رغم تجميد الحكومة الفرنسية الزيادة في أسعار الوقود إلا أن عدم إلغائها بشكل نهائي، يجعل من الخطوة مجرد "مناورة" لربح الوقت، وامتصاصاً للحنق، ريثما يجري ترتيب البيت الداخلي واتخاذ القرار النهائي.
طرح يبدو أنه لن يخلص الوضع الراهن من ارتباكه وضبابيته في وقت يرجح فيه خبراء استمرار الاحتجاجات، ما يعني أن القرار الحكومي لن يشكل باب خروج من الأزمة، وإنما سيخلق فوهة قد تفتح الوضع على ذات السيناريوهات السوداء المحتملة.
والثلاثاء، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي، إدوار فيليب، تجميد زيادة الضرائب على الوقود، وعدم رفع أسعار الكهرباء والغاز الشتاء المقبل، وجميعها تدابير ضريبية كانت من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني المقبل.
الحكومة ترغب في تفتيت المحتجين
تلعب الحكومة على عامل الوقت، والذي غالباً ما ينجح في تفتيت الحركات الشعبية وتقليص حجمها عدداً وتأثيراً، ما يعبد الطريق لتمرير قرارات رغم معارضتها شعبياً، وهو الوتر نفسه الذي لعب عليه فيليب بإعلانه مشاورات وطنية حول الضرائب، من 15 ديسمبر/كانون أول الجاري حتى الأول من مارس/آذار المقبل.
الإعلام الفرنسي نقل عن جان إيف غاريك، وهو عضو بحركة "السترات الصفراء" بمدينة تولوز جنوب غربي البلاد، قوله إن حركته تطلب "تدابير قوية وواضحة"، معتبراً أن ما أعلنه فيليب "ليس سوى إجراءات هزيلة لربح الوقت".
وأعلن غاريك أنه ستكون هناك احتجاجات أخرى، وأن العديد من أعضاء الحركة سيتوجهون إلى باريس، لافتاً إلى أن استجابة الحكومة "لم تكن بمستوى تطلعات الفرنسيين".
الجمهوريون بدورهم لم يتأخروا في الرد على فيليب، حيث قال دانيال أباد، (برلماني معارض/ ليبرالي محافظ)، إن "الفرنسيين لا يريدون تعليقاً وإنما إلغاء للضرائب، ليس تعليقاً وإنما تغيير مسار".
وتابع، في كلمته بالجمعية الوطنية، الغرفة السفلى للبرلمان الفرنسي، أن فيليب "لم يفهم بعد حركة السترات الصفراء".
خاصة مع فشل ماكرون في كسب ثقة الناس
عماد الدين الحمروني، الباحث والمحاضر بالأكاديمية الجيوسياسية بباريس، رأى أن "التوجه النيوليبرالي للرئيس إيمانويل ماكرون، وعدم قدرته على التخاطب مع الطبقات الوسطى ودونها، أضعف ثقة الناس به".
وقال الحمروني، إن "تصاعد التململ ليس وليد الفترة الراهنة، وإنما استمر على امتداد أكثر من 15 عاماً، وهو ما أدى إلى سقوط الأحزاب التقليدية الحاكمة بفرنسا في الانتخابات الأخيرة".
ولفت الخبير إلى أنه "حتى وصول ماكرون إلى الحكم كان من إرهاصات أزمة الثقة بالطبقة السياسية، وظن الناس أن الشاب القادم من خارج الأحزاب سيعمل بطريقة مختلفة، غير أنه سرعان ما خيب الآمال بعد 18 شهراً في الحكم".
وبخصوص السيناريوهات المحتملة، رأى أن "الحركة الاجتماعية بفرنسا (السترات الصفراء التي تقود الاحتجاجات) يمكن أن تتحول إلى حركة عصيان مدني، بل إن تجميد الزيادات قد يشعل فتيل الغصب بشكل أكثر حدة".
وتوضيحاً للجزئية الأخيرة، اعتبر أن لا خيار حالياً أمام ماكرون سوى الرضوخ لمطالب السترات الصفراء، لأنه عكس ذلك، سيجد نفسه بمواجهة "ثورة" رقمية يمكن أن تعادل قوتها عشرات الأحزاب، ما يمكن أن يحول المعركة من مجرد مواجهات مع حركة شعبية إلى حرب دامية مع حركة وقوة سياسية وإن كانت غير منتظمة.
سيناريو مماثل "قد يقود بدوره إلى خيارات صعبة قد تجبره على إقالة رئيس وزرائه، وقد يتطور الأمر لأسوأ من ذلك"، دون توضيح.
