بعد أكثر من 40 يوماً على مقتله بطريقة بشعة بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول، اعترفت المملكة العربية السعودية بقتل الصحافي جمال خاشقجي وتقطيع جثته داخل المقر الدبلوماسي، بعد 4 روايات سابقة وُصفت بـ "الهزلية".
لكن الرواية الأخيرة للنيابة العامة السعودية تشير إلى أن مقتل خاشقجي تم بعلم وأمر قائد الفريق في إسطنبول، وهو العقيد ماهر المطرب، الذي يبدو أنه سيكون المتهمَ الأولَ بهذه الجريمة، في الوقت الذي تحاول فيه المملكة إبعاد التهمة كلياً عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وبالعودة إلى بيان النيابة العامة السعودية الذي صدر الخميس 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ذكر أن خاشقجي حُقن "بجرعة كبيرة" من مادة مخدرة قبل تقطيع جثته داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، وطلبت إعدام 5 أشخاص على خلفية القضية، لكنها أبعدت الشبهات تماماً عن وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.
وبحسب بيان النائب العام السعودي، فإنه من بين 21 موقوفاً على ذمّة القضية، تم "توجيه التهم إلى 11 منهم، وإقامة الدعوى الجزائية بحقهم، وإحالة القضية للمحكمة، مع استمرار التحقيقات مع بقية الموقوفين، للوصول إلى حقيقة وضعهم وأدوارهم".
وطالبت النيابة العامة بـ "قتل مَن أمر وباشَرَ جريمة القتل منهم، وعددهم 5 أشخاص، وإيقاع العقوبات الشرعية المستحقة على البقية".
هذه الرواية رغم تقاربها مع الرواية شبه الرسمية لتركيا عن الجريمة، فإنها حاولت بكل الطرق إبعاد التهمة عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يرى الكثيرون أنه لا بد من أن له دوراً في هذه الواقعة.
حتى الآن، لم تكشف السعودية رسمياً عن أسماء الموقوفين على ذمة القضية. لكن، ما سرّبته تركيا عبر وسائل الإعلام منذ وقوع الجريمة، هم 18 شخصاً، على رأسهم ماهر المطرب قائد الفريق.
فمن هو هذا الرجل؟
قائد فريق الإغتيال ماهر المطرب
المتهم الأول في القضية الذي سيواجه عقوبة الإعدام، بحسب بيان النيابة، هو ماهر عبد العزيز المطرب، العقيد في الاستخبارات السعودية، الذي سبق أن عمل بالسفارة السعودية في لندن سنتين، وبعدها غادر.
المطرب، الذي وُلد عام 1971، عمل مع خاشقجي عندما كان الصحافي الراحل يعمل بالسفارة السعودية في لندن، وعلى معرفة خاصة به.
علاقته مع ولي العهد
عقب الكشف عن دور المطرب في قتل خاشقجي مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، قالت شبكة "بي بي سي" البريطانية إن ماهر المطرب، الضابط رفيع المستوى، مقرّب من الدائرة الداخلية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
تدريبه
وقال أحد المدربين الأوروبيين، لشبكة "بي بي سي"، بوصفه أحد أعضاء الفريق الذي درب المطرب على القرصنة التكنولوجية، إنه قُدِّم إليه بوصفه "عميلاً في الاستخبارات الأمنية".
وقال المدرب الذي لم يكشف عن هويته: "إن التدريب شمل عدة مواضيع، مثل إصابة أجهزة كمبيوتر الشخصيات المستهدَفة، بفيروسات لغرض التجسس، والحصول على معلومات عن تلك الشخصيات، وهذه المعلومات تشمل كل شيء عنها، من تحديد أماكنها، ومعرفة محادثاتها بالتنصت من خلال ميكروفون الجهاز نفسه، وكشف صورها وملفاتها وبريدها الإلكتروني وشبكة اتصالاتها، وكل شيء متعلق بها".
وأضاف المدرب أن "المطرب قضى أسبوعين عام 2011، يتلقى التدريب على استخدام التكنولوجيا التي توفرها شركته للحكومة السعودية، حتى تستطيع تنفيذ هجمات على الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بمواطنيها".
وكان موقع ويكيليكس قد نشر تغريدة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018، تضمنت بريداً إلكترونياً باسم المطرب و5 من المجموعة التي حضرت تدريباً في عام 2011، أجرته شركة إيطالية تحمل اسم Hacking Team.
