يشبّه البعض حال الميليشيات بالعاصمة الليبية طرابلس بعد سقوط القذافي، بشيكاغو في زمن رجل العصابات الشهير آل كابوني، ولكنه تشبيه خاطئ، فالواقع أن الوضع في طرابلس يبدو أسوأ بكثير.
فآل كابوني لم تكن لديه الفرصة لاستخدام المدفعية الثقيلة مطلقاً، مثلما تفعل الميليشيات في طرابلس، حسب وصف تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
تقول كاتبة التقرير فرانشيسكا مانوكتشي، إن القيادة في الضاحية الجنوبية لطرابلس تجبرك على خوض تجربة مرعبة عبر المرور بالدمار الذي خلفته المعركة الأخيرة بين الميليشيات في أطلال الحرب الأهلية بليبيا.
ثمة منازل مهدَّمة وشوارع تكسوها الأنقاض، خلفتها نيران الدبابات والصواريخ في أثناء القتال الذي دار في سبتمبر/أيلول 2018.
والأسوأ محاولة مقابلة المعارضين للحكومة الليبية
مقابلة المعارضين للحكومة الليبية لم تعد مسألة سهلة هذه الأيام.
إذ تقول فرانشيسكا: "فهذا يعني أن أهرُب من الحارس المُكلف حراستي في أحد فنادق طرابلس، وأخرج من الفندق إلى الشارع ومنه إلى سيارة تنتظر متخفية عند أول الشارع.
ومن هناك، ستبدأ رحلة قيادة طويلة ملتوية في الشوارع الخلفية من المدينة، يلجأ فيها السائق إلى الطرق المختصرة والانعطافات المفاجئة ليضلل من يتتبعه.
فها هو الاستبداد يعود إلى ليبيا، ولكنه لم يعد يوجد قذافي واحد فقط.
بعد 7 سنوات من خلع معمر القذافي وقتله في ثورة الربيع العربي، عادت ليبيا سيرتها الأولى من الديكتاتورية إلى الثورة فالديمقراطية ثم الفوضى ثم العودة إلى نوع جديد من الاستبداد.
غير أن هذه المرة لا يوجد ديكتاتور واحد، بل عشرات، على هيئة الميليشيات نفسها التي هزمت الديكتاتور الأول.
وعاد أيضاً المنشقون إلى الظهور، وبعد عدة أيام من المكالمات السرية تمكنت من مقابلة أحد أبرزهم وهو المحامي حميد المهدي.
وعندما تحاول الوصول إلى القوات الحكومية تكتشف أنه لا فرق بينها وبين العصابات
قيادة السيارة في هذه المدينة تشبه أن تشق طريقك وسط ضباب سياسي، تحاول فيه معرفة من ينتمي إلى العصابات من بين هؤلاء الرعاع المسلحين ذوي الزي الموحد وسيارات النقل الصغيرة المعطلة، ومن يشكل جزءاً من قوات الأمن الرسمية التابعة للحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة.
بعد فترة ستدرك أن لا فرق بين الطرفين. ترتدي إحدى الوحدات ملابس زرقاء جديدة وأنيقة من وزارة الداخلية، ولكنّ هذا لا ينزع عنها صفة الميليشيا، نفس العنف والتهديد الذي كان موجوداً من قبل.
الآن زادت التوترات بعد أن ألقى الخصوم بجثة أحد القادة العسكريين أمام أحد مستشفيات المدينة في آخر عمليات الثأر.
فزعماء الميليشيات ورثوا القذافي
تقول الكاتبة: "أخذت موعداً للقاء المهدي في منزله الذي أعاد بناءه بعدما أحرقه زبانية القذافي؛ عقاباً له على معارضته".
الآن أعاد المهدي تقديم نفسه باعتباره منشقاً، معارضاً للوضع الاستبدادي الجديد الذي يصفه بجملة "بلد الحرابي".
قابلته بعد صلاة الجمعة مباشرة وكان يرتدي جلباباً أبيض أنيقاً، وقدم لي كوباً من الشاي به الكثير من السكر.
وقال: "نحن قتلنا القذافي، ولكن وُلد من رماد جثته الكثير من الطواغيت الصغار، وهم زعماء الميليشيات".
إنهم سادة طرابلس بعد سقوط القذافي.
نعم، حكمه كان وحشياً، لكن كان هناك أمل.. فهل الثورة كانت على خطأ؟!
في دولة أخرى -أو ربما بزمان آخر- كان يجب أن تكون هناك لافتة زرقاء على الحائط الخارجي لبيت المهدي، للإشارة إلى الأهمية التاريخية لهذا المكان الذي تقابل فيه معارضو القذافي، وخاطروا بكل شيء ليحلموا حلم الحرية.
