قالت مجلة The National Interest الأميركية إن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي سلَّط الضوء على الطبيعة الوحشية للنظام السعودي، حتى إنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب اضطر للتلميح إلى أنَّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو العقل المُدبِّر وراء هذه الحادثة الشنيعة؛ إذ قال ترمب: "حسناً، يدير ولي العهد الأمور بشكلٍ واسع هناك في هذه المرحلة. لذا، فإن كان هناك مِن أحدٍ مسؤول عن مقتل خاشقجي، سيكون هو".
وبحسب المجلة الأميركية أخرجت عملية اغتيال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول المنافسة السعودية – التركية إلى السطح بعدما كانت مستترةً عن الرأي العام إلى حد كبير. إذ ألقى بيان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ألقاه في البرلمان التركي، باللوم في حادثة مقتل خاشقجي بوضوحٍ على أعتاب الحكومة السعودية.
إذ وصف الرئيس التركي عملية القتل "بالقتل المُدبَّر سلفاً"، وتحدَّث بلا مواربة حين كان يتساءل: "لماذا تجمَّع 15 رجلاً سعودياً، جميعهم لديهم مؤهلات مرتبطة بالحادثة، في إسطنبول في نفس يوم عملية القتل؟ بأوامر مَن ذهب هؤلاء الأشخاص إلى هناك؟". وأشار أردوغان ضمنياً إلى أنَّ عملية القتل نُفِّذت بأوامر من الحكومة السعودية التي يقودها محمد بن سلمان.
غذَّى بيان أردوغان وموقف الصحافة التركية الموالية للحكومة على مدار الأسبوعين الماضيين فضول الجمهور عن طريق وصف التفاصيل الدموية لقتل خاشقجي بالرسوم والصور.
وتوضح هذه التسريبات أنَّ النخبة السياسية التركية تستمتع بالإحراج الذي تسببه هذه القضية للسعوديين، وخاصةً ولي العهد. فعلاقة أنقرة بالرياض مضطربةٌ منذ سنوات عديدة. لكنَّ صعود ولي العهد، الذي تباهى بنفوذ السعودية في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية زاد مخاوف تركيا من أنَّ السعوديين يعتزمون السيطرة على العالم العربي وإقصاء ليس فقط إيران، بل تركيا أيضاً.
دور ترمب في إشعال المنافسة
وبحسب المجلة الأميركية، تعاظم التخوف التركي بعدما أرسل الرئيس ترمب بعد توليه الحكم مباشرةً إشارات تفيد بأنَّه يعتزم جعل السعودية ركيزة السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. كانت أنقرة ترى أنَّ قرار ترمب بزيارة السعودية مباشرةً بعد توليه الحكم، والعلاقة المُقرَّبة التي طورها ترمب وصهره غاريد كوشنر مع محمد بن سلمان، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني -وهو ما أسعد الرياض للغاية- كانت ترى كل هذه مؤشرات واضحة على أنَّ الرئيس الأميركي يضع كل بيضِه بالشرق الأوسط في السلَّة السعودية.
ومن منظور أنقرة، كان تزايد أهمية السعودية لدى الولايات المتحدة يعني تراجع دور تركيا في السياسة الأميركية بالشرق الأوسط. وبدا أنَّ هذا هو واقع الحال، خاصةً بعد تزامن هذا مع تراجع العلاقات الأميركية – التركية.
وتدهورت العلاقات التركية مع الولايات المتحدة بسبب اختلافات كبيرة بينهما في نهج التعامل مع أكراد سوريا، إذ دعمت الولايات المتحدة قوات حماية الشعب الكردية في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي استراتيجيةٌ تعارضها تركيا بشدة؛ لأنَّها تعتبر قوات حماية الشعب الكردية في تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والذي تصنفه أنقرة تنظيماً إرهابياً.
الأكثر من هذا أنَّ قرار تركيا شراء منظومات S-400 الدفاعية المضادة للصواريخ من روسيا رغم المعارضة الأميركية للصفقة قد تسبَّب في زيادة التوتر بين واشنطن وأنقرة.
الربيع العربي وإيران
وبحسب المجلة الأميركية، أَبرَزَ الميل الأميركي الواضح تجاه الرياض وابتعادها عن أنقرة الخلافات الموجودة بين السعودية وتركيا. واتسع التباين بين نهجَي الرياض وأنقرة في التعامل مع سياسات الشرق الأوسط المتغيّرة دائماً بعد اندلاع الربيع العربي وسقوط الأنظمة الديكتاتورية في العديد من الدول العربية؛ إذ رحَّبت تركيا بحماسٍ بالتغييرات التي شهدتها المنطقة، بينما كانت السعودية، تشعر بأنَّها مُعرَّضةٌ بشكلٍ قوي لرياح التغيير التي تهب عبر العالم العربي، معارضاً لها بشدة.
