فيما كانت تأخذ سماء الطَبقةِ استراحة تَنفسية من بقايا غبار طائرة بي طراز 52 التي تعيث بالقصف فوق سماء الحدود المنسية على الأرض بين دولتي سوريا والعراق، كانت طائرة دون طيار لأغراض التصوير الفوتغرافي والمهام التجسسية البسيطة من نوع فالكون 842 تحاول شَقّ طريق لعدسة الكاميرا التي كانت تحتوي على هالات دائرية ونصف دائرية بالأتربة مبهمة من أثر إهمال التنظيف قبل الانطلاق، تتخبط بأجنحتها بين بقايا هذا الدخان الأبيض المتروك بإهمال انسيابي في السماء من أثر طائرة البي 52 التي مرّت قبل قليل من هنا، تماماً بين سحابتين قادر أنت كقارئ أن ترسم كلاهما في عقلك الآن
عمود دُخان أسود يميناً، على يساره أخ له ينافسه السواد ومع فتحة عدسة الكاميرا إن كان المشهد سينمائي ستظهر في الصورة دائرة من أعمدة الدخان السوداء ، تنتصب لأعلي في انسيابية فراغية إلي السماء لكن في هدوء تام وكأن ثَمة عِبادة ها هنا تتَم.
أعمدة دخانية سوداء تَتبتل إلي السماء بشيء ما، أعمدة الدخان السوداء هذه من أثر قصف طائرات التحالف الدولي تتعبد ببقايا الألم المعبّئ بدواخلها إلى السماء؛ ولأن السماء تحمل الكثير من الحكايات يذوب الأسود بين الأزرق ولا تُعرف مصير هذا التبتل في العبادة من بقايا القصف إلى السماء يَقطع هذا المشهد أزيز طائرة الدرون الحائرة.
"كتاباتي تميل إلى اللغة السينمائية ربما فيما مضى من سطور وأحسب هذا من نِعم مُعلمتي وملهمتي".
يقطع نمط هذه العبادة الغريبة أزيز الدرون، سوي الأعمدة الدخانية وجسد ممدد في البعيد بين زُقاقي شارع بالمدينة لم يتبق من منازلهم سوى ذاكرة الحجارة لا شيء آخر غير الجسد الذي يتحرك بحركات بطيئة ما بين اليمين واليسار، أمر ما في مخيلتنا الآن.
يد متحكم طائرة الدرون يتجه لتحريك الطائرة للأسفل أكثر، تتداخل الطائرة في طريقها للمدينة المُهدمة مع ذرات الدخان الصاعدة إلى السماء من أثر القصف، ثَمة ذرات دُخان غاضبة، ذرات أخرى تحررت من ألم البقاء على الأرض وتترك نفسها لمصير الأزرق في السماء، ذرة أخرى تتناحر مع رفيقتها في السَبق بالسريان بين ذرات السماء إنه دخان.. ذرات دخان لم تهتم عدسة الكاميرا بهذا النوع من التعبد والتفكر والتناحر بين ذرات عمود دخان من إثر قصف طائرة عاهرة الحكاية، ألا يشغل بال عدسات الدرون البحث فيما وراء العبادات الحربية؟!
ربما هي هواية لدى الكاميرات المثبتة أرضاً لالتقاط الموت المترامي بين الشوارع، الحوائط، بقايا المعدات العسكرية، الذخيرة المقتولة، الخطط والخطابات السرية، وربما كل هذا مبالغة سخيفة مني في إطالة مشهد قد لا يقرأه أحد من بعدي.
هبطت الطائرة إلى الأسفل، تقترب من هذا الجسد الممدد والذي يتحرك في نمط هادئ ما بين اليمين واليسار، حوائط مهدمة الآن مرَّت في خلفية عدسة كاميرا الدرون على أقصى اليمين تماماً في نمط انسيابي، جدار يحمل أوساخاً، أتربة، بقايا بارود، رائحة عفن مياه راكدة في الأسفل من جهة اليسار وحكاية عائلة وصورة من عدسة الدرون أنهت ذِكره في العالمين من بعد الآن.
قَطع آخر لهذا المشهد بصوت الدرون، وكأن ذبابة توقفت فجأة في وَضعِ سُكرِ ربما، تتأرجح الدرون يميناً يساراً بأزيز متقطع في هبوطها نحو هذا الجسد، تقف فجأه بالقرب منه، مَدُ زِراع بزاوية أكبر من 80 درجة بقليل توقفت الطائرة في وضعها الاهتزازي هالات الكاميرا من أثر الاتساخ تلاشت على الأرجح استعداداً لحكاية جديدة مع ممُدد على الأرض أو كيف حدث لا أعلم ولا أهتم.
كل الأمر الآن أن ثَمة مُلتحياً بلحية تَحمل نِصف تَهذيب ونِصف حياة معبأة بالتخبط مُمدد على الأرض يرتدي بِنطالاً بلون الجِمال العتيقة وقميصاً أسود تُغطيه بقايا غبار وأتربة من حرب ليست ببعيدة، وُمعلق على قميصه من جهة اليسار بحامل أسلحة صغير مسدس جلوك مدهوس بالأتربة ومعقوف بضغط ما، عيناه تُنازع موتاً أتى فجأة وملامح وجهه العشرينية تتسارع في النمو والعَجز مع كل لَقطة صورة من طائرة الدرون، وثَمة دماء تَنزف من جَنبيه وفيما خلف رأسه، يَده اليمني مُمدده جوارة بألم عليها ذرات تراب غارقة في عرق ودَم.
إنه يحتضر، ثَمة موت يَجول فيما بين الطائرة الدرون والشاب في زاوية التسعين درجة إلا قليلاً، مَوت لا يُلمس، لا يُدرك، لا يُغير زاويته، لا يُنظر إليه، موت يداعب الهواء ما بين أنفه وذكريات أعوامه الثمان والعشرين، مَوت يأتي إليه برغبة لن تحقق في اقتراب رائحة الأمومة من جسده.
هذا موت خام في حرب مليئة بالكثير، ربما أصبحت زاوية الموت الآن أكثر اقتراباً من عدسات الكاميرا منها الى الشاب، عيناه قاربت على أن تُفتح قليلاً،
شهقة نَفسُ ما قبل قبل الأخيرة؟! الأخيرة؟!
أسأله لا إجابات لديه في الموت وما قبله، ارتفع صدره إلى أعلى مع الشهقة وألم ما، مع تسرُّب الدماء جعله يَصيح صيحة ألم أخيرة ويتقلب بجسده على يساره كمن مَسّه جن، قدمه اليسرى أثناء استدارته الجنونية السريعة، صَدمت الطائرة الدرون فسَقطت في زاوية قدمه، مراوح الهواء الآن تناضل كي تبقى دائرة مع الغبار المتصاعد من أثر السقوط البسيط.
ثانية، ثانيتان، توقف الجسد، مات الشاب، ثلاث ثوان، أربع، توقفت محركات الطائرة الدرون، ثانيتان بين كل مَوت ومَوت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.