كثبان رملية حمراء تمتد بلا نهاية، ولا توجد بها مظاهر للحياة، ولكن تحت الأرض يعيش السكان في بلدة كاملة أنشئت في منازل حُفرت في جوف الرمال، فهنا بلدة أسترالية يعيش سكانها تحت الأرض.
عندما جاءت المصوِّرة التشيلية تمارا ميرينو إلى بلدة كوبر بيدي الأسترالية، ظنّت أنها "مدينة أشباحٍ"، بحسب ما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
رأتها أول مرةٍ عندما توقفت وشريكها هناك لإصلاح إطار سيارتهما المثقوب، بينما كانا يعبران صحراء سيمبسون الواسعة جنوب أستراليا.
غير أن تمارا عرفت بعد ذلك أن البلدة تعج بحياة بشرية، لكنَّها كانت تحت أقدامهما.
ففي هذه الصحراء المترامية الأطراف، بلدة أسترالية يعيش سكانها تحت الأرض بالكامل.
حانات ومطاعم وأطفال يكبرون.. سر هذه البلدة الأسترالية التي يعيش سكانها تحت الأرض
"الحانات والمطاعم والكنائس تحت الأرض، وكل أولئك الأطفال يكبرون تحت الأرض. لا شيء فيهم مختلف، ليسوا رجال كهوف. إنهم أناسٌ عاديون، ولكن اختاروا العيش بطريقةٍ مختلفة".
هكذا وصفت المصوّرة التشيلية البلدة خلال مقابلةٍ تليفونيةٍ أُجريت معها حول الحياة الاجتماعية والخاصة لأهل هذه البلدة.
على مرِّ نحو قرنٍ من الزمان، عمل أهل بلدة كوبر بيدي تحت الأرض، وعاشوا وأحبوا أسفلها.
السر الذي دفعهم لهذه الحياة الغريبة هو السعي نحو تحقيق الثراء عن طريق التنقيب عن حجر الأوبال.
والأوبال (العقيق) هو حجرٌ كريمٌ نادر ملوَّن بألوان قوس قزح.
ويتميز حجر الأوبال بتنوع ألوانه ومظهره الرائع، وله القدرة على إطلاق مجموعة من أطياف الألوان الجميلة مثل الأصفر الفاتح والأحمر الغامق واللون الأخضر والأرجواني، ويقال إنه يعطي انطباعاً لمن يراه بالتفاؤل والارتياح.
كما يشيع اعتقادٌ بأن الأوبال حجر ملعون.
وتعزز هذا الاعتقاد بسبب إحدى الروايات الشهيرة للسير والتر سكوت (أديب ومؤرخ أسكتلندي تُوفي عام 1832)، والتي تدور قصتها حول حجر الأوبال بشكل كبير، وذلك بعد أن أساء البعض فهم الرواية على نحوٍ أضرَّ بسمعة هذا الحجر الكريم .
ولكنها ليست البلدة الوحيدة التي يعيش سكانها تحت الأرض
وحالما عرفت تمارا بشأن هذا المجتمع الذي يعيش تحت الأرض، جاءت لقضاء أسابيع معهم، موثِّقةً عملهم في المناجم وحياتهم في منازلهم الكهفية المعروفة باسم "المخابئ"، في إطار سلسلتها التي تحمل اسم Underland أو "تحت الأرض".
في العديد من بلدان العالم المتقدم، عادةً ما يعيش الناس في شققٍ بمبانٍ سكنية أو فيلات أو بيوتٍ واسعة ذات حدائق.
غير أنَّ تمارا وجدت نفسها منجذبةً للنخبة القليلة التي تعيش في المنازل الكهفية والمباني الأرضية، تماماً كما فعل العديد من أسلافنا البشر منذ آلاف السنين.
وتقول: "يعيش الناس تحت الأرض في أماكن مختلفة في العالم، ويرجع ذلك إلى العديد من العوامل الاقتصادية والمناخية والثقافية.
أريد أن أفهم هذه الحالة الإنسانية، كيف يرتبط الإنسان بالبيئة التي يختار أن يعيش فيها؟".
ولقد جاء سكانها من كافة بقاع الدنيا ليسكنوا تحت الأرض
كان امتزاج الرغبة في الثراء مع الظروف الطبيعية القاسية هو ما دفع أهالي كوبر بيدي إلى العيش بهذه الطريقة، ليؤسسوا هذه البلدة الأسترالية التي يعيش سكانها تحت الأرض.
