أخيراً خضعت الرياض للضغوط الدولية واعترفت بأنها مَن قتلت جمال خاشقجي في قنصليتها في إسطنبول، لكن ليتها لم تعترف!
فهذا الاعتراف وصفه الكثيرون من أعضاء الكونغرس والشيوخ الأميركيين بأنه (سخيف) ويمثل كذبة من سلسلة الكذبات التي اعتادت الحكومة السعودية سردها منذ بداية قضية اختفاء الكاتب السعودي خاشقجي وفرضية قتله في قنصلية بلاده بإسطنبول، فالبداية كانت من ولي العهد السعودي (الرأس المدبّر للجريمة كلها) الذي صرَّح لوكالة بلومبيرغ منذ الأيام الأولى لاختفاء الشهيد خاشقجي، بأنه دخل القنصلية وخرج منها ويمكن لقوات الأمن التركية أن تدخل القنصلية وتفتشها إن أرادت؛ ليتبين بعدها أن خاشقجي دخل فعلاً إلى القنصلية لكنه لم يخرج منها، والتصريح الذي كان يسمح للأمن التركي بدخول القنصلية ماطَل فيه السعوديون كثيراً حتى تحقق منذ أيام قليلة، ويجد الأتراك أدلة تزيد من احتمالية أن خاشقجي قُتل غدراً وغيلةً، وليس حسب ما تريد الرياض ترويجه بأن شجاراً وقع بينه وبين أشخاص في القنصلية وأدى هذا لوفاته، مع كامل التعازي الملكية لأسرته وأبنائه!
أنا هنا لست في محل أن أضحك على المسوّغات الغبية التي ساقتها الرياض في سرد رواية توافقت إلى حد بعيد مع التخيل القصصي الذي كتبه العريف ضاحي خلفان على شكل تغريدة لقيت تندراً واسعاً، فالمجال لا يسمح بهذا؛ لأننا أمام جريمة ذهب ضحيتها رجل محترم وشجاع رفض أن يصفه العالم بأنه معارض وإنما محب لوطنه، فإذا هذا الوطن تحكمه عصابة أمرت في ليل دامس بأن ينتقل هذا الرجل إلى رحمة الله في أقرب وقت ممكن! ولكني أمام رواية وجدت رئيس أكبر دولة في العالم يصفق لها، ويصفها بالرواية الموثوق بها فور صدورها، وكأن التوقيت مدروس بين خروجها وتلقّفها من قِبل ترمب الذي تحوَّل في تناقُض عجيب معروف عنه إلى انتقادها وتغيير مسار ثقته بالرواية السعودية إلى قوله: "لست مرتاحاً لموقف السعودية مع ما جرى لخاشقجي، ولا أستبعد أن تكون هناك عقوبات عليها"! ولعلي هنا يجب أن أشكر كل المؤسسات الأميركية والكونغرس ومجلس الشيوخ على قدرة كل هؤلاء على إخراج ترمب بهذه الصورة المهزوزة التي تفضحه أمام الرأي العام الأميركي، وتدل على النزاع الداخلي الذي يشعر به هذا الرئيس بين رغبته في الدفاع عن العائلة الحاكمة في السعودية وبين الخضوع للضغوط الداخلية والدولية التي تجبره على التخلي عن رغبته الأولى إجباراً لا اختياراً، وهذا ما نراه بين دقيقة وأخرى من تقلبات لا تليق برئيس أميركي شره للأموال السعودية ويفضلها على حساب حياة إنسانية كانت تعيش في واشنطن كمنفى اختياري لها، واليوم لا يُعرف لجثتها أي مكان لائق لتدفن فيه!
ربما يكون أكثر ما جعل العالم بحكوماته ومؤسساته ومنظماته يرتاب في الرواية السعودية هو أن هذا الشجار الذي أودى بحياة خاشقجي تبعه غموض في كيفية وقوع هذا الشجار على مرأى من القنصل وحاشيته ومراجعيه، وكأنه شجار من النمل لا يُرى ولا يُسمع، وفوق هذا يُقتل طرف فيه وتُخرج جثته وكل مَن في القنصلية في عالمه الخاص! أي (تافه) -كرّم الله القارئ- الذي عليه أن يصدق هذا السيناريو الفاشل الذي يهمه في الأول والأخير إنقاذ رقبة ولي العهد من مشنقة الاتهام العالمي الذي يطالب برأسه؟! وأي عقل يمكنه أن تتسلسل الأحداث التي رواها الجانب السعودي في رأسه دون أن يسأل بعدها مباشرة أين جثمان جمال خاشقجي المقتول؟! ولذا فإن العبء كله يقع على عاتق تركيا التي لم تتوقف الرياض في استباحة سيادتها وأرضها بقتلها الشنيع لمواطنها خاشقجي، بل تحاول اليوم النيل من سمعتها وقدرة استخباراتها على إظهار الحقيقة كاملة، والتي يبدو من التسريبات المدعمة بالصوت والصورة أنها على غير الرواية السعودية الهشة، وتجد أنقرة نفسها مضطرة لدحض رواية الرياض لاسترجاع كرامتها وشرف أرضها الذي تحاول السعودية اليوم التلاعب بهما على حساب الدولة التركية، التي آمل أنها لم تكن على اطلاع مسبق بالرواية السعودية كحال واشنطن التي تلقفت الرواية فور صدورها ببيان للبيت الأبيض! وأن الحقيقة التي انتظرناها جميعاً ستكون من الباب التركي الرسمي كما يريد العالم أن تخرج منه؛ لأنه لو توافقت رواية أنقرة مع رواية الرياض ستنهار القيم بمثالية أنقرة التي يتحدث أردوغان دائماً عنها، ستنهار صورة هذا البلد الذي لا نريد لصورته أن تتخلخل ليس لأننا نريد أن يقال ما نريده ونتمناه للقتلة أياً كانوا، ولكنها الحقيقة التي لم نرَها تتمثل أمامنا منذ زمن بعيد، ونتمنى للأتراك أن يعيدوها لنا على هيئة حق خاشقجي الذي يجب ألا يذهب هدراً.
فاصلة أخيرة:
اكذب كما تشاء، لكنني حتماً سأصدق ما أريد!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.