لكن، وبما أن رضوخ ماكرون لمطالب "السترات الصفراء" سيحسب عليه ضعفاً سياسياً وتراجعاً، وهو الذي أعلن حاسماً، في بداية الاحتجاجات، بأنه لن يتراجع عن الزيادة المعلنة بأسعار الوقود، فإن هذا ما جعل قرار فيليب مرتبكاً غير قادر على حسم الأزمة بالقبول أو الرفض.
لكن الأسوأ بالنسبة لماكرون هو أن هذا "الضعف السياسي" سيكون بمثابة الصفعة التي ستسعد اليمين واليسار، وسيخلق شرخاً واسعاً في صفوف حزبه "الجمهورية إلى الأمام"، كما أنه سيفتح الأبواب على مصراعيها أمام مطالبات اجتماعية لن تخفت ولن تهدأ قبل تحقيق مطالبها، مسترشدة بتجربة "السترات الصفراء".
وخلص الخبير إلى أن ما يحدث الآن في فرنسا هو "مواجهة دامية بين نظام تتحكم فيه قوى ليبرالية بنكية ومالية، وبين الشعب"، ما يفتح الوضع بالبلاد على سيناريوهات متعددة لكن الأرجح أنها ستكون أكثر سوءاً مما يتوقع ماكرون.
محاولات لترهيب الحكومة
نورالدين الشافعي، مدير المركز الإسلامي والمسجد الكبير بمدينة "سيرجي" بضواحي باريس، رأى من جانبه، أن "جميع عمليات التخريب التي رافقت الاحتجاجات، ترمي لترهيب" الحكومة.
والسبت الماضي، رافقت الاحتجاجات أعمال شغب، تخللتها عمليات نهب وتخريب طالت حتى "قوس النصر" بشارع "الشانزليزيه" يقلب باريس، ما أسفر عن أضرار بالمعلم التاريخي بكلفة تصل إلى مليون يورو، وفق مصدر رسمي.
غير أن الأمر "المفاجئ" بالنسبة للشافعي، يكمن في "التقاء متطرفي اليمين باليسار تحت يافطة السترات الصفراء"، معتبراً أن "هدفهم واحد يكمن بإحداث زلزال سياسي يريدون من خلاله العصف بحكم ماكرون".
"مزيج غير متجانس".. قال الشافعي،، "لن تكبحه تدابير مؤقتة لربح الوقت، ما يعني أن الأمور قد تسوء، وقد تتجدد الاحتجاجات بشكل أكثر حدة هذه المرة".
واعتبر أن ما "قام به ماكرون (تجميد الزيادات) يختزله المثل الفرنسي 'زاد القليل من الماء إلى نبيذه'، من خلال تليين قراره حتى يحفظ ماء وجهه، وهو ما ستكون له عواقب وخيمة، لأن الفرنسيين سيعتبرون ذلك مناورة".
حين اختار الفرنسيون، قبل أكثر من عام ونصف العام، ماكرون رئيساً لهم، أرادوا بذلك القطع مع نمطية اليمين واليسار المتعاقبين على الحكم، وأملاً بنموذج يجدد دماء الاقتصاد.
غير أن 18 شهراً من العمل السياسي، لم تلب تطلعات الفرنسيين، ولم تخفض معدل البطالة إلى 7 بالمائة التي وعد بها ماكرون بحملته الانتخابية.
كما لم تجسّد بقية البنود التي ضجت بها خطاباته، فكانت الزيادة بأسعار الوقود القشة التي قصمت ظهر البعير، وفجرت احتجاجات توسع نطاق مطالبها من التنديد بالنظام الضريبي، إلى تراجع المقدرة الشرائية.
ووفق الحمروني، فإنه "لا باب خروج من الأزمة يرتسم حتى الآن في الأفق، رغم ما أعلنه فيليب، ربما لعدم امتلاك ماكرون حزباً شعبياً متجذراً، وهو الذي فاز لأن الناس ترفض الآخر، ولم يأت لاقتناعهم به".
كما أن "الوصفات النيوليبرالية التي يطبقها الرئيس لا يمكن أن تؤتي ثمارها في بلد مثل فرنسا تعوّد على الرعاية الاجتماعية".
أما الشافعي، فختم بالقول إن "ابن الطبقات الفقيرة والمتوسطة لن يمكنه استيعاب الهدف من إلغاء الضريبة التصاعدية على الأغنياء، فيما يتم فرض ضرائب على آخرين دون التفكير حتى في رفع الحد الأدنى للأجور".