب الأناضول، وتحديداً عام 333 ق.م.
وفيها هزمت قوات الاحتلال المقدونية الجيش الذي قادة داريوش الثالث شخصياً.
لتصبح أول معركة ينهزم بها الفرس، حتى إن داريوش خلَّف وراءه أمه وابنه وزوجته.
قبل أن يُراسل الإسكندر واعداً إياه بالتنازل عن نصف مملكته ودفع فدية مُقابل الأسرى.
وذلك في سبيل إجراء معاهدة للتحالف بينهما، فما كان من الإسكندر إلا أن أجابه مُعلناً قراره بـرَد الأسرى دون مُقابل.
لكن مع تأكيد أنه الآن ملك آسيا بأكملها، ولا حاكم لها غيره.
وبدلاً عن ذلك أصرَّ ستون على تسليط الضوء على عيوب الإسكندر وإبراز نقاط ضعفه مثل الغرور، وجنون العظمة، وإفراطه في شُرب الخمر.
وهو ما لم تُشِر إليه الكتب التاريخية، بقدر ما أشادت بالإسكندر وصَوَّرته قائداً عظيماً وصاحب عقلية عسكرية، شُغله الشاغل توحيد العالم تحت رايته.
ميول الإسكندر الجنسية في الفيلم.. ليس عليها دليل
مفهوم التوجه الجنسي ليس أحد المفاهيم الشائعة التي شملها قاموس اليونانيين القدماء.
وبالتالي لم يكن لديهم أي فكرة عن كَون البشر عادةً ما ينجذبون إلى الجنس الآخر فقط.
ذلك لأنه ووفقاً لقناعتهم فإن مسألة اختيار شركائهم في الجنس تتعلق بالذوق، والمزاج لا غير.
هكذا، في ذلك الوقت لم يكن من العيب أن يمارس الرجال الجنس مع رجال آخرين أو أولاد مراهقين، بالإضافة لممارسته مع النساء أيضاً.
أي أن أي رجل يمكن أن يكون له زوجة أو محظية وصديق، وعلى ذلك تظل ميول الإسكندر المثلية التي تكررت الإشارة إليها في الفيلم لا دليل على صحتها.
نعم.. الإسكندر لم يكن "زير نساء"، ولكن..
فالإسكندر تزوَّج ثلاث مرات، منهن روكسانا التي ذُكرت بالفيلم، واثنتان أخريان كانتا لأسباب سياسية.
لكن ذلك لم يمنع الجميع من إدراك أنه لم يظهر رغبة قوية تجاه النساء، لا لأنه يشتهي الرجال ويُقيم علاقات جنسية معهم.
ولكن لأن شغفه الحقيقي كان بالمجد والشهرة وتخليد اسمه في صفحات التاريخ.
وهو ما يَنفي بدوره العلاقة العاطفية التي جمعت بين الإسكندر وصديقه هيفايستن وأوحى بها الفيلم، خاصةً أنها لم تُذكر في الكتب.
فكل ما دَوِّن كان أن الإسكندر قام بتزيين قبر أخيل، في حين أن هيفايستن زَيَّن قبر باتروكلوس، وهو ما أشير إليه كتابةً بلفظ مُتحابين.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن كلمة "مُتحابين" في اليونانية لا تعني: عاشقين كما في اللغة الإنكليزية.
وبالتالي ما مِن دليل يؤكد المثلية الجنسية التي استنتجها المُخرج وقَدَّمها على الشاشة.
وإن كان ذلك لا ينفي وجود شائعات حول سلوك الإسكندر الجنسي، فيما يتعلق بعلاقته مع باغواس.
وهو مَخصي فارسي، قيل عنه إنه امتلك جمالاً استثنائياً، وإن كان لا يوجد إثبات فِعلي يؤكد تلك الشائعات.
أوليمبياس والدة الإسكندر الأكبر لم تَكن ترتدي ملابس مكشوفة
أنجلينا جولي جسدت دور الأم أوليمبياس
وفقاً لما هو معروف فإن النساء في الفترة الزمنية التي شهدتها الأحداث لم يكنَّ يرتدين ملابس مثيرة، مثل التي ارتدتها أنجلينا جولي أثناء تجسيدها شخصية أم الإسكندر الأكبر.
الأمر نفسه جانبه الصواب فيما يتعلَّق بالتفاف الثعابين حول ساقيها مُعظم الوقت، أو حتى مُجرد فكرة أن تكون شفاهها مُمتلئة بهذا الشكل.
أما فيما يخص تجولها بأريحية في الأنحاء، بينما تسخر من الملك وتتفاخر بعلاقتها الجنسية مع الإله زيوس.
وأن يكون لها مثل تلك السطوة، فلم يكن وارداً كذلك وفقاً للمصادر التي قارنت بين ما جاء بالفيلم وما جرى في الحقيقية.
الأمر الذي دفع بعض المؤرخين والنقاد للاعتقاد أن تلك التفاصيل أُضيفت لا لشيء سوى زيادة حجم دور أنجلينا جولي، والاستفادة من إمكاناتها الأنثوية.
مُغالطات تاريخية أخرى
من المُغالطات التاريخية الأخرى التي ظهرت في الفيلم: كان تجسيد كلايتوس وداريوش الثالث -آخر ملوك بلاد فارس- في سن صغيرة.
إذ إنهما في واقع الأمر كانا في الأربعينيات والخمسينيات من عمرهما.
فيلم Alexander.. لم يفشل تاريخياً فقط بل وفنياً أيضاً
بالرغم من أن تلك النوعية من الأفلام عادة ما تحصد أرباحاً مهولةً، وتربعت على عرش الجوائز، إلا أن هذا الفيلم تحديداً لاقى ما يمكن اعتباره فشلاً كبيراً.
فمن جهة؛ جاء تقييمه الجماهيري سيئاً سواء على موقع Rotten tomato أو IMDb، ومن جهة أخرى لم يترشَّح لأي جوائز كبيرة.
أما إيراداته فلم تتجاوز 167 مليون دولار (منها 34 مليوناً فقط في الولايات المتحدة الأميركية) وقد تكلّف إنتاجه إجمالي 155 مليون دولار.
ليصبح أحد أشهر الأفلام الأكثر خسارة في تاريخ السينما، بحسب ما ذكره موقع Filmsite.
ولعل السبب الأكبر في ذلك هو فَشل شركة التوزيع في توزيع الفيلم على نطاق واسع نتيجةً للانتقادات الهائلة التي تَعَرَّض لها العمل.
ليس فقط على المستوى التاريخي، بل وعلى المستوى الفني كذلك.
إذ وجده بعض النقاد أقرب للسرد الوثائقي منه إلى الدرامي، بجانب افتقار العمل إلى الجانب العاطفي، واكتشاف عدد لا بأس به من أخطاء التصوير الفَجَّة والبارزة.
والأسوأ طوله الشديد بمُقاربته الثلاث ساعات، الأمر الذي جعل الكثيرين يعزفون عن مُشاهدته، رغم أن مُخرجه أصدر فيما بعد نسختين أخريين، إلا أن الأخيرة منها زاد طولها وصولاً إلى 3 ساعات و34 دقيقة.