فرَّ فيصل الجربا من وطنه السعودية أواخر العام الماضي (2017) إلى الأردن، وظن أن موقعه كشيخ بعشيرة كبيرة سيحميه من أيدي الرياض، ولكن حملة السعودية لاختطاف المعارضين استطاعت أن تصل إليه كما فعلت مع غيره على مدار عقود.
عندما دنا الخطر من الجربا، بعد أن أُلقي القبض على الأمير الذي كان يحميه، والذي كان أميراً سعودياً ذا نفوذ واسع، سارع الجربا بالهرب إلى خارج المملكة، ولكنه لقي مصيره المحتوم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية.
لم يبتعد عن الخطر بما يكفي، كما كان يظن، وقبيلته الكبيرة لم تحمِه
بعد أن تُوفي صديق له بظروف مريبة في أثناء احتجازه لدى السلطات السعودية، وبعد اعتقال الأمير الذي كان يحميه، سافر الجربا، وهو شيخٌ بارز لقبيلة "شمر" الكبيرة، إلى العاصمة الأردنية عمّان، لينضم إلى أقاربه هناك.
إذ حاصر ضباط الأمن الأردنيون منزله مساء أحد أيام شهر يونيو/حزيران 2018، واقتادوه للاستجواب، مؤكدين لعائلته أنه سيعود على الفور.
إلا أنّه اقتيد خلال أيام، إلى الحدود الأردنية مع السعودية، وسُلِّم إلى السلطات السعودية، وذلك وفقاً لشخصين مطلعين على تفاصيل ترحيل جربا قسراً إلى وطنه، وهو الترحيل الذي لم ترِد أي أنباء عنه فيما سبق.
وقال الشخصان إن جربا (45 عاماً)، لم تُوجَّه إليه أي اتهامات، وإنه وخلال الأشهر الخمسة منذ اعتقاله، لم يتسلم أهله أي دليل على أنه ما زال على قيد الحياة.
حملة السعودية لاختطاف المعارضين بدأت منذ عقود ولم تستثنِ حتى الأمراء
سلّط مقتل الصحافي جمال خاشقجي بإسطنبول، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، على يد فريق من العملاء السعوديين المرسلين من الرياض، الضوء من جديد على حملة السعودية لاختطاف المعارضين وملاحقتهم.
الحملة تنوَّع ضحاياها، بين المعارضين العاديين وحتى الأمراء المنشقين من ذوي الرتب العالية في العائلة المالكة.
ولكن تمتد جذور مساعي المملكة لإسكات المنتقدين السعوديين في الخارج، إلى عقود من الزمن، ومع تعاقب حكم ملوك مختلفين.
ولكن الأمير محمد بن سلمان وصل بحملة الاختطاف إلى الذروة
لكنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، انتهج هذه الممارسات بتعصب لا هوادة فيه، منذ اعتلائه العرش العام الماضي (2017)، حسبما قال المحللون.
فقد أوصل الأمير محمد بن سلمان حملة السعودية لاختطاف المعارضين إلى ذروتها.
لدرجة أنه جعل إعادة المعارضين من الخارج إحدى سياسات الدولة في المملكة، وفقاً لمسؤول سعودي أصرَّ على أن عودة المعارضين لا بد من أن تتم بالتراضي وليس بالإجبار.
وفي ظل مساعي المملكة لإعادة منتقديها، حاولت استدراجهم بالترغيب، أو تجنيد الحكومات الإقليمية الصديقة لإلقاء القبض عليهم.
بل وصل الأمر إلى تنفيذ عمليات اختطاف متبجحة في أوروبا.
حتى لو كنت في فندق أو داخل طائرة فإننا قادرون على الوصول إليك!
اختفى مواطنون سعوديون من غرف الفنادق أو من سياراتهم، أو تغيرت مسارات طائرات كانوا مسافرين على متنها،في إطار حملة السعودية لاختطاف المعارضين.
فقد رفع أمير سعودي منشق دعوى قضائية، ذكر فيها أنّه حُقن في رقبته ثم نُقل على متن طائرة من جنيف إلى السعودية. وبعد سنوات، إثر تمكنه من مغادرة المملكة، اختفى الأمير مرة أخرى ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين.
وقالت إحدى الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة السعودية، تقدمت بطلب لجوء سياسي إلى الولايات المتحدة العام الماضي (2017): "نحن نعلم أنهم قادرون على قتلك، بإمكانهم تدمير عائلتك واستخدامها ضدك. لطالما جرت الأمور على هذا النحو".
