تعيش القيادات الأمنية في الجزائر حالةً من الاضطراب اقترنت بمجموعة من الإقالات والفضائح، فضلاً عن السجن. وأثارت عملية احتجاز وإخلاء سبيل مجموعة من الضباط الكبار و قادة الجيش في الجزائر جدالاً أكثر حدة من عملية التطهير الاستثنائية وغير المسبوقة، منذ الاستقلال عام 1962، التي تجري في صلب المؤسسة العسكرية.
ولكن حالة القلق التي صاحبت استراتيجية التعتيم الإعلامي، من جانب الجيش والقضاء، تجاوزت المجال الأمني.
وحسب مجلة Jeune Afrique الفرنسية، فقد أصيب السياسيون والرأي العام والدبلوماسيات الغربية بالحيرة، ودفعهم الأمر إلى طرح العديد من التساؤلات.
هل هؤلاء الجنرالات هم الضحايا لحالة الاقتتال الداخلي، حول خلافة عبدالعزيز بوتفليقة، الذي يناشده أتباعه الترشح لولاية خامسة، أم هل هي تصفية حسابات سياسية-عسكرية، أم عملية "أياد نظيفة" حقيقية لتحرير البلاد من سم الفساد الذي ينخرها؟
موجة إقالات تجتاح قادة الجيش في الجزائر
خلال يوم 14 سبتمبر/أيلول، كان اللواء سعيد باي مستلقياً على فراشه مريضاً في مستشفى في باريس، عندما تلقَّى رسالةً مختومة من زملائه في الجيش. وبعد قضائه يومين للعلاج من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، تلقَّى هذا اللواء الذي تعوّد على زيارة المستشفيات في فرنسا وبلجيكا رسالةً تخبره بضرورة العودة إلى الجزائر دون تأخير، وتعلمه بأنه لا يجب أن يكون في الوقت الحالي في باريس.
وعلى الرغم من قرار منعه من مغادرة البلاد، نجح سعيد باي في التسلل خارج الجزائر، بعد سوء فهم من قبل شرطة الحدود في مطار الجزائر العاصمة بشأن اسمه، ولكن مدة هروبه كانت قصيرة الأمد.
وفي الليلة ذاتها عاد سعيد باي إلى بلده، وأثناء وجوده على متن الطائرة، لم يكن هذا العسكري واثقاً من أنه سيجد حلاً لمشاكله. ولا يواجه سعيد باي وحده هذا الوضع الصعب، ففي غضون بضعة أشهر اجتاحت "موجة تسونامي" المؤسسة العسكرية والفروع الرئيسية لأجهزة الأمن.
في الأثناء، أقيل كل من اللواء الحبيب شنتوف، وسعيد شنقريحة، وعبدالرزاق شريف، من قادة الجيش في الجزائر ، وهم على التوالي رؤساء النواحي العسكرية الأولى والثالثة والرابعة، بالإضافة إلى قائد القوات البرية اللواء أحسن طافر. كما تمت تنحية قائد المديرية المركزية لأمن الجيش بالقوة، الجنرال محمد طيرش الملقب "بلخضر".
وخلال شهر مايو/أيار، دفع كل من الجنرال عبدالغني هامل، المدير العام للأمن الوطني، ومناد نوبة من رئاسة الدرك الوطني، ثمن غضب عبدالعزيز بوتفليقة باهظاً.
بعد ذلك وخلال شهر يوليو/تموز، جاء الدور على مدير المالية في وزارة الدفاع، اللواء بوجمعة بودواور، وزميله اللواء مقداد بن زيان، مدير الموارد البشرية بوزارة الدفاع، حيث أقيل كلاهما بعد شبهات في استفادتهما من أموال من قبل كمال شيخي، الملقب بكمال "البوشي"، مورد اللحوم الذي تورَّط في فضيحة اكتشاف 701 كلغ من الكوكايين داخل حاوياته في وهران يوم 29 مايو/أيار.
وهي الحملة التي أصابت الجميع بالذعر
أضحت الأجواء في الجيش الجزائري مشحونة بالكامل، فعند عودته اكتشف سعيد باي أن منزله قد فتش من قبل رجال الدرك، الأمر الذي حصل أيضاً بالنسبة لمقرّ إقامة كلٍّ من الحبيب شنتوف وعبدالرزاق شريف ومناد نوبة وبوجمعة بودواور، الذين صدر في حقهم أيضاً قرار بعدم مغادرة البلاد.
وبدأ الذعر ينتاب قادة الجيش في الجزائر ، سواء كانوا لا يزالون في مناصبهم أو من بين الذين تم فصلهم خلال هذا الصيف الساخن، في حين ينتظر عدد منهم قراراً يؤكد مخاوفهم.
