الاهتمام الخارجي، العربي والدولي، بالانتخابات التركية أمر لافت جداً. ففي الفترة التي تنظم فيها انتخابات في عدد من الدول العربية مثل تونس ولبنان والعراق، يكاد الاهتمام العربي بالانتخابات التركية المقبلة يفوق الثلاث معاً. ولذلك أسباب كثيرة.
فقد دخلت تركيا إلى قلب حالة الاستقطاب في العالم العربي والمنطقة بعد 2011، وهناك غضب أو عدم رضا من بعض الأطراف العربية والدولية عن مواقفها وسياستها الخارجية، كما كان لها مواقف واضحة ومؤثرة – على تفاوت بينها – في الأزمة الخليجية والثورة السورية والقضية الفلسطينية، إضافة لاستقبالها على أراضيها الملايين من العرب في مقدمتهم قيادات وعناصر أحزاب وتيارات سياسية وإعلاميون ورجال أعمال.. إلخ.
بهذا المعنى، فنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة لها تأثيراتها الممتدة أبعد من حدود الجمهورية التركية وصولاً لبعض القضايا العربية المهمة والحساسة، ولهذا تحديداً ثمة انطباع عام وقرائن عديدة على تدخل بعض الأطراف الخارجية في السياسة الداخلية التركية وفي القلب منها الانتخابات، رغبةً في التأثير والتغيير.
والتدخلات الخارجية في الانتخابات أمر لا يمكن إنكاره، بل لعلنا رأينا مؤخراً أمثلة من بعض الديمقراطيات العريقة مثل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة واستفتاء البريكسيت في بريطانيا. فضلاً عن أن التدخلات الخارجية في الشأن التركي مثبتة تاريخياً كما حصل في الانقلابات الأربعة، ومُدرَكة في واقعها الحالي ابتداءً بأحداث "جزي بارك" في 2013 وليس انتهاءً بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016.
كما أن أنقرة تعاني من أزمات في العلاقات مع أطراف مختلفة، في مقدمتها بعض حلفائها التقليديين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فضلاً عن بعض الدول العربية المؤثرة مثل مصر والسعودية والإمارات، ما يجعل فكرة التدخل الخارجي واردة جداً.
لكن، هل يعني كل هذا أن هناك تدخلاً خارجياً مباشراً في الانتخابات التركية المقبلة؟ والأهم من ذلك، هل هو قادر على التأثير على نتائجها؟ جوابي سيكون بالنفي إجمالاً، وبالتمييز بين ثلاثة مستويات تفصيلاً.
ما أقصده أن هناك بالتأكيد رغبة لدى عدد من الأطراف بغياب أو تغييب أردوغان ومن خلفه العدالة والتنمية عن قيادة تركيا لإحداث تغييرات جذرية على مواقفها وسياساتها، وهذا هو المستوى الأول. وأما الثاني فهو مستوى الفعل، حيث أثبتت عدة محطات سعياً من بعض الدول للتأثير في المشهد الداخلي التركي، بالمال تارة وبالإعلام طوراً وبالضغوط السياسية والاقتصادية مرة ثالثة. وأما المستوى الثالث والأخير فهو مستوى التأثير، وهو ما لا أرجحه لأسباب واضحة.
ذلك أن تركيا من الدول القليلة في المنطقة التي لم تتعرض للاحتلال المباشر بعد الحرب العالمية الأولى (باستثناء مرحلة حرب الاستقلال)، وهي دولة إقليمية كبيرة وقوية، ما جعلها أكثر مناعة من غيرها أمام التدخلات الخارجية المباشرة وصنع الشخصيات والمؤسسات ذات الولاء الخارجي المحض.
كما أن واقع تركيا اليوم يعكس دولة قادرة وحزباً حاكماً متمكناً وحاضنة شعبية حاضرة وإنجازات شاهدة وخريطة سياسية وحزبية واضحة، بما يضيّق جداً من هامش المناورة من الخارج.
ولذلك، فقد كانت التدخلات الخارجية قليلة وغير مباشرة (وإن كانت مؤثرة)، وتعتمد على الديناميات الداخلية، ويكتفي دورها أحياناً بالتشجيع أو التحفيز أو الدعم. في حين كانت هناك أنظمة وصاية عسكرية وقضائية وإعلامية واقتصادية أكثر تأثيراً في البيت الداخلي التركي.
وفي الانتخابات التركية، تاريخياً واليوم، كانت الديناميات الداخلية هي الأصل والعوامل الأخرى مجرد فروع وحواشٍ على هامش النص. فالناخب التركي يضع نصب عينيه الأمن والاقتصاد والأحزاب والأشخاص والبرامج والتحديات الداخلية والخارجية وسجلّ الإنجازات والخطاب والممارسة والسياسات والمناطقية وغيرها من العوامل قبل أن يتخذ قراره النهائي الذي يضعه في الصندوق.
ولأن الناخب يشعر بأنه من يحدد من يفوز بالانتخابات بشكل مباشر، إضافة إلى انتقامه من الانقلابات العسكرية عبر الصناديق، تشهد الانتخابات التركية منذ عشرات السنين نسبة إقبال مرتفعة جداً مقارنة بالديمقراطيات الراسخة والدول النامية والدكتاتوريات الحاكمة. فمثلاً، لم تنخفص نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية التركية منذ 1983 عن %80 إلا في انتخابات عام 2002 حين كانت %79.08 (تخطت في انتخابات 1987 نسبة %93).
منذ بدايات الحديث عن الرئيس السابق عبدالله غل كمرشح توافقي للمعارضة باعتباره مشروعاً خارجياً في مقابل أردوغان، كتبتُ أن الديناميات الداخلية أهم وأقوى وأكثر تأثيراً، وهي التي ستمنع ترشحه. ولعل ما حصل لاحقاً، من تراجعه عن فكرة الترشح بعد فشل المعارضة في التوافق خلفه – رغم عدم تغير المواقف الخارجية – يؤكد صحة هذا الطرح وأهمية العوامل الداخلية وأسبقيتها في طرح اسمه أولاً ثم في فشل ذلك لاحقاً.
في الخلاصة، ثمة رغبة لدى بعض الأطراف والدول في نتائج معينة في الانتخابات التركية، وثمة جهد قد بذل وسيبذل، لكن ذلك لا يعني أن ذلك سيكون مؤثراً بالضرورة. لا شك أن عاملي الأمن والاقتصاد تحديداً مفتوحان أكثر من غيرهما على التدخلات الخارجية، لكن الفترة القصيرة المتبقية على الانتخابات – إضافة لعوامل أخرى كثيرة لا مجال لسردها – تجعل تأثيرهما في هذه الانتخابات تحديداً ضئيلاً وهامشياً جداً.
مرة أخرى، سيكون الناخب التركي هو من سيحدد من يحكمه، ورغم الكثير من التوقعات وسيل استطلاعات الرأي والكثير من الشواهد والقرائن المرجّحة، إلا أن نتيجة هذه الانتخابات الحاسمة لن تعرف بدقة – مثل سابقاتها – إلا مساء الرابع والعشرين من حزيران/يونيو المقبل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.