جلسنا في الغرفة التي كان يتحدث فيها النشطاء ويخططون في عهد القذافي.
قال المهدي مبتسماً: "هذه الغرفة كان اسمها غرفة المتظاهرين". ثم أضاف: "هذا المكان من المنزل هو الأقرب لقلبي".
كان نظام القذافي وحشياً، وتعرض المهدي للضرب والسجن. ولكن حتى في السجن كان لديه أمل بأن ليبيا ستصبح حرة يوماً ما، هذا الأمل الذي يموت الآن.
وقال: "لَم نطالب بتعذيب الديكتاتور وإذلاله، وإلا أصبحنا مثله. إلى أين ذهبت بنا إراقة الدماء؟ إلى جحيم يومي". ثم خفض عينيه وقال: "أعتقد أن الثورة كانت خطأ".
وهذا ما فعلته حكومة الوفاق الوطني مع هذه الميليشيات
وأعلنت الأمم المتحدة منذ 3 سنوات، أن جحيم فوضى الميليشيات الذي اندلع في طرابلس بعد سقوط القذافي سوف ينتهي بتشكيل حكومة الوفاق الوطني التي جاءت إلى المدينة لتخلصها من العصابات.
ولكن بدلاً من القضاء على الميليشيات، أصبحت الحكومة مدينة لها بالفضل.
أصبح قادة الحرب في طرابلس مدرجين في قوائم رواتب الدولة، عن طريق اتباع الأسلوب البسيط وهو تهديد المصرفيين بالخطف أو بما هو أسوأ من ذلك على يد المسلحين.
وأدت ضغوط مشابهة إلى أن تسلم الحكومة كل ملفاتها الاستخباراتية وملفات المراقبة إلى ميليشيا إسلامية.
وهم يقاتلون حفتر.. في حين يقف المواطنون بطوابير المصارف!
حتى في ظل تقاتُل الميليشيات فيما بينها في العاصمة، فإنها تقاتل أيضاً جيش المشير المؤمن بالقومية خليفة حفتر، الذي يحكم سيطرته في أقصى شرقي البلاد.
وفي الوقت نفسه يعاني المواطنون نقص البنزين والكهرباء والمياه والأموال.
المشكلة أن ليبيا بلد غني، به احتياطي نقد أجنبي يقدَّر بـ50 مليار جنيه إسترليني (نحو 64 مليار دولار) وإنتاج مزدهر للبترول.
ولكن، لا يُسمح إلا لعدد محدود من البنوك، التي تسيطر عليها الميليشيات، بصرف الأموال نقداً. ويقف المواطنون في طوابير يصل طولها إلى كيلومترات للحصول عليها.
والحكومة المعترف بها دولياً لها وجهان
تشير الكاتبة إلى أنه لم ينتخب أحدٌ هذه الحكومة التي عيَّنتها لجنة برئاسة الأمم المتحدة.
وتلك الحكومة لها وجهان للعالم، حسب قولها.
واحد من أجل الدبلوماسيين الغربيين الزائرين، الذين يزورون المدينة من حين لآخر ليلتقطوا الصور مبتسمين مع رئيس الوزراء.
والوجه الآخر من أجل الليبيين أنفسهم، وهذا الوجه ليس جميلاً، حسب وصفها.
في طرابلس بعد سقوط القذافي ممنوع الكلام لهؤلاء إلا بتصريح
في عهد القذافي كان الصحافي الزائر يحتاج إلى تصريح لمجرد الخروج من الفندق.
الآن في طرابلس بعد سقوط القذافي، فرانشيسكا مانوكتشي بحاجة إلى تصريحين للعمل: واحدٌ من الحكومة والآخر من العصابة التي تسيطر على المنطقة التي تخطط لزيارتها أياً كانت.
يقول إسماعيل، الحارس الذي عينته الحكومة لمراقبتها: "لا تلتقطي الصور للطوابير الواقفة أمام البنوك. لا تجري حوارات مع الناس هناك".
الأوامر التي تلقاها هي أن يتبعها في كل مكان، ويمسك بمجموعة من التصاريح والأذونات.
وتعلق قائلة: "في هذا مسحة من الفكاهة. فأنا أستطيع شراء القهوة من المقاهي المنتشرة هناك في كل مكان، ولكن لا يمكنني التحدث مع الزبائن فأنا ليس لدي أي تصريح بهذا!".
وهؤلاء الفتية الذين تجاوزوا مرحلة الطفولة هم الذين يتحكمون في المدينة!
تقول الكاتبة: "ولا أستطيع حتى الكلام مع الفتية الواقفين بالخارج الذين يشبهون قُطاع الطرق، وبالكاد تجاوزوا مرحلة الطفولة.
