دخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البرلمان التركي ذا المُدرِّجات الخشبية بحماسٍ كبير، يوم أمس الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول، ليوجِّه أبرز هجومٍ مباشر حتى الآن ضد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مُتَّهماً حكومته بالتخطيط لقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي "قتلاً وحشياً" وتشويه جثته.
وبعد ذلك بساعات، دخل الأمير محمد قاعة المؤتمرات المُذهَّبة في فندق ريتز كارلتون بالعاصمة السعودية الرياض، وسط تصفيقٍ حار من عشرات مسؤولي شركات النفط التنفيذيين ومصرفيين ورجال أعمال آخرين خاطروا بسمعتهم، في ظل مقتل خاشقجي، من أجل الحصول على فرصةٍ للربح من ثروة المملكة الهائلة.
قال ولي العهد لصحافيين: "المزيد من الحاضرين، يعني المزيد من المال"، موضِّحاً أنَّ الحدث كان ناجحاً رغم انسحاب عشرات المتحدثين، والمناشدات التي وجَّهها له العديد من رجال الأعمال من أجل إلغاء المؤتمر لتجنيبهم الحرج.
عرضان في نفس اليوم لأردوغان ومحمد بن سلمان
وبحسب صحيفة The New York Times الأميركية، فإن العرضين المتنافسين اللذين أظهرهما أردوغان ومحمد بن سلمان على المنصة، سواءٌ في البرلمان التركي أو فندق ريتز كارلتون، كانا أحدث مشهدين في المعركة متزايدة المخاطر التي لم تعد تترك فرصةً واحدة للتراجع على ما يبدو، وأشعلت مواجهةً بين حليفين من حلفاء أميركا يطمح كلاهما إلى تولِّي قيادة المنطقة.
وفي واشنطن، صرَّح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأشدِّ انتقاداته ضد حليفه السعودي حتى الآن، إذ وصف أحدث روايةٍ رسمية سعودية عن اختفاء خاشقجي، التي ذُكِر فيها أنَّه خُنِق حتى الموت بالخطأ في أثناء محاولةٍ لإقناعه بالعودة إلى الوطن، بأنَّها "أسوأ عملية تستُّر على الإطلاق". مع أنَّه اعتبرها "منطقية" قبل بضعة أيام.
وفي أول رد فعلٍ عقابي تتخذه الإدارة الأميركية في الأسابيع الثلاثة التي تلت الاختفاء، ذكرت أيضاً أنَّها ستُلغي تأشيرات 21 سعودياً يشتبه في تورُّطهم في قتل خاشقجي، الذي كان يقيم في ولاية فرجينيا الأميركية، ويعمل صحافياً في صحيفة The Washington Post الأميركية.
وترى الصحيفة الأميركية أن الخطاب الذي ألقاه أردوغان يوم أمس، وضع على عاتقه الآن استغلال الضجة الدولية المثارة بشأن مقتل خاشقجي لإلحاق أكبر ضررٍ ممكن بالصورة العامة لولي العهد، الذي روَّج لنفسه في الغرب على أنَّه إصلاحي جريء وحليفٌ محوري. وفي الوقت نفسه، واصل أردوغان الاحتفاظ بأهمِّ أوراقه الرابحة، وهي الكشف عن تسجيلٍ صوتي وأدلة أخرى على عملية القتل يزعم مسؤولون أتراك أنَّها بحوزتهم.
إطراء سعودي لروسيا
وباستعراض ولي العهد لعضلاته السياسية في المؤتمر الاستثماري، فقد تباهى برفضه التراجع في مواجهة الفضيحة، مُظهِراً أنَّ إغراء الودائع النفطية الهائلة وصندوق الثروة السيادية في المملكة ما زال بإمكانهما إجبار مسؤولين تنفيذيين على الإشادة به رغم ردود الفعل الحادة الأخيرة.
ويبدو أنَّه لم يكن هناك أي اهتمام تقريباً بوجود صفوفٍ من المقاعد الفارغة في جلسات المؤتمر التي عُقدت عصراً. وقال الديوان الملكي السعودي إنَّه سيعلن صفقاتٍ بقيمة 50 مليون دولار من المؤتمر مع شركاتٍ مثل هيونداي وهاليبرتون.
وفي رسالةٍ موجَّهة إلى واشنطن، انهال الإعلام السعودي بإطراءٍ خاص على مدير صندوق روسي مُقرَّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقال كيريل ديمتريف مدير الصندوق: "المملكة العربية السعودية شريكٌ عظيم لنا".
كان ذلك تذكيراً ضمنياً للعالم بأنَّ ولي العهد، صاحب الـ33 عاماً، يمكن أن يبقى بين الشخصيات القوية في الشرق الأوسط لعقودٍ قادمة، بغضِّ النظر عن الأدلة التي ستعلنها تركيا.
تقديم ولي العهد السعودي التعزية لنجل خاشقجي
ووقف ولي العهد، وكأنَّه يريد تأكيد ذلك، أمام كاميرات الفيديو في أحد القصور بالرياض للتعبير عن تعازيه في مصافحةٍ مُصطنعة بعناية مع صلاح نجل خاشقجي.
إذ ظهر صلاح خاشقجي، الذي مُنع من مغادرة المملكة، متألماً. كان والده من أشد منتقدي ولي العهد، وقال عددٌ متزايد من المسؤولين الغربيين الحاليين والسابقين من ذوي الخبرة في شؤون المملكة، إنَّ ولي العهد أصدر إذناً بقتل خاشقجي.
وبحسب نيويورك تايمز، فقد بدا أنَّ صلاح كان مُجبراً على المصافحة التي أُذيعت عبر وسائل إعلام حكومية سعودية.
