قدمت صحيفة Financial Times البريطانية، الاثنين 22 أكتوبر/تشرين الأول 2018، مقارنة بين المشهد الحالي الذي تعيشه السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي، وما كان عليه الوضع في العام الماضي خلال مبادرة مستقبل الاستثمار السعودية، التي استضافها صندوق الاستثمارات العامة السعودي في الرياض العام الماضي.
جال وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وقتها في أروقة المكان وكأنه نجم لامع، والتفّ حوله مستثمرون ومسؤولون تنفيذيون في محاولة للظفر بصورة "سيلفي" مع الحاكم الفعلي للسعودية والمُصلِح المُنتظَر.
لكن الآن في ظل موجة الغضب الدولي العاتية جراء مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية المملكة في مدينة إسطنبول التركية، وُجِّهت الشخصيات المقرر أن تحضر المؤتمر الذي سيُقام غداً الثلاثاء، 23 أكتوبر/تشرين الأول، بتجنُّب الاختلاط علناً بالحاكم ذي الـ33 عاماً.
وقال أحد المصرفيين: "لا تلتقطوا صوراً مع محمد بن سلمان".
من انفتاح كبير إلى عزلة دولية
وتكافح السعودية لوقف فيض انسحاب الشركات الأجنبية من مؤتمرها الاستثماري الأبرز، في الوقت الذي يتصاعد فيه الضغط الدولي على المملكة لتقديم تفسير مقنع حول وفاة خاشقجي، الكاتب الدائم والمساهم في صحيفة Washington Post الأميركية.
وترى الصحيفة البريطانية أن النسخة الأولى المبهرة من المؤتمر الاستثماري أصبحت رمزاً لتعهّد الأمير بتحديث الاقتصاد السعودي، من خلال السعي لجذب استثمارات دولية إلى السوق السعودية. بينما يحمل مؤتمر هذا العام إشارة إلى سقوط المملكة في عزلة دولية.
وخلال نهاية الأسبوع، أقالت السعودية رئيس المخابرات ومسؤولاً في الديوان الملكي، وأبلغت حلفاءها بأنَّ ولي العهد رغم علمه بوجود سياسة لمحاولة إعادة منتقدي الحكومة إلى المملكة، لم يكن على علم بمقتل خاشقجي.
وأصرَّت السعودية على أن المحاولة الأولية للتغطية على تسريبات التفاصيل المروّعة لمقتل الصحافي أبقت المسألة سراً عن الأمير ومسؤولين بارزين آخرين.
ومع ذلك، فشلت هذه الرواية في إقناع الحلفاء بل وأثارت الخوف في مجتمع الاستثمار الدولي في ظل انتشار الشكوك حول التشويه المستمر للحقيقة؛ إذ أصبح الأمير هو المسؤول المباشر عن أجهزة الاستخبارات السعودية منذ وصوله للسلطة.
محاولة لإنقاذ المؤتمر من الفشل
وعلى مدار نهاية الأسبوع، عكف عمال على تشييد منصات في أرجاء قاعة فندق ريتز كارلتون المزخرفة، التي تتوسَّطها طاولةٌ مزينة بورود حمراء ووردية حيث سيُعقَد جزءٌ من المؤتمر.
واكتسب الفندق سُمعة سيئة العام الماضي، عقب أسابيع من انطلاق مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، حين أصبح مقراً للحملة التي شنها الأمير محمد بن سلمان لتطهير المملكة من الفساد؛ إذ احتجز الأمير في غرف الفندق الفخمة مئات الأمراء ورجال الأعمال المتهمين بالفساد.
ويعرض منظمو الحدث حالياً دعوات إضافية في محاولة لزيادة عدد الحضور، الذي تجاوز العام الماضي 3800 مشارك. وفي ظل إلغاء وسائل إعلام عالمية شراكاتها مع القائمين على المؤتمر، وُكِّلَت القنوات التلفزيونية والصحافة المطبوعة في المنطقة بمهام تغطية المؤتمر.