وصلت الأمور ذروتها مع إطاحة الجيش بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي. كانت تركيا قد احتفت بوصول مرسي إلى الحكم، فكانت ترى في ذلك تصديقاً على النموذج الإسلامي البرلماني المعتدل، الذي يمثله حزب العدالة والتنمية التركي في الشرق الأوسط، ومؤشراً على أنَّ جماعة الإخوان المسلمين، التي شعر حزب العدالة والتنمية بالتقارب نحوها، باتت أيديولوجيتها أكثر اعتدالاً.
على الجانب الآخر، كانت السعودية -ولا تزال- قلقةً بشأن نموذج الإسلاموية البرلمانية الذي يعتمد في صعوده إلى سدة الحكم على الدعم الشعبي؛ لأنَّه يهدد مباشرةً نموذج الإسلاموية السعودي المستبد. وعلى صعيدٍ أيديولوجي، يمثل هذا صداماً بين نموذج الإسلاموية من أسفل (من القاعدة الشعبية والجماهير) -مثل جماعة الإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية- ونموذج الإسلاموية من أعلى (من قمة هرم الحكم) مثل العائلة المالكة السعودية. ولا عجب أنَّ السعوديين لم يتبنوا السيسي فقط، بل منحوا النظام العسكري على الفور ملياري دولار لإنقاذ الاقتصاد المصري المُترنِّح، والأهم، لإنقاذ الحكومة نفسها.
حصار قطر والخلاف بين البلدين
برزت اختلافات أخرى بين القوتين المتنافستين في الشرق الأوسط على مدار الأعوام القليلة السابقة. فكانت السعودية، في إطار السياسة الخارجية العدوانية في المنطقة لمحمد بن سلمان، قرَّرت فرض حصارٍ على دولة قطر، لمعاقبتها بالأساس على عدم تبنيها موقفاً معادياً تجاه إيران.
وتتمتع قطر بعلاقات قوية مع تركيا، وهي تستضيف قاعدة عسكرية تركية في البلاد منذ عام 2014 وعُزِِزت هذه القاعدة بقواتٍ في ديسمبر/كانون الأول 2017. علاوة على هذا الدعم المعنوي الذي قدمه الأمير تميم بن حمد آل ثاني تزامناً مع محاولة الانقلاب العسكري الفاشل يوليو/تموز 2016. نتيجةً لهذا، دعمت أنقرة، بالإضافة إلى إيران، قطر في نزاعها مع السعودية، ما تسبَّب في ضيقٍ كبير للسعوديين.
يعكس موقف تركيا المؤيد لقطر أيضاً الاختلافات بين أنقرة والرياض بشأن منهج تعاملهما مع إيران. ففي الوقت الذي تشعر فيه تركيا بالقلق إزاء طموح إيران في المنطقة وخلافاتها معها بشأن الصراع السوري، تهتم تركيا بالحفاظ على استقرار علاقاتها مع إيران؛ لأنَّها تُمثل مزوداً هاماً للطاقة إلى تركيا، ولأنَّ أنقرة وطهران تواجهان تهديداً مشتركاً من الانفصاليين الأكراد.
إلى جانب هذا، تدرك تركيا قوة إيران باعتبارها القوة الأبرز في الخليج، وهو أكثر ما يثير استياء الحكومة السعودية. فرغم أن السعودية متورطةٌ في عددٍ من حروب الوكالة مع إيران لمنع الأخيرة من صعود نفوذها كقوةٍ إقليمية رئيسية، يكمن اهتمام تركيا الرئيسي في التوصُّل إلى اتفاقٍ مع إيران. وتأمل أنقرة إبرام صفقةٍ تقضى باحترام الدور الإيراني البارز شرقي منطقة الشرق الأوسط، مقابل قبول إيران لدورٍ تركي مماثل في الجانب الغربي من المنطقة.
الوضع في سوريا
كانت سوريا حتى وقتٍ قريب ساحةً معركةٍ للصراع بين تركيا وإيران حول فرض الهيمنة في بلاد الشام. لكنَّ التقارب الأخير بين أنقرة وموسكو وطهران -الذي يهدف لحماية مصالح القوى الثلاث في سوريا- يشير إلى التوصل إلى تسويةٍ بين تركيا وإيران بشأن تحديد مناطق نفوذهما في سوريا. أدى هذا إلى إزعاج السعوديين إلى أقصى مدى؛ لأنَّ هذا الاتفاق من شأنه أن يخفف حدة الضغط المفروض على إيران في منطقة الهلال الخصيب، ويسمح لها بالتبعية بتكثيف جهودها لمنافسة طموح السعودية في منطقة الخليج واليمن، حيث يتورط السعوديون في حربٍ شرسة ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
ومن ثَمَّ، فإنَّ هناك عدداً من القضايا الهامة التي تسبَّبت في اضطراب العلاقات السعودية – التركية. وقد وفَّرت قضية خاشقجي لأنقرة فرصةً هامة للتغلب على السعودية . وتركيا، بفعلها هذا، زادت أهميتها بالنسبة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ولا عجب أنَّ الرئيس أردوغان تبنَّى هذا الموقف الحاد المناهض للسعودية في قضية مقتل خاشقجي؛ إذ أدى موقفه إلى منح تركيا أفضلية أخلاقية أمام العالم ووفَّر لها فوائد استراتيجية هامة.