لعلك لاحظت بكل تأكيد انجذاب روَّاد شبكات التواصل الاجتماعي، خلال الأيام القليلة الماضية، لأزمة دارت رحاها بين مغنِّيَي المهرجانات "حمو بيكا" و"مجدي شطة" .
بدأت القصة بإعلان "بيكا" عن إقامة حفل غنائي كبير في الإسكندرية، برفقة عدد من المغنين، ومن ضمنهم مجدي شطة، الذي سارع لنفي مشاركته في الحفل، لتبدأ بعدها سلسلة من التصريحات الهجومية بين الجانبين.
مجدي شطة أكد لـ "جمهوره" أكثر من مرة أنه لن يحضر الحفل المزعوم، وذهب إلى أن "بيكا" يمارس خديعة ضده، فقد ادعى أنه سيحضر الحفل حتى يضلل جمهوره، كي يضمن عدداً أكبر من الحضور في حفله.
وبطبيعة الحال، فقد انتقلت القصة من شبكات التواصل الاجتماعي إلى شاشات التلفزيون، وأفسح لها بعض الإعلاميين مساحة كبيرة، فقد تناولها برنامج واحد ثلاث مرات في ثلاث حلقات مختلفة.
الجمهور أصل الأزمة ومحركها
إن أزمة حمو بيكا ومجدي شطة يمكن النظر إليها على أنها حكاية من حكايات "تلفزيون الواقع"، لكنها ذات لحم ودم حقيقيين، لأنها غير مرتبة أو موجهة.
لنقرأ هذا النص المأخوذ من فيلم "ترومان شو":
"لقد أصابنا السأم ونحن نشاهد الممثلين وهم يقدمون لنا مشاعر زائفة، وأصابنا الملل من متابعة الألعاب النارية والمؤثرات الخاصة. وبينما العالم الذي يحيا فيه مزيف، فلا يوجد أي تزييف في ترومان نفسه، إنه حقيقي تماماً".
إن الجمهور في الفيلم كما ظهر وهو يتابع حياة ترومان بروبانك بشغف وتحمس لخطوته المقبلة، فإنه في الأزمة محل الحديث، ظهر أيضاً وهو يتابع أموراً حقيقية تماماً، مشاعر من هنا، وأخرى من هناك، رغبة من جانب "بيكا" في تأكيد التفوق، ورد من هناك ينفيه، وكل هذا ليس متاحاً تقديمه في أي مكان آخر.
لكن الجمهور في حقيقة الأمر كان لاعباً فاعلاً، فـ "شطة" في بداية الأمر تحرك لأنه شعر بمحاولة من "بيكا" لاختطاف "الفانز بتوعه"، وهو ما دفعه للتصريح: "الناس اللي رايحة حفلة حملة حمو بيكا لأجل مجدي شطة أنا مش رايح، حمو بيكا بيقول كده عشان يلم الفانز بتوع الناس".
ثم خرج بعدها للتصريح: "حذارِ الفانز بتوع مجدي شطة"، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن هذه الأزمة هي محض نزاع حقيقي ومعلن على الجمهور، بمعنى ما، على تأكيد الصدارة، ونيل حبهم.
لكن الجمهور لم يكتفِ بلعب دور "الكعكة" التي يتصارع عليها الاثنان، فكما كان أصل الأزمة أصبح محركاً كذلك لمسارها بطريقة ما، عن طريق إعلان تأييد واحد منهما على الآخر، لدفع الأزمة نحو الاستمرار، وبالتالي استمرار متعته، فمن دون هذا التدخل لم تكن هذه القصة لتكتمل وأن تأخذ بُعدها الإعلامي الضخم الذي بدت عليه، بعبارة أخرى: لم تكن لتحدث في شكلها الميدياتيكي الذي أخذته.
نلاحظ كذلك أن الجمهور تناول الأزمة من منطلق التسلية لسد وقت فراغه، أو حاجته للحديث، حتى تأتي تلك اللحظة التي يشعر فيها بالملل، فيتخطاها بحثاً عن أزمة أو حكاية أخرى أكثر واقعية مما يقدم في الصحف والقنوات التقليدية.
السوشيال ميديا وعصر ارتقاء التفاهة
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار إننا أصبحنا نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل، وفي سياق شبيه يختزل الفيلسوف اليوناني كورنيليوس كاستورياديس أزمة العالم الحديث في ارتقاء التفاهة!
