يؤمن المسلمون بأن دينهم الإسلام ليس عبادات روحية فقط، وإنما هو منهج حياتي، وأن نبي الإسلام محمد بن عبد الله – عليه السلام – قائد سياسي أنتجت سياسته دولة الإسلام –باختلاف مسمياتها- التي حكمت معظم أجزاء العالم القديم لأكثر من ألف عامٍ. ومع بدء عصر الصناعة وانطلاق العالم الحديث، ونشوء الديمقراطيات في العالم الغربي، بدا للبعض أن الديمقراطية مضاد للإسلام، بينما تشير سنة رسول الإسلام وخلفائه إلى ممارستهم لكثير من الديمقراطية في حياته، فهل كانت دولة الرسول محمد مُؤسسة على نظام ديمقراطي؟
آمن الرسول بالمواطنة، وهو ما يوضحه بشكل جلي "صحيفة المدينة" أول دستور مدني في التاريخ، وهي الوثيقة الأولى التي تحقق المواطنة بغض النظر عن الدين والنسب والعرق واللون، وكان نص الصحيفة أن محمداً وصحبه من أنصار ومهاجرة ويهود بني عوف أمة واحدة، وهو عكس ما نراه اليوم من كون المسلمين يرون أنفسهم مواطنين أعلى مرتبة في بلادهم عن المواطنين من الأديان الأخرى، وهم كذلك في رؤية الوافدين "المهاجرين" إلى بلادهم بأنهم أقل درجة، بينما لا تنتهج الدول الدينية في المنطقة الإسلامية اليوم تلك المواطنة التي آمن بها الرسول، فالسعودية وإيران رغم اتخاذهما للدين شعاراً في بناء دولتيهما، لكننا نجد العنصرية بشكل فج ضد غيرهم في الدين، بل عنصرية عمن سواهما في الطائفة الدينية، في حين لا نجد مثقال ذرة من مواطنة عند الجماعات الجهادية التي سمت نفسها بدولة الإسلام.
اعتنق محمد بن عبد الله الدين الإنساني السليم، الذي يرى في خصومه شرفاً وعزة، وفي غيره مكانة وقيمة، احترم رأي غيره قبل أن ينادي بأن يحترم الآخر رأيه، وفى بالعهود والاتفاقيات حتى وإن كانت تجعله ينتصر لأتباع دينٍ آخر، فنجد أن اتفاقية "صلح الحديبية" بينه وبين قريش، تنص على أن من شاء الدخول في حلف محمد فليدخل، فدخل في حلفه قبائل عربية وثنية وأخرى مسيحية ويهودية، فحافظ على تلك المواثيق، محترماً إياها، حتى إن تلك المواثيق جعلته يدخل مكة نصرةً لقبيلة وثنية تعبد الأصنام آنذاك "خزاعة"، كأنه يريد أن يقول لمن بعده لم آتِ لمن اتبعني فقط، ولم أنشئ دولة دينية، إنما رسالتي دولة مدنية يحترم فيها الإنسان ويؤمّن على نفسه وماله وعقيدته.
علم النبي الأمي من رب العزة أن دولته ستصل إلى أن تحكم العالم القديم، فبشر بفتح مُلك كسرى والشام ومصر وغيرها، ولكنه رغم هذا وعلمه أن دولة كتلك ستحتاج بالطبع حاكماً لها، أبى تنصيب أحد أصحابه حاكماً لدولة الإسلام، ولم يحدد أسماءً دون غيرها لخلافته، ولكنه جعل مستقبل حكم دولته يحدده مواطنو هذه الدولة دون غيرهم، لا فرق بين عالمهم وجاهلهم في اختيار من يرضيهم للحكم، ولكنه فقط أخبرهم أن الله يقول "وأمرهم شورى بينهم" غير محدد شكل تلك الشورى، متيقناً أنه تارك وراءه أمة راشدة يعي جميع مواطنيها أن كلاً منهم راعٍ ومسؤول عن رعيته، علمهم الديمقراطية وتركهم ليطبقوها.
ولأن الرسول لم يحدد شكل الديمقراطية، فقد طلب خليفته الأول أبوبكر الصديق، بعد حروب الردة التي خاضها نتيجة ارتداد بعض القبائل بعد موت النبي محمد، وبعد أن أقعده المرض عن مباشرة أمور الدولة، من رعاياه تنحيته وتوكيل الأمر لأحد منهم، ولكنهم رأوا أن يختار لهم فاختار عمر بن الخطاب، ويكأن أبوبكر الصديق أراد أن يضع بعض القواعد لشرعية الحكم في دولة الإسلام، وهي أن ينزل الحاكم عن حكمه حين عدم قدرته على الوفاء بالتزاماته، وشرعية هذا النزول واختيار آخر، عكس ما نراه من تشبث حكام بالملك وهم على فراش المرض منذ سنوات، بينما وضع عمر بن الخطاب ستة أسماء يُختار بينها، ليس من بينها أحد أبنائه، ومن يختار غير مواطني دولته؟ فكأن هذا التخيير نوع بدائي من أنواع الانتخابات التي نراها في عصرنا اليوم، ويحرمها أو يتلاعب بها دول ترفع رايات الإسلام، وكأن إبعاد ابنه يضع قانوناً يحرم التوريث.
عارض مواطنو الدولة الإسلامية الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وحاججوه وحاججهم ولبّى بعض رغباتهم ورفض الآخر، ورغم هذا لم يخرجهم عثمان من الإسلام، ولم يتحدث عن كونه من هو قرباً لنبيهم، بل إنه علم أنهم يطالبونه بصفته حاكماً وليس صاحباً للرسول وزوج ابنتيه، ولهذا طلب أن يخلو أهل المدينة بينه وبين معارضيه، بينما رفض علي بن أبي طالب أن يعين خليفة من بعده ولكنه رأى أن يدع مواطني الدولة يختارون من يرونه الأصلح، بينما تنازل ابنه وسبط الرسول الحسن عن الحكم لمعاوية بن أبي سفيان، باعثاً برسالته بأن الدولة ليست الحاكم فقط، وليس ضرورياً أن يكون الحاكم هو الأعلم دينياً أو عسكرياً، بل الأقدر على التعامل السياسي لخدمة مواطني الدولة.
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" هكذا قال نبي الإسلام، ليعلمنا أن الحكام من بعده سيضعون بعض اللبنات والقواعد التي توضح أن القيم الديمقراطية من مواطنة وحرية وغيرهما من منهج دولة الإسلام الراشدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.