اعتبرت وكالة The Associated Press الأميركية أن المملكة العربية السعودية استثمرت بشكل ناجح، في وسائل إعلام عربية خارج حدود المملكة؛ من أجل دعمها في أي أزمة تواجهها، وكان آخرها مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول، مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وبحسب الوكالة الأميركية، منحت الهيمنة المالية على وسائل إعلامٍ عربيةٍ أداةً مؤثرةً للمملكة العربية السعودية، بينما تكافح في مواجهة الاحتجاج الدولي على مقتل الكاتب والمعارض السعودي جمال خاشقجي.
ومع اختفاء خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول بالثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، ردَّدَت صحفٌ وقنواتٌ تلفزيونيةٌ مواليةٌ للرياض عبر المنطقة إنكار السعودية معرفتها بمصيره. أو ربما لوَّحوا بسيناروهاتٍ بديلةٍ لمؤامرةٍ بين خصمَي المملكة الألد؛ قطر وتركيا، تهدف إلى زعزعة المملكة.
وبعد أكثر من أسبوعين من الضغط الدولي، اعترفت المملكة، هذا الأسبوع، بمقتل خاشقجي داخل القنصلية، مدَّعيةً أنه قُتِلَ بالخطأ خلال تحقيقٍ خرج عن سياقه، ووعدت بمحاسبة المسؤولين.
وسائل الإعلام المُخلِصة غيَّرَت أقوالها على الفور، لتشيد بحسِّ العدالة لدى المملكة، وبالحسم الذي يتسم به عاهلها الملك سلمان، حتى إن بعضهم أثنى على شفافية المملكة.
جاء في افتتاحية يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، بموقع "درج" الإخباري المستقل: "بكل بساطة، صحافتنا ممولة من أنظمة تُقْدِم كل يوم على جريمة لا تقل وضوحاً عن جريمة قتل جمال خاشقجي. ما حصل يجب أن يكون مناسبة للتفكير في مدى حاجتنا إلى صحافة مستقلة".
دبلوماسية "دفاتر الشيكات"
تعكس الطريقة التي تعاملت بها الصحافة مع القضية عقوداً من دبلوماسية دفاتر الشيكات التي تبناها أثرياء النفط السعوديون لشراء حلفاء وإسكات انتقاداتٍ لسياساتهم.
أنفقت المملكة ملايين الدولارات على مدار السنوات للتأثير على صحفٍ وقنواتٍ من المغرب إلى العراق. استثمرت أحياناً في وسائل إعلام، ولكن غالباً ما كانت توفر لهم دعماً مالياً، ليتمكنوا من البقاء في حالة عمل. ووفرت كذلك مِنحاً وتمويلاً مالياً مباشراً لكُتابٍ وشخصياتٍ تلفزيونيةٍ بعينها.
كُشِفَت تفاصيل تلك السياسة عام 2015؛ حين نَشَرَ WikiLeaks آلافاً من المراسلات المتبادلة بين البعثات الدبلوماسية السعودية ووزارة الخارجية بالرياض.
كشفت المراسلات حجم الإنفاق السعودي على وسائل الإعلام والصحافيين على امتداد العالم العربي، وكذلك مدى حرصهم على تأمين التمويل السعودي، متذرِّعين بمواجهة حملات التشهير التي تستهدف المملكة في كثيرٍ من الأحيان.
وبدورها، تملك المملكة العديد من الأبواق الخاصة بها. ولكلٍّ من صحيفة "الشرق الأوسط" وقناة "العربية" الإخبارية انتشار واسع في العالم العربي. كلتاهما مملوكة لسعوديين مُقرَّبين من العائلة المالكة.
كان عبد الرحمن الراشد، الذي عمل سابقاً رئيس تحريرٍ لصحيفة "الشرق الأوسط" ومديراً لقناة "العربية"، قد أقرَّ هذا الأسبوع، في مقال رأيٍ صريحٍ وغير اعتياديٍ بالمرة، بأن أموال السعودية هي أحد أكثر الأصول السياسية للرياض تأثيراً في العالم العربي.
ووَصَفَ الانتقادات المُوجَّهة للمملكة، على خلفية قضية خاشقجي، بأنها "عدائيةٌ إعلاميةٌ"، وأبرَزَ أن المملكة تُموِّل العديد من الدول والمؤسسات في المنطقة.
وكتب في صحيفة "الشرق الأوسط" يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، قائلاً: "باختصارٍ شديد، سيُوسِّع إضعاف السعودية دوائر القلاقل والإخفاقات في المنطقة".
يظهر تبني الأجندة السعودية في إعلام الدولة الأردني، وبعض قنوات التلفزيون اللبنانية والصحف الإخبارية الأصغر، وعملياً عبر الحدود السعودية وصولاً إلى حليفي المملكة الأقرب: البحرين، والإمارات. لكن ربما يُرَى المثال الأقوى على تأثير إنفاق الرياض الضخم، في إعلام مصر، أحد أقرب حلفاء المملكة.