وقال بروس ريدل، المسؤول الاستخباراتي الأميركي السابق المتخصص في شؤون المملكة العربية السعودية، إنَّ ولي العهد "خلق بالتأكيد أجواء من الخوف داخل المملكة، وقد أدى مقتل خاشقجي إلى تعزيز ذلك".
جديرٌ بالذكر أنَّ المؤتمر الاستثماري عُقِد في الفندق نفسه الذي استخدمه محمد بن سلمان في العام الماضي 2017 سجناً لاحتجاز نحو 200 شخصٍ، من بينهم رجال أعمال وأفراد من العائلة المالكة، بينما ضغط عليهم بشدة للتنازل عن مليارات الدولارات، التي زَعَم أنَّها اكتُسِبَت عبر فسادٍ لم يُحدَّد.
تصريحات أردوغان العلنية إلى ماذا توحي؟
لكن إذا كانت سلطة ولي العهد تبدو بلا منازع داخل المملكة، فقد أوضح أردوغان أيضاً يوم أمس أنَّه لا ينوي التراجع حقيقة تورط ولي العهد السعودي أمام الكثير من بقية دول العالم.
وفي أول تصريحاتٍ علنية لأردوغان حول تفاصيل الاتهامات بشأن مقتل خاشقجي، قال إنَّ الدبلوماسيين في القنصلية السعودية حالما عرفوا أنَّ خاشقجي سيعود إليها من أجل وثيقةٍ ما، عاد أحدهم إلى الرياض، حيثُ "بدأ رسم خطة العملية". ثم توجَّه فريقٌ مكون من 15 عميلاً سعودياً إلى مدينة إسطنبول التركية، في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، لإعداد كمينٍ لخاشقجي.
وقال أردوغان مهاجماً الرواية الرسمية السعودية: "من الواضح أنَّ هذا القتل لم يحدث فوراً، لكنَّه كان مُدبَّراً"، وطالَب بعقاب "أعلى المسؤولين".
وقال آرون ديفيد ميلر، المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأميركية والباحث في مركز ويلسون: "السعوديون تحت الضغط لأنَّهم لا يستطيعون الإفلات من العقاب بالمال هذه المرة. لن يتمكن نفطهم ولا أموالهم من مسح آثار الدماء، أو إسكات فرحة أعدائهم، ومن بينهم أردوغان".
خطاب أردوغان كان موجهاً لشخصين فقط
بدا الخطاب الذي ألقاه أردوغان موجهاً في الأساس إلى شخصين: الملك سلمان والد ولي العهد المُسِن، وترمب.
إذ خصَّ أردوغان الملك سلمان مرتين بالمديح والاحترام. وقال: "لا أشك في صدق الملك سلمان".
وترى الصحيفة الأميركية أن الملك سلمان هو الوحيد الذي يمكن أن يكبح جماح سلطة ولي العهد دون أي عنف، ويبدو أنَّ أردوغان يسعى لبث الفرقة بينهما.
ودون أن يذكر أردوغان الأمير محمد بالاسم "ميَّز بين الملك سلمان وجميع المتهمين الآخرين في المملكة العربية السعودية. وقال إنَّه يطلب من الملك تلبية مطالب العدالة، ويتوقع منه ذلك"، وفقاً لما ذكره ياسين أقطاي، مستشار أردوغان والمسؤول البارز في حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وذكر كذلك بكل احترام مكالمةً هاتفية أجراها مؤخراً مع ترمب. وقال: "اتفقنا على كشف جميع جوانب هذه القضية".
ما احتمالية انقلاب البيت الأبيض على محمد بن سلمان؟
قال شخصان مُقرَّبان من أردوغان، مطالبين بعدم الإفصاح عن هويتهما للتحدث عن محادثاتٍ أُجريت بينهما وبينه، إنَّه يعتقد أنَّ إقناع ترمب بالتخلي عن الأمير محمد سيكون شرطاً أساسياً لأي محاولةٍ تهدف إلى تقييده أو الإطاحة به.
يُذكَر أنَّ بعض المسؤولين الأتراك قدَّموا تسريباتٍ واضحة لوسائل الإعلام عن مقتل خاشقجي، وذلك جزئياً من أجل قلب الرأي العام الأميركي وترمب ضد الأمير محمد.
ومن وجهة نظر الصحيفة الأميركية فإن تحوُّل البيت الأبيض ضد الأمير محمد يبدو احتمالاً مستبعداً، وأحد أسباب ذلك هو أنَّ جاريد كوشنر صهر ترمب ومستشاره في شؤون الشرق الأوسط بذل جهوداً كبيرة لجعل الأمير محمد بن سلمان ركيزةً لاستراتيجيات الإدارة الأميركية، الرامية إلى احتواء إيران وتأمين إسرائيل.
يُذكَر أنَّ الأمير محمد ظهر مبتسماً في لقاءٍ عُقِد يوم الإثنين 22 أكتوبر/تشرين الأول، مع وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين، ويبدو أنَّ زيارة الأخير تعكس الدعم المستمر من البيت الأبيض، رغم تصريحات ترمب التي أدلى بها لاحقاً.
وقال الشخصان المُقرَّبان من أردوغان إنَّه يدرك ذلك. لكن من الواضح أنَّه رأى أنَّ فرصة إضعاف الأمير محمد بتلطيخه بدماء خاشقجي تستحق المجازفة، في ظل احتمالية أن ينجو ولي العهد من ذلك، ويصبح حاكماً سعودياً معادياً لتركيا على مرِّ السنوات الخمسين المقبلة.