واتخذت السعودية كذلك خطوات أكثر صراحةً للدفع بشركات تستثمر في السوق السعودية للمشاركة في المؤتمر. إذ كشف أحد المصادر المطلعة أنَّ وزارة الطاقة السعودية طلبت من مسؤولين تنفيذيين كبار في شركات عالمية وقعت مؤخراً صفقات مع شركة النفط السعودية "أرامكو"، حضور المؤتمر وعقد مراسم توقيع تُبَث عبر وسائل الإعلام.
وتشمل هذه الشركات: شركة نفط Total الفرنسية، التي وقعت الشهر الجاري أكتوبر/تشرين الأول عقداً بقيمة 9 مليارات دولار لبناء مجمع للصناعات البتروكيماوية بالتعاون مع عملاق النفط السعودي "أرامكو". ومن المقرر أن يلقي باتريك بويان، الرئيس التنفيذي لشركة Total، كلمة خلال ندوة ستضم كذلك وزير الطاقة السعودي خالد الفالح.
حضور روسي قوي في دافوس الصحراء
فيما يرى آخرون في المؤتمر فرصة لتعزيز الروابط مع المملكة. ففي الوقت الذي ستتغيب فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا عن الحدث، ستبعث روسيا إلى المؤتمر كيريل دميترييف، رئيس صندوق الثروة السيادية الروسي، على رأس وفد ضخم من ممثلي شركات روسية.
وتصرُّ موسكو على أنه لا يوجد سبب لأن تدع فضيحة خاشقجي تُخرِج جهود التقارب مع الرياض عن مسارها.
وسيشهد المؤتمر كذلك حضور ديميتري كونوف رئيس شركة Sibur أكبر منتجي الصناعات البتروكيميائية في روسيا، وأندريه كوستين الرئيس التنفيذي لبنك VTB، وميخائيل بيوتروفيسكي مدير متحف الأرميتاج الروسي في مدينة سان بطرسبورغ.
إلى جانب ذلك، يعتزم رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان حضور المؤتمر، وستعد هذه ثاني زيارة له إلى المملكة خلال الأسابيع الأخيرة، في ظل استمرار المناقشات حول ضخ مساعدات مالية سعودية إلى باكستان.
تمثيل ضعيف لشركات كبرى حفاظاً للروابط
ورغم رفض شركات كبرى مثل مجموعة JPMorgan المصرفية الأميركية وشركة BlackRock الأميركية لإدارة المحافظ الاستثمارية، حضور المؤتمر، يُتوقَع أن ترسل شركات أخرى فرقاً من صغار موظفيها للمشاركة في المؤتمر بهدف الحفاظ على الروابط مع الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط.
وهذا هو ما تعتزم فعله أيضاً شركة Citigroup الأميركية للاستثمار المصرفي -التي عادت إلى السوق السعودية بعد الانسحاب منه في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001- وذلك على الرغم من أنَّ أحدث نسخة من برنامج المؤتمر تشير إلى انسحاب اثنين من كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة -هم مايكل روبرتس كبير مسؤولي القروض، وجاي كولنز نائب رئيس مجلس الإدارة لشؤون الشركات والاستثمار المصرفي- من المشاركة في المؤتمر كمتحدثين. ورفضت Citigroup الإدلاء بتعليق.
من جانبه، قال أحد المسؤولين التنفيذيين الذي سيشارك في المؤتمر: "إنه مثل زفاف عربي إذا لم تلبِّ الدعوة فستثير غضبهم. وسيتذكرون ذلك. سيتصرفون كأن الأمر عادي، لكن في ثقافتهم هذه إهانة".