يوم الأحد 14 أكتوبر/تشرين الأول، خضع العديد من الجنرالات لجلسة استماع امتدت لساعات أمام قاضي المحكمة العسكرية بالبليدة، وهم كل من سعيد باي، الحبيب شنتوف، عبدالرزاق شريف، ومناد نوبة، بوجمعة بودواور وعقيد في أمن الجيش لم يتم الكشف عن هويته، بعد أن تم احتجازهم مؤقتاً، ومن ثم توجيه تهم لهم.
ولم تصرّح لا وزارة الدفاع، ولا مكتب المدعي العام العسكري، ولا وزارة العدل بكلمة واحدة. وتتم محاكمة الجنرالات الستة في قضايا متعلقة بممتلكاتهم غير المشروعة، وسوء استخدام السلطة والثراء غير المشروع، وطالت التحقيقات أيضاً أقارب المتهمين، خاصة أبناءهم.
لكن ما سبب إخلاء سبيل قيادات في الجيش الجزائري
شهد يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني، تغييراً تاماً في مجريات الأحداث، حيث أخلي سبيل المعتقلين مؤقتاً، وتم وضعهم تحت الرقابة القضائية في انتظار استكمال التحقيق. وشكل إخلاء سبيل 5 من قادة الجيش في الجزائر سابقا، مفاجأة أثارت عدة تكهنات، خاصة أن العديد من العناوين الصحفية تزعم أن عملية الإفراج عنهم جاءت بناء على أوامر صادرة عن رئاسة الجمهورية.
من الصعب تصديق هذه الفرضية، باعتبارها مخالفة لقانون القضاء العسكري والمادة 156 من الدستور، التي تنصّ على أن رئيس الدولة هو "الضامن لاستقلال القضاء". ولكن في حال تدخل هيئة عليا، فهي ستكون في الواقع غرفة الاتهام في المحكمة العسكرية بالبليدة، التي قرَّرت الإفراج عنهم، بعد دعوة الضباط إلى إخلاء سبيلهم.
وتعبيراً عن صدمته لقضائه بعض الوقت في السجن، ذكر شخص مقرب من سعيد باي، أن "جلسات الاستماع كانت صعبة وقاسية ومجهدة". وأشار ضابط سابق في المخابرات، تابع عن كثب مسيرة بعض هؤلاء الجنرالات: "لم أتوقع أبداً أنهم سيكونون خلف القضبان في يوم من الأيام. ما زلنا لم نقيم بعد مدى تأثير هذا الزلزال داخل الجيش".
ففي وقت ليس ببعيد، كان هؤلاء الضباط يتمتعون بسلطة مطلقة تقريباً على المجالات التي تديرها أو المهام التي كلفت بها. وفي غضون بضعة أسابيع، انهاروا بعد الشرف الذي منح لهم بفضل هذه الرتب العسكرية المرموقة.
وهل يأتي الدور على رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح؟
في 26 من يونيو/حزيران، عشية إقالته، أدلى الجنرال عبدالغني هامل بتصريح، يحمل في طياته العديد من المعاني، حيث قال: "كل من يريد محاربة الفساد يجب أن يكون أولاً نظيفاً"، وكأنه يشير لأحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، الذي تكفَّلت أجهزة تابعة له بالتحقيق في قضية كمال شيخي.
ويبدو أن قايد صالح قد فهم الرسالة جيداً، حيث كان أول من تمت التضحية بهم أشخاص مقربون من رئيس الأركان، تحديداً من بين الذين تربطه بهم علاقة صداقة قوية. وصرَّح وزير سابق أنه "عندما علِم قايد صالح بالتحقيق بشأن الثروة المزعومة لصديقه عبدالرزاق شريف، لم يستطع النوم طيلة ثلاثة أيام".
وأكد أحد أقاربه، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، أن قايد صالح قد حذّر الجنرال شريف من النية السيئة لبعض الأطراف المحيطة به في مناسبات عديدة. كما سبق لسعيد باي، المقرب من رئيس الأركان (الذي يُناديه بعمي صالح) وأحد قادة الجيش في الجزائر ، أن حذّره هو الآخر من الأمر ذاته.
وقد أفاد ضابط احتياط أن "أغلب الجنرالات الموجودين في السجن هم من أتباع قايد صالح. ويهدف توجيه الاتهام إليهم إلى إضعافه وتشويه سمعته. لا شيء يضمن بقاءه على رأس المؤسسة العسكرية".
أم أن من يقود الحملة يتبع سياسة الكيل بمكيالين؟
قال أحد المنتمين إلى المجال العسكري إن "الرأي العام يعتبر اقتصار التتبعات العدلية في قادة الجيش في الجزائر على هؤلاء الجنرالات الخمسة أمراً غير منصف، ويعكس قدراً من التحيز. فلماذا وُجهت أصابع الاتهام لهم تحديداً وليس لغيرهم؟
ففي الواقع، يعلم الجميع أن جنرالات آخرين وأبناءهم قد جمعوا ثروات طائلة في ظل حصانة تامة، نذكر من بينهم قايد صالح، الذي يُقال إنه "قد حقَّق هو الآخر ثروة هامة رفقة أولاده، الذين يسيطرون على عنابة في شرقي البلاد".