فبكل تأكيد يمكننا أن نرى في أزمة حمو بيكا ومجدي شطة بعض المعلومات، لكن ما الذي قد تعنيه هذه المعلومات؟ وتحديداً ما الذي تعنيه للناس؟ إن المرء لا يمكنه حتى أن يعرف حقيقة ما الذي يدفعه حتى لمشاركة مقطع فيديو لواحد منهما، يرد فيه على الآخر، سوى لمواكبة التريند.
يشير "بودريار"، في معرض حديثه عما يمكن أن يسببه تغول وسائل الإعلام في حياة الناس، إلى فكرة اختفاء الواقع، ونشوء ما سماه بما فوق الواقع، وهي حالة لا يمكن بأي حال أن تمثل الواقع كما هو، بل هي اصطناع له، فهي صورة مولدة عن صور أخرى، لواقع اختفت فيه علاقة الدال بالمدلول، وباتت فيه المعاني الناتجة عنه ملتبسة.
وتطبيقاً لطرح "بودريار" على السوشيال ميديا، فإن المتأمل في هذه الوسائل يجد أنها قد انبثقت عن المجتمع ثم أخضعته لها، بعد أن تعدت وظيفتها الأساسية، فصارت لها الأولوية، وبات الواقع تابعاً لها، ومن ثم فهو يتحول نتيجة لذلك إلى ما فوق واقع جديد يظهر عبر شاشاتها.
ويوضح الفيلسوف إيريك فروم، في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر"، أن هوية الإنسان المعاصر تتلخص في القول: "أنا موجود بقدر ما أمتلك وأستهلك"، لكن في ظل العالم الإعلامي الذي نعيشه، فإن المرء لا يكتفي بامتلاك الشيء واستهلاكه، بل يذهب إلى الإعلان عنه، وهو ما عزَّزته شبكات التواصل الاجتماعي في عصرنا الراهن، فما فائدة أن تشتري "آيفون" دون أن تعلن عن ذلك عبر "فيسبوك"!
لهذا يمكن اعتبار التكريس الهائل لشبكات التواصل الاجتماعي في حياتنا المعاصرة هو تمثيل للفكرة القائلة إن "الوسيلة أصبحت هي الرسالة"، وزاد عليها أنها لم تعد فيها أخبار، فلقد صار المواطن نفسه هو الخبر، ومحور الحدث، وبكبسة زر يمكنه أن ينزع الطابع الخصوصي لحياته، لتكون مشاعاً للجميع.
أنا أونلاين.. إذن أنا موجود
تحويل الحياة إلى محتوى إعلامي، في صورة تلفزيون واقع ضخم، يمكن تصديره عبر شاشات الهواتف المحمولة من البيوت والمطابخ والشوارع والمقاهي وغرف المعيشة والنوم، وفي أشد حالات الخصوصية، أدى إلى اختفاء الواقع الحقيقي المعاش، وصعود الالتباس نتيجة تمجيد ما لا قيمة له.
فالالتباس الذي صنعته السوشيال ميديا هو الذي مكّن شابتين مصريتين معروفتين إعلامياً بـ "صفاء وعزة"، من اصطناع هويتين مزيفتين، بحجة إثبات قدرتهما على التمثيل، فتفاعل معهما الجمهور لأنه لم يكن متاحاً أمامه التمييز بين الزيف والحقيقة، أو الخيالي والواقعي.
فما تظهر عليه هذه الوسائل حالياً، أو عصرنا الإعلامي بصورة عامة، يفسره الفيلسوف الفرنسي جي ديبور عبر صياغة مفهوم "الاستعراض"، ويوضح من خلاله لماذا يجد المرء نفسه مدفوعاً لتصوير لحظة سعيدة أو مهمة، بدلاً من عيشها والاستمتاع بها قدر الإمكان، عبر قوله: "تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات، فكل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيل".
ويذهب "ديبور" إلى القول إن المرحلة الأولى لسيطرة الاقتصاد على الحياة الاجتماعية قد أدت إلى تدهور مفهوم الوجود لصالح مفهوم التملك، بينما أدت المرحلة الراهنة إلى انزلاق مفهوم التملك إلى مفهوم التبدي أو الظهور، وهو ما يؤكده ارتباط وجودنا ببقائنا أونلاين عبر السوشيال ميديا!
يقول جان بودريار: أنتم لا تشاهدون هذه الوسائل، بل هذه الوسائل هي التي تشاهدكم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.