وأضافت أن ملاحقة محمد بن سلمان المنتقدين بصورة عدوانية، أثارت قلق مجتمع المغتربين السعوديين المذعورين بالفعل.
ولم يردَّ المكتب الإعلامي للحكومة السعودية سريعاً على البريد الإلكتروني الذي يطلب التعليق على عمليات الاختطاف.
والجربا لم يكن حتى معارضاً، ولكنه كان مقرباً من أمير مغضوب عليه
لم يكن الجربا معارضاً أو منشقاً، ولكنه ربما كان مطلوباً من السلطات بسبب ارتباطه بفرع من العائلة الملكية مطرود من رحمة القيادة السعودية، بحسب الشخصين المطلعين على ظروف اعتقاله.
كان الجربا صديقاً مقرباً من تركي بن عبد الله، ابن الملك الراحل عبد الله، وكان بئر أسراره.
واعتُقل تركي في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، في الحملة التي اعتقلت السلطات السعودية على أثرها المئات والتي طالت أفراداً من العائلة الملكية ومديرين تنفيذيين ومسؤولين حكوميين، فيما سمتها الحكومة "حملة على الفساد".
ولكن، يبدو أن اعتقاله كان بسبب هذه الخزائن السرية
على الرغم من انقطاع الاتصالات بين الجربا وأصدقائه وأقاربه، فإن بعضهم استطاع تجميع بعض تفاصيل رحلته، بعدما أودع بالحبس في حي عبدون الراقي في عمّان.
فبعد إلقاء القبض عليه، احتُجز الجربا فترة وجيزة بالسفارة السعودية في عمّان قبل اصطحابه إلى الحدود.
وفور وصوله إلى السعودية، قضى عدة أسابيع في جدة، التي تعج بالحياة الصاخبة في فصول الصيف، فتبدو كأنها العاصمة.
وفي مرحلة ما، نُقل إلى منزل تركي وطُلب منه فتح خزائن مؤمنة في الداخل. وهناك روايات متضاربة عما إذا كان الجربا قد تمكن من فعل ذلك أم لا.
"هذا أكبر منا".. وحتى علاقته القوية بالأسرة الملكية في الأردن لم تستطع حمايته
ظن الجربا أنه سيكون في مأمن بوجوده في عمّان، يرجع ذلك جزئياً إلى أنه كان شيخاً لقبيلة كبيرة، وهي قبيلة الشمر، التي تتمتع بعلاقات قوية بالعائلة الملكية الأردنية، حسبما قال شخصان مطلعان على قضيته.
إذ إن شـمّـر قبيلة عربية كبيرة في شرق العالم العربي، تتركز مَواطنها بمنطقة حائل في نجد بالمملكة العربية السعودية، وتوجد أيضاً في عدة دول: الكويت والعراق وسوريا والأردن وسلطنة عُمان، نزولاً إلى قطر وشرق السعودية والإمارات، والعديد من الدول العربية.
ولم تتسلم صحيفة The Washington Post رداً فورياً من المتحدث باسم الحكومة الأردنية على طلب التعليق على قضية جربا.
ووفقاً لأحد الشخصين المطلعين على قضية الجربا، أخبر المسؤولون الأردنيون لاحقاً عائلته بأنهم عجزوا عن منع اختطافه.
وقيل إن أحد المسؤولين الأردنيين قال: "هذا آمرٌ أكبر منا".
وفي بيروت وقعت إحدى أشهر وقائع حملة السعودية لاختطاف المعارضين
أُبلغ عن أول عملية اختطاف ترعاها السعودية في 22 ديسمبر/كانون الأول عام 1979، عندما اختفت أول شخصية معارضة بارزة للمملكة، ناصر السعيد، من بيروت.
كان ناصر قد هرب من البلاد بعد قضاء وقت في السجن بتهمة تنظيم ثورات عمالية وإضرابات عن العمل. وواصل مسيرة نقده من منفاه وأشاد بحادثة الاستيلاء على الحرم المكي في 1979 على أيدي مسلحين باعتبارها انتفاضة شعبية.
وبعد اختفائه، صرحت السعودية، التي كانت تحت حكم الملك خالد بن عبد العزيز آنذاك، أنّ التقارير التي تفيد باختطافه وإعادته إلى المملكة على طائرة خاصة لا أساس لها من الصحة. ثم وصفته بأنه شخصٌ "عديم الأهمية".
ثم توسّعت لتشمل أحد أحفاد مؤسس الدولة.. ولكنه حولها لقضية عامة
على الرغم من أنّ الكثير ممن يتعرضون للاختطاف لا يُسمع عنهم أي شيء ثانية.