ويرتدون ملابس بعلامات تجارية غالية، ويلعبون برشاشات آلية، ويتحلّقون حول سيارتهم المرسيدس السوداء.
إنهم يعلمون أنهم هم القوة الحقيقية في المدينة، والجميع يعرف ذلك أيضاً.
عندما سألت إسماعيل بخيبة أمل عن ماهية التقارير التي يمكنني أن أصنعها دون السماح لي بالحديث مع أي أحد، ردَّ قائلاً: لا أعلم، ربما لا شيء.
يمكنك انتقاد أي أحد إلا الميليشيات والملتحين
يوجد منشق آخر -يدعى إبراهيم- يعمل مذيعاً إذاعياً، شكَّل جماعة ممن لهم ميول مشتركة، اسمها لجنة الأزمة. تعقد هذه الجماعة لقاءات جدية للمناقشة حول الطريق الذي أمامهم، وهذا عمل نبيل أو عقيم حسب الطريقة التي تنظر بها إلى الأشياء.
أخبرني إبراهيم بأن رقابة القذافي الإعلامية الخبيثة المشؤومة قد عادت: يمكننا انتقاد الحكومة أو الأمم المتحدة، أو حفتر، ولكن هناك شيئان من الأفضل ألا نتحدث عنهما: الميليشيات، والملتحين (من الإسلاميين)".
أُحرقت العديد من محطات التلفزيون، لأنها لم تفهم هذه التعليمات، وتبث الآن من الخارج نحو 10 محطات أخرى؛ حفاظاً على سلامة العاملين فيها.
إذ يبدو أن ليبيا لم تستطع التعامل مع الحرية
كل هذا يدفع إبراهيم للتفكير في أن ليبيا لا تستطيع التعامل مع الحرية، إذ يقول: "لم نكن مستعدين للثورة".
وأضاف: "لم يكن لدينا وسائل التعامل مع الحرية. كنا مثل طفل ألحَّ في طلب دمية ثم نالها بعد وقت طويل أخيراً. لكن الدمية تفككت ولم نعرف ماذا نفعل بالقطع".
ما زال نظام طرابلس يديره الأشخاص أنفسهم الذين كانوا يديرونه تحت حكم القذافي تقريباً، والكثير منهم مبتهج بعودة الطرق القديمة.
قال أحد المسؤولين الإعلاميين متفاخراً: "جميعنا خُضرٌ هنا في المكتب"، مشيراً إلى عَلم الديكتاتور الأخضر. وأضاف: "نعلم كيف نتعامل مع الصحافيين. كلهم جواسيس".
والذين يراقبون الفساد فاسدون!
ثم نأتي لمسألة الفساد. تحت حكم القذافي كان الفساد منتشراً، ولكنه كان مركزياً.
الآن الفساد فوضوي، حسب وصف الكاتبة.
قال لها محمد، الذي يعمل في الفترة المسائية بالفندق الذي كنت فيه، إن طرابلس يوجد بها فساد على جميع المستويات، ولكنه لم يعد يتكبد عناء التبليغ عن هذا.
إذ يقول: "هؤلاء الذين يجب عليّ إبلاغهم عن الفساد، هم أيضاً فاسدون، إن لم يكونوا أشد فساداً".
حمل محمد سلاحاً في الثورة وشارك المتمردين، ولكنه يقول إنها كانت خطأً: "لو كان بإمكاني، لمسحت هذه الأيام من ذاكرتي. أعرف أن القذافي كان ديكتاتوراً، ولكننا لم نكن جاهزين للديمقراطية".
وفي ظل هذا الوضع.. كيف ينظر الناس إلى محاولات حفتر السيطرة على الحكم؟
المستفيد الخفي من حالة طرابلس بعد سقوط القذافي هذه، هو خليفة حفتر، الذي بُنيت قواته من القوات المسلحة النظامية.
كان حفتر حليفاً سابقاً للقذافي، ثم انقلب عليه، يتهم حفتر الحكومة الجديدة بأنّها تقع تحت سطوة الإسلاميين، وتعهد بالسير إلى طرابلس والقضاء على الميليشيات.
يدعمه الكثيرون على الرغم من مخاوفهم من أنه يريد حكماً عسكرياً.
وكشف استطلاع رأي نادر، تجريه منظمة تابعة لحكومة الولايات المتحدة، أن جيش حفتر هو المؤسسة الليبية الأكثر شعبية، إذ يتفوق دعمها الذي بلغ نسبته 68% على دعم الحكومة الذي بلغ 15%.
ويقول محمد مبرراً هذا التعاطف: "الآن كلنا مستسلمون، وفي حالة الاستسلام هذه يفكر الكثير منا، بكل الألم في قلوبنا، بأنه من الأفضل أن يحكمنا حفتر. من الأفضل أن يعود الحكم إلى يد رجل قويّ".