فمنذ عام 1915، كان أناسٌ من كل أنحاء العالم يبحرون إلى البلدة الواقعة في الجنوب الأسترالي لتحقيق الثراء، أو بدء حياةٍ جديدةٍ عبر التنقيب عن الأوبال. واليوم تتمتع البلدة بقدرٍ من التنوع العالمي، إذ ينحدر سكانها من أكثر من 45 شعباً من جميع أنحاء العالم.
وتقول تمارا: "بدأ الناس في تناقل خبر وجود ذلك الحجر. وجميعهم صاروا أغنياء حقاً منذ 100 عام. فبدأوا بإحضار عائلاتهم. وبدأ الأطفال يولَدون هناك".
ولكن الظروف الطبيعية القاسية لا ترحم.. فقرّروا اللجوء لهذا الحل
هذه المنطقة النائية بها ظروفٌ لا ترحم.
إذ يمكن أن تتجاوز درجة الحرارة 100 درجة فهرنهايت (37.8 مئوية)، وتنخفض تحت الصفر بكل بساطة.
وتتذكر المصورة التشيلية تمارا أياماً متتاليةً كانت درجة الحرارة فيها تبلغ 120 درجة فهرنهايت (48 درجة مئوية) فوق الأرض، إلى أن دعتها المُنقِّبة الألمانية غابرييل غولاين هي وزوجها لمخبئها.
فالحياة لا تطاق في هذه البلدة الأسترالية التي يعيش سكانها تحت الأرض.
أما تحت الأرض فالأجواء مثالية
على مرّ أجيال، تعلَّم السكان المحليون الهروب من الحرارة اللافحة والعواصف الترابية، عبر تشييد مبانٍ تغوص عشرات الأمتار تحت سطح الأرض.
هذا العمق يوفر درجة حرارةٍ ثابتةٍ طوال العام، تبلغ نحو 75 درجة فهرنهايت (23 درجة مئوية).
وتقول تمارا: "العيش فوق سطح الأرض لا يُحتمل". وقد وجدت داخل السكان المحليين رابطاً حميمياً بالأرض.
إذ تحتضن حوائط الحجر الرملي المطبخ في منزل غولاين، وغرفة طعامها، اللذين تملأهما خزائن خشبيةٌ وفرن تحميصٍ مصنوع من الصلب المقاوم للصدأ.
فضلاً عن أنَّ المتدينين من أتباع الكنيسة الصربية الأرثوذوكسية يُقيمون الصلوات في كنيسة محلية مُقامة على عمق عدة أمتارٍ تحت الأرض، حيث يُحدِّقون في النوافذ الزجاجية المتلألئة، والنقوش الإنجيلية المحفورة على الجدران.
ومصدر رزقهم يأتي أيضاً من باطن الأرض
منح آخرون المصورِّة نظرةً حميمةً على العمود الفقري لاقتصاد هذه البلدة الأسترالية التي يعيش سكانها تحت الأرض.
إذ يقضي المنقبون أسابيع في مغاراتٍ ضيقةٍ مظلمة، يهتدون فيها فقط بأنوار الخوذ، وشعاع الضوء الآتي من العالم الخارجي فيما يشقون طريقهم داخل الجدران.
وبحلول الظلام، يبحث "صغار المنقبين" عن شظايا أحجارٍ كريمةٍ تُركت فوق السطح.
لكنَّهم جميعاً يتوقون إلى فرصةٍ للعثور على الأوبال ذي البريق المتلون.
ولكن بعضهم لم يعثر على شيء على الإطلاق، وحتى من أصبح مليونيراً خسر كل أمواله
تقول تمارا: "العديد من المقيمين في كوبر بيدي لم يعثروا على أي شيءٍ في حياتهم.
والكثيرون ممَّن وجدوا الأوبال أصبحوا مليونيرات، وبعدها خسروا كل شيءٍ، إمَّا بالاستثمار في ماكيناتٍ جديدة، أو إقامة الحفلات.
ولكن التقاليد في البلدة الأسترالية التي يعيش سكانها تحت الأرض تموت، وتموت معها هذه المدينة التي كانت مزدهرةً يوماً.
فالمراهقون والشباب يريدون وظائف مستقرةً وآمنة، ولا يمكن للتنقيب أن يضمن أياً من ذلك.
ومع ذلك، يستمر الكثيرون من أهل البلدة في الإقامة تحت الأرض، مُجرِّبين حظهم في تحقيق الثراء عبر التنقيب عن حجرٍ واحدٍ على عمق 30 متراً تحت الأرض.
وقالت: "بعد أن يبقوا أسابيع داخل المنجم، ثم يجدون ذلك الحجر الملون، تكتشف في هذه اللحظة، لماذا يبحثون عن تلك الجوهرة. إنها رائعةٌ للغاية، إنها حلمهم".