إلا أن لأمر كان مختلفاً بالنسبة للأمير سلطان بن تركي بن عبدالعزيز، وهو أحد الضحايا وحفيد مؤسس السعودية.
فقد تمكن من فضح عملية اختطافه وجعلها قضية عامة، عن طريق تقديم دعوى قضائية ضد كبار المسؤولين السعوديين في محكمة جنيف بسويسرا عام 2014.
وأوردت الدعوى تفاصيل عملية اختطاف جريئة وقعت عام 2003، في عهد الملك فهد، وورد فيها اسما ابن الملك، عبدالعزيز بن فهد، ووزير الشؤون الإسلامية، صالح بن عبدالعزيز آل شيخ، واتُّهما بالمشاركة في المؤامرة.
كان سلطان، الذي يصفه الأصدقاء بأنَّه شخص مهيب، في جنيف لتلقي العلاج الطبي.
وكان قد انتقد المملكة العربية السعودية علناً أثناء فترة وجوده في الخارج، داعياً إلى إصلاح اقتصادي ومسلطاً الضوء على قضايا حقوق الإنسان.
حقنوه بمخدر ووضعوا له أنبوب تنفس صناعياً
وقال كلايد بيرجسترسر، وهو محامٍ موجود في بوسطن وكَّله الأمير لتولى القضية: "تم توجّيه تحذير إلى الأمير بضرورة بالتوقف عن الانتقاد وطُلب منه العودة وسيكون كل شيء على ما يرام".
لكن سلطان رفض العودة، لذلك أُرسل ابن الملك والوزير لإقناعه.
دُعي سلطان إلى مقر إقامة الملك فهد في ضواحي جنيف، كما ذكر لاحقاً في مقابلات مع قنوات فضائية عربية.
وصل الأمير سلطان مع طاقم حراسته الألماني، الذي قدَّم أدلة فيما بعد على أنَّهم شاهدوا سلطان يتحدث مع ابن عمه في حمام السباحة قبل أن يدخل الرجلان إلى المكتبة دون حُرّاس.
وبعد وقتٍ قصير، وصل 5 رجال مُلثمين.
وقال بيرجسترسر: "أُلقي بالأمير على الأرض وحُقن بمادة مُخدرة في عنقه ووضع له أنبوب للتنفس الصناعي".
وقيل لحراس أمن سلطان إنَّه قرر العودة إلى المملكة السعودية طواعيةً.
الأمير سلطان بن تركي بن عبدالعزيز آل سعود!
خطفوه مرتين..
الأولى من سويسرا بتخديره ونقله بطيارة خاصة!
الثانية عبر تحويل مسار الطائرة من مصر الى الرياض!
وكانت هذه آخر صورة له في الطائرة!
ولا يعلم مصيره الآن..حي أم ميت لكنه بالتأكيد في الظلمات!
فكيف الحال بالمواطن المعتقل…؟! pic.twitter.com/P31Y6YgccX— عبدالله محمد الصالح (@abdullahalsaleh) January 13, 2018
ثم تم اختطافه مجدداً من على متن طائرة متجهة إلى القاهرة
سُمح للأمير سلطان بمغادرة المملكة العربية السعودية بعد 7 سنوات، قيل خلالها إنَّ سلطان كان مُحتجزاً رهن الإقامة الجبرية أو في السجن أو المستشفى، بعد اعتلال صحته بشكلٍ حاد بسبب إصابته بمرض في الجهاز التنفسي.
وبالفعل، سافر الأمير إلى بوسطن لتلقّي العلاج الطبي ورفع لاحقاً دعواه القضائية.
ومع ذلك، ارتكب الأمير السعودي خطأً في 31 يناير/كانون الثاني 2016 بالصعود على متن طائرة سعودية، في رحلة نظمتها السفارة في باريس، بعد أن دعاه والده لزيارة القاهرة.
ووفقاً لما ذكره بيرجسترسر، فإنَّ شاشات المراقبة الموجودة على الطائرة، التي تظهر خط سير الطائرة إلى القاهرة، أظلمت فجأة وهبطت الطائرة في العاصمة السعودية، الرياض بدلاً من القاهرة.
وقال بيرجسترسر: "اقتيد الأمير سلطان بالقوة إلى خارج الطائرة، وكان هناك صوت صراخ وصياح. لم أسمع عنه شيئاً منذ ذلك الحين".
وأضاف أنَّ أعضاء من الوفد المرافق للأمير احتُجزوا لعدة أيام ثم أُطلق سراحهم.