وسيشكل حضور ماسايوشي سون، الرئيس التنفيذي لمجموعة SoftBank، المؤتمر مؤشراً حيوياً، إلى جانب مجموعة من المسؤولين التنفيذيين لشركات تدعمها السعودية، من بينهم دارا خسروشاهي الرئيس التنفيذي لشركة Uber -تطبيق طلب السيارات الذي استثمرت فيه السعودية مبلغ 3.5 مليار دولار- وكذلك انسحاب ستيفن شوارتزمان المدير التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة Blackstone أم مشاركته في الحدث.
وخلال مؤتمر العام الماضي، وقف ماسايوشي سون على ذات المنصة مع ولي العهد السعودي. ويعد صندوق "رؤية"، الذي أسسته Softbank برأسمال يعادل 93 مليار دولار، نصفه تقريباً بتمويل سعودي، أكبر صندوق استثمار تكنولوجي في العالم. وقد استغل الأمير محمد بن سلمان هذه الشراكة لترسيخ صورته دولياً بأنه مستثمر تكنولوجي طموح. لكن مصادر مقربة من المجموعة ذكرت أنَّ حضور سون مؤتمر هذا العام غير مؤكد إلى الآن.
من جانبه، قال عدنان حسن، الرئيس التنفيذي لشركة Mecasa للاستشارات الاستثمارية: "أفهم غرض رسالة البعض، وبالأخص الشخصيات العامة، بالانسحاب من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار. فهذا بمثابة تصريح أن (السعودية) تجاوزت خطاً أحمر".
مواقف دولية مؤقتة، ثم تعود الأمور لطبيعتها بالنهاية
بيد أنَّ حسن، الذي سيتحدث خلال إحدى ندوات المؤتمر، يرى أنَّ العالم عليه أن يستمر في الانخراط مع المملكة رغم مقتل خاشقجي. إذ قال: "إذا اتُّخِذَ موقف شديد الصرامة يستند إلى مبدأ، فلا يجب على المرء إذاً أن يكتفي بالانسحاب بل عليه في مثل هذه الحالات وقف أعماله تماماً".
وقال أيهم كامل، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة أوراسيا، إنه "ثمة تحول إلى الاهتمام بالرؤساء التنفيذيين الإقليميين والآسيويين لأن القيادة السعودية مُصرّة على عقد المؤتمر بأي ثمن. قد تكون نتيجة هذا المؤتمر إما الفشل أو النجاح، لكن خلال عدة أشهر، سيظل التأثير الأكبر على البلد هو تراجع الثقة العالمية ببرنامج الإصلاح الاقتصادي السعودي"، حسب ما نقل موقع بلومبرغ.
وبينما البرنامج النهائي وقائمة الذين سيحضرون المؤتمر هذه السنة ليسا واضحين -وقد أزال المنظمون بعض الأسماء التي كان من المقرر أن تحضر المؤتمر- قال متحدث رسمي سعودي إن الحدث "سيستمر ببرنامج محدّث يرتكز على التوجهات العالمية الجديدة في مجال الأعمال، الاستثمار والتكنولوجيا. وسيلقي أكثر من 120 شخصية كلماتٍ في المؤتمر خلال 35 جلسة تمتد على مدى 3 أيام".
ولا تزال الكثير من البنوك متمسكة بإرسال وفودٍ على أمل تخفيف الضرر الذي لحق بعلاقتها مع آل سعود، فقد خططت مجموعتا HSBC, Societe Generale SA و Credit Suisse Group AG لإرسال مصرفيين رفيعي المستوى في مجال الاستثمار إلى المؤتمر، رغم امتناع الرؤساء التنفيذيين في البنكين عن حضوره.
وقال آرثي جاندراسيكران، المحلل المالي في مجموعة Shuaa Capital PSC في دبي: "الاقتصاد السعودي كبير جداً ومهم جداً بالنسبة للشرق الأوسط وبقية العالم، وبالتالي من غير المرجح أن يتم تجاهله من قبل المستثمرين لفترة طويلة. قد يوقف المستثمرون تعاونهم مع السعودية الآن، لكنهم في النهاية سيعودون إلى التعامل معها حين تستقر الحال".