دور الإعلام المصري
وبحسب الوكالة الأميركية، سيطرت الحكومة المصرية والمؤسسات التابعة للدولة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي على الإعلام المحلي -الرسمي والخاص- بأكمله تقريباً، مُحوِّلةً ما كان، على أقل تقديرٍ، منابر لطرح وجهات نظرِ ملَّاكها إلى أجهزةٍ مُخلِصةٍ للدولة.
في الوقت نفسه، تلقَّت حكومة السيسي مليارات الدولارات من السعودية منذ 2013، لدعم الاقتصاد المصري المتدهور.
يُذكِّر مقدمو البرامج الحوارية السعوديون ذوو النفوذ المشاهدين دائماً بأن ما يقارب 3 ملايين مصري يعملون في المملكة، ويرسلون لمصر كل عامٍ حوالاتٍ بمليارات الدولارات.
لذا، حين أُثيرَت قضية خاشقجي، وَقَفَ الإعلام المصري بثباتٍ مع الإنكار السعودي المبدئي لوقوع أيِّ جريمة. وروَّجَ المُعلِّقون بقوةٍ لفكرة أن قطر وتركيا تتآمران بطريقةٍ ما لتقويض نفوذ السعودية.
تشارك الحكومة المصرية حكومة المملكة في عداوتها لهاتين الدولتين؛ لدعمهما جماعة الإخوان المسلمين وثورات الربيع العربي.
مكرم محمد أحمد، الصحافي المصري البارز ورئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كتب قائلاً: "هناك رغبةٌ قوية لدى الكثير من التيارات لابتزاز المملكة السعودية".
من جهةٍ أخرى، كان أحمد موسى، مُقدِّم البرامج الذي يُعَدُّ الأقرب على الإطلاق للحكومة المصرية، قد صرَّح في بادئ الأمر بأن قطر قد اختطفت خاشقجي من القنصلية السعودية. ثم، ومع رضوخ الرياض واعترافها بمقتله في القنصلية، أسهب في مدح تعامل المملكة مع القضية!
وقال: "لَم نفكر لحظةً في أن المملكة قد تتستَّر على أيِّ شخصٍ شارك في هذه الجريمة". ووَصَفَ جريمة قتل خاشقجي بأنها "جريمةٌ فظيعةٌ لا يقبلها أيُّ شخصٍ في العالم".
لكن هناك من ينتقد أيضاً
وفي واحدٍ من الأصوات القليلة المستقلة الباقية في وسائل الإعلام المصرية، ظهر بعض النقد، وإن كان على حذرٍ، في صحيفة "المصري اليوم".
كتب السيناريست المصري البارز وحيد حامد، في مقال رأيٍ نُشر بالصفحة الأولى من الصحيفة، يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، قائلاً: "إنه من المؤسف حقاً، وبعد أن صار الإعلام في قبضة الدولة من جديد، أن يتخلَّى عن القواعد الإعلامية الثابتة"، ولم يذكر في مقاله قضية خاشقجي بالمرة.
رسام كاريكاتير تمادى قليلاً يوم الإثنين 22 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
في الصفحة الأخيرة من الصحيفة ظهر كاريكاتير فيه مدرسٌ يشيد بطالبٍ متحدثاً لأُمِّه، قائلاً: "اسم النبي حارسه، طلع متابع الأحداث اليومية. قلت له ارسم محل جزارة، قام راسم قنصلية".
وحتى في السعودية نفسها، كانت هناك أصواتٌ ليست على تناغمٍ تامٍ مع الدولة، ولو أنهم كانوا يسيرون على حذرٍ.
كتب فيصل عباس، رئيس تحرير صحيفة Arab News التي تصدر باللغة الإنكليزية، يوم الأحد نفسه، قائلاً إنَّ تعامُل بعض وسائل الإعلام السعودية مع قضية خاشقجي كان "عاراً على المهنة"؛ بل حمل الحكومة بعض المسؤولية عن ذلك.
وأضاف: "بعض زملائي قد يلقون باللائمة على غياب المعلومات الرسمية، الأمر الذي يُعَدُّ مشكلةً بلا جدال، لا يمكن أن نتحدَّث عن إعادة الهيكلة وثقافة مساءلةٍ جديدةٍ في هذه البلاد إذا كانت هواتف المسؤولين تصمت كلما وقعت قضيةٌ كبيرةٌ".
وتابع: "أجل، احتاجت السلطات وقتاً لاستكمال تحقيقاتها. لكن في عالمٍ من الأخبار المتسارعة، فإن فترة أسبوعين تُعَدُّ وقتاً كبيراً جداً. يحتاج المسؤولون لتعلُّم أنهم إن لم يروُوا روايتهم، فغالباً سيفعل ذلك شخصٌ آخر، وغالباً ما سيكون عدواً للمملكة".