بالفعل، راجت شائعات في الجزائر العاصمة، مفادها أن رئيس الأركان سيلقى نفس مصير الجنرال محمد مدين (المعروف باسم الجنرال توفيق)، الذي أقيل من منصبه، في شهر سبتمبر/أيلول 2015، بعد 25 عاماً قضاها على رأس المخابرات.
وجاء ذلك على خلفية مزاعم بمعارضته لولاية رئاسية رابعة لبوتفليقة. ومع ذلك، يبدو أن مواجهة المصير ذاته لا يُثير قلق قايد صالح، خاصة أنه يبدو هادئاً وواثقاً، وفقاً لما أفاد به بعض أقاربه.
خاصة أن قائد الأركان أكد على "ولائه" لمؤسسة الرئاسة
أشار مصدر رفيع المستوى إلى أنه "في الوقت الذي يزج فيه بجنرالات في السجن، لم تتم محاسبة الوزير السابق شكيب خليل، رغم إدانته من قبل أحد قضاة الجزائر العاصمة، ولا الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، الذي وجهت إليه اتهامات بشأن تورطه في فضيحة اختلاس أموال (على علاقة ببعض الأراضي الزراعية).
ولا يتحدث قادة الجيش في الجزائر إلا عن اتباع سياسة "الكيل بمكيالين"، التي تُعد تجسيداً لمخطط تصفية حسابات خاصة.
من ناحيته، يعتقد وزير الاتصالات السابق، عبدالعزيز رحابي، أن محاولة تضخيم وتوظيف هذه الاعتقالات لا تهدف إلا إلى إضعاف المؤسسة العسكرية. وأحال رحابي إلى أنه "عندما نشهد نهاية فترة حكم معقدة، مثل الوضع الذي نعيشه حالياً، يتدخل الجيش لوضع حد للأزمة.
ويُنطبق هذا الأمر على الوضع الراهن، لأن بوتفليقة لم يفكر أبداً في تهيئة الظروف الملائمة لخلافته في الحكم، كما لا يبدو أنه في أفضل حالته اليوم للقيام بذلك. يُعد الجيش المحور الذي يمكن أن يُشرف على عملية التحول إلى الشرعية الثورية، باعتبارها أساساً للديمقراطية".
ولكن في منتصف الصيف، أعاد رئيس أركان الجيش الجزائري التأكيد على ولاء هذه المؤسسة للرئيس، رافضاً الدعوات السرية التي تطالب بإشراف الجيش على عملية "انتقال سياسي".
وخلال حفل عسكري نُظم في شهر يوليو/تموز، أصرَّ رئيس الأركان على أن "الجيش الشعبي الوطني يعرف حدوده جيداً ومهامه الدستورية. ولا يُمكن له التدخل بأي حال من الأحوال في الخلافات بين الأحزاب والسياسيين، أو إقحام نفسه في نزاعات لا علاقة له بها".
ومن شأن هذا الأمر أن يطمئن الجهات التي تعتقد أن الجيش يعمل على إزاحة كل الأطراف التي قد تشوه صورته من طريقه، حتى يُعطي مثالاً لمؤسسة شفافة، مستعدة لتقديم عناصرها الفاسدة إلى العدالة. في الأثناء، يعمل قايد صالح على تطهير هذه المؤسسة.
لكن من يكون أول الجنرالات الجزائريين الذين زُج بهم في السجن؟
كان بلوصيف أول الجنرالات الذين زج بهم في السجن. فبتاريخ 11 فبراير/شباط 1993، وبعد محاكمة حظيت بتغطية إعلامية هامة، حكمت المحكمة العسكرية بالبليدة على مصطفى بلوصيف، وزير الدفاع في فترة رئاسة الشاذلي بن جديد، بالسجن لمدة 20 عاماً بتهمة الاختلاس. وقد اعتمد القضاة في حكمهم على ملف قام بتقديمه خمسة جنرالات إلى العدالة.
من جهته، أدان بلوصيف، أحد قادة الجيش في الجزائر خلال تلك الفترة، والذي يدعي البراءة، هذه القضية، واصفاً محاكمته بأنها "مؤامرة من نسج الخيال". وبعد بضعة أشهر من الاحتجاز، تم إطلاق سراحه بناء على أوامر من الرئيس اليميني زروال. في عام 2010، قبل وفاته بوقت قصير، أرسل له وزير الدفاع "رسالة رد اعتبار".