وكان هذا البريد الإلكتروني جزءاً من بيانات نشرتها ويكيليكس في يوليو/تموز عام 2015.
وقالت Hacking Team إن تلك البيانات سُرقت من شبكتها الداخلية، وتتضمن محادثات لنشطاء وصحافيين جرى التجسس عليهم.
وشمل البريد الإلكتروني قائمة الدول التي باعتها الشركة أدواتها، ومنها مصر وروسيا والسعودية والسودان.
وتبيع الشركة برامج تجسس، بعضها له قدرات على شن هجمات إلكترونية.
وفي صيف عام 2018، حددت منظمة العفو الدولية وCitizenlab العديد من أصدقاء خاشقجي باعتبارهم ضحايا مراقبة باستخدام أدوات باعتها شركة NSO الإسرائيلية.
وقال المدرب، الذي تحدث لـ "بي بي سي عربي" عن تدريب المطرب، إن تلك الأدوات مماثلة لتلك التي دُرِّب ضابط الاستخبارات السعودي عليها.
وكشف تحقيق استقصائي لـ "بي بي سي عربي"، عام 2017، بالمشاركة مع مجلة Dagbladet Information الدنماركية، أن السعودية وقطر والإمارات وعُمان والمغرب والجزائر اشترت أجهزة مراقبة قوية من BAE Systems.
دوره في قتل خاشقجي
وبحسب مصدر سعودي تحدث لوكالة رويترز، كان العقيد ماهر المطرب، مساعد سعود القحطاني لأمن المعلومات، المفاوضَ الرئيسيَّ داخل القنصلية. وهو ضابط استخبارات كبير وأحد عناصر الفريق الأمني للأمير محمد. وقد ظهر مع الأمير في صور التُقطت خلال زيارات رسمية للولايات المتحدة وأوروبا هذا العام (2018).
وذكر المسؤول السعودي أن الاختيار وقع على المطرب لتنفيذ عملية إسطنبول، لأنه كان يعرف خاشقجي بالفعل، إذ عملا معاً بالسفارة السعودية في لندن.
وقال المسؤول إن المطرب كان يعرف خاشقجي جيداً، وكان أفضل من يمكن أن يقنعه بالعودة.
وأضاف أن المطرب استقبل خاشقجي في مكتب القنصل السعودي الساعة 1:25 ظهراً تقريباً، وبدأ يحثه على العودة إلى السعودية، وزعم أنه مطلوب لدى الشرطة الدولية (الإنتربول).
وتابع المسؤول قائلاً إن خاشقجي قال للمطرب إنه ينتهك الأعراف الدبلوماسية، وسأله إن كان يعتزم خطفه. وأضاف المسؤول أن المطرب ردَّ بالإيجاب؛ في محاولة -على ما يبدو- لتخويف خاشقجي.
وكانت صحيفة "صباح" التركية قد نشرت لقطات من كاميرات المراقبة، يبدو أنها للمطرب وهو يدخل إلى القنصلية قبل 3 ساعات من قدوم خاشقجي، وصوراً التُقطت له لاحقاً خارج مقر إقامة القنصل.
واختفى خاشقجي بعد دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول، بتاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، للحصول على أوراق رسمية لإتمام زواجه بخطيبته التركية. وكان خاشقجي مقيماً بالولايات المتحدة، حيث كتب مقالات رأي في صحيفة "واشنطن بوست"، انتقد فيها سياسات ولي العهد.
وكانت السلطات السعودية أكدت أولاً أن خاشقجي غادر قنصليتها في إسطنبول، لكنها اعترفت بعد ذلك بأنه قُتل في شجار، ثم تحدثت عن عملية نفَّذها "عناصر خارج إطار صلاحياتهم"، ولم تكن السلطات على علم بها.
وشكّكت دول كبرى في الروايات السعودية التي تبدّلت مراراً، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تقيم علاقات وطيدة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي أشارت صحف تركية إلى تورطه في الجريمة، وهو ما نفته الرياض بشدة.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أشار إلى أن الأمر بقتل خاشقجي صدر من "أعلى المستويات" في الحكومة السعودية، دون أن يشير بأصابع الاتهام مباشرة إلى ولي العهد النافذ.
بدورها، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن أحد أعضاء الفريق السعودي الذي نفَّذ العملية في القنصلية قال لشخص أعلى رتبة منه عبر الهاتف: "أبلغ سيّدك"، الذي دارت شبهات حول أنه قد يكون الأمير محمد بن سلمان، أن العملية تمت.