وبطريقة مشابهة تم اختطاف أميرين آخرين
في نفس الوقت تقريباً، اختفى أميران آخران كانا يعيشان في أوروبا. وكانت هيئة الإذاعة البريطانية BBC أول من نقل أنباء حالات الاختفاء تلك العام الماضي 2017.
فقد اختفى الأمير تركي بن بندر، الذي كان معروفاً بآرائه المُنتقدة اللاذعة ضد العائلة المالكة السعودية، بما في ذلك اتهامات للمملكة بارتكاب جرائم قتل، عام 2015 بعد أن فرَّ من المملكة، وسافر للعيش والإقامة في أوروبا في أعقاب نزاع على ملكية أراضي.
كما اختفى الأمير الشاب القاصر سعود بن سيف النصر، وهو فرد آخر من أفراد العائلة المالكة، بعد أن حثَّ على إجراء إصلاحات في المملكة، وأيَّد علناً خطاباً من شخص سعودي مجهول الهوية كان يتداول على نطاق واسع في عام 2015 ويدعو إلى تغيير النظام.
ووفقاً لما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية، أُقنع الأمير الشاب باستقلال طائرة خاصة إلى إيطاليا بسبب ما أعتقد أنَّه رحلة عمل، لكن لم يُسمع عنه شيئاً منذ ذلك الحين.
حتى أن عضواً بارزاً بالأسرة المالكة اعترف ضمنياً باختطاف الأمراء
وكان هناك ما يشبه الاعتراف الضمني بشأن حملة السعودية لاختطاف المعارضين.
ففي مقابلة مع وكالة Sputnik الروسية العام الماضي، رفض الأمير تركي الفيصل، أحد الأعضاء البارزين في العائلة المالكة السعودية الذي يرأس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، دعاوى "من يُسمّوا "الأمراء"، قائلاً إنَّه كانت هناك إخطارات صادرة من الإنتربول لاعتقالهم.
وقال تركي الفيصل: "نحن لا نحب إعلان هذه الأشياء لأننا نعتبرها شأناً داخلياً خاصاً بنا".
وأضاف: "بالطبع، كان هناك أشخاص عملوا على إعادتهم إلى المملكة. انَّهم هنا ويرون عائلاتهم. لم يختفوا".
والمغرب سلَّمت الرياض أميراً قالت إنه مطلوب عبر الإنتربول، ولكن الأخير نفى
وفي إطار حملة السعودية لاختطاف المعارضين، قالت الحكومة المغربية مؤخراً إنَّها سلَّمت الأمير تركي بن بندر إلى المملكة العربية السعودية استجابةً لمذكرة صادرة عن الإنتربول.
لكن الإنتربول أعلن في بيان أنَّه لم يصدر أي إخطار من أي نوع بحق الأمير تركي بن بندر أو الأميرين سعود وسلطان.
وفرَّ العديد من المُعارضين السعوديين، مثل جمال خاشقجي، الذي عاش في ولاية فرجينيا الأميركية، إلى أبعد نقطة ممكنة عن الشرق الأوسط، خشية أن يتمكّن حلفاء المملكة العربية السعودية من تسليمهم.
لكنهم يبدو أنهم لم يكونوا في أمان من حملة السعودية لاختطاف المعارضين.
كما أن الناشطات لهن نصيب من الاختطاف.. وخاشقجي يكشف الهدف من الحملة
وناقش الراحل جمال خاشقجي، في مقابلة مع صحيفة The Washington Post قبل عدة أشهر من وفاته، قضية الناشطة السعودية في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول، التي أوقفتها السلطات في مارس/آذار الماضي أثناء قيادة سيارتها في أبوظبي، حيث كانت تدرس، ثم أعيدت في وقتٍ لاحق إلى السعودية وطُلب منها التوقف عن النشر على شبكات التواصل الاجتماعي.
وقد اعتُقلت الهذلول بعد بضعة أشهر من توقيفها وسُجنت ووصفت بأنَّها "خائنة" لوطنها في وسائل الإعلام التي تديرها الدولة.
وفي حين تعرضت الهذلول للتوقيف في أبوظبي، اختُطف زوجها فهد البطيري، مقدم عروض الكوميديا الارتجالية، من غرفته في فندق بالأردن وأُعيد إلى المملكة العربية السعودية، وفقاً لشخصين على علم بالحادث.
وقال خاشقجي آنذاك معلقاً على حملة السعودية لاختطاف المعارضين: "إنَّه ترهيب. إذ إنَّ تلقين هؤلاء الناس درساً يجعل بقية الناس مذعورين".