اجتماعات عديدة بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، في محاولة للوصول إلى صيغة تفاهم ترضي الأطراف الثلاثة حول أزمة سد النهضة، لكن بلا نتيجة حتى الآن. آخرها كان يوم السبت 5 مايو/أيار 2018، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، الذي جمع وزراء الري وخبراء، لكنه انتهى إلى "لا شيء".
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي اختار طريق التفاوض مع الجانب الإثيوبي، هو كان يملك خيارين: إما التفاوض أو التحكيم الدولي.
"رفض الرئيس السيسي الاختيار الثاني، وانحاز لمسار المفاوضات، وقرَّر توسيط السعودية للحل"، هكذا قال أحد قيادات وزارة الري المصرية والمشتبكين مع ملف السد، تحدث لـ"عربي بوست" شريطة إخفاء اسمه.
السعودية الوسيط
كانت السعودية هي الخيار المقترح، خصوصاً أنها كانت صاحبة الدعم البارز في ظهر القائد العسكري في فترة ما بعد الإطاحة بالإخوان المسلمين من سدة الحكم في البلاد. لكن المصدر قال إنهم فوجئوا باختيار السعودية.
المفاجأة تأتي من كون الرياض التي أوكل لها السيسي الوساطة لإنهاء الازمة، كانت هي في نفس الوقت أحد أهم ممولي السد، عبر رجل الأعمال السعودي محمد العمودي، القريب من الأسرة الحاكمة، والذي يمتلك العديد من الاستثمارات في إثيوبيا.
فصعود نجم العمودي في عالم المال مقرون باقترابه من الأسرة الحاكمة السعودية، فالرجل اليمني الأصل سرعان ما اقترب من الأسرة الحاكمة بعد هجرته للسعودية، حتى صار المستشار الاقتصادي والمدير المالي لثروة ولي العهد آنذاك الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
وكانت النقلة الأكبر في حياة الرجل الاقتصاديه عام 1988، حين أوكل إلى شركته بناء مجمع تخزين النفط تحت الأرض في المملكة العربية السعودية، ليتحول بعدها إلى واحد من أهم رجال الخليج، قبل أن يقبض عليه محمد بن سلمان بتهمة الفساد، ويودعه في أحد سجون المملكة، والتي ما زال قابعاً فيها حتى الآن.
لمدة عامين تقريباً أسنَدت القاهرة ملف التفاوض (الوساطة) للمملكة، في الوقت الذي كان فيه الملياردير السعودي والمدير المالي لولي العهد السعودي هو الداعم والممول الأكبر للسد.
لكن المفاوضات أسفرت في النهاية عن "لا شيء"، بل إنها أعطت مهلة لإثيوبيا لإتمام أكبر قدر من المشروع بأقصى سرعة ممكنة، في سرية تامة، وتعتيم حقيقي على ما يحدث فعلياً على الأرض.
وقال المصدر "إدارة الأزمة كانت بيد الرئيس شخصياً ومعه جهاز المخابرات، دورنا اقتصر على الرأي الفني بالأساس".
وأضاف "رفعنا تقريراً للرئاسة، مضمونه أن إثيوبيا لم تبنِ هذا السد من أجل المياه، لكن من أجل الكهرباء". وذكر أنهم أوضحوا للقيادة السياسية أن أمامهم مسارين:
الأول هو السير في المفاوضات وعرض القبول بالسد، شريطة أن يتم ملء السد خلال 7 سنوات بحد أدنى، وهو ما يعني انخفاض حصة مصر في مياه النيل الأزرق (القادم من إثيوبيا) من 48 مليار متر مكعب سنوياً إلى 30 مليار متر مكعب أثناء مدة الملء، على أن تبقى حصة النيل الأبيض (القادم من أوغندا) ثابتة.
والثاني هو اللجوء للتحكيم الدولي، استناداً إلى اتفاقية 1929، والتي تضمن حقوق مصر في حصة ثابتة من المياه (55.5 مليار متر مكعب) سنوياً، بالتوازي مع تدشين حملة إعلامية في الغرب عن خطورة السد البيئية، لو تم بالشكل الذي تقوله إثيوبيا.
لكنه أشار أيضاً إلى أن هذا العجز المائي سيرفع ملوحة الدلتا ويدمرها تماماً، مفرزاً آلاف المهاجرين غير الشرعيين لأوروبا، وهو ما لا طاقة لهم به.
الوسيط الأميركي
وأضاف القيادي في وزارة الري، أنه بعد أن أيقنت القاهرة في الأشهر الماضية، عجز الرياض عن إنهاء الأزمة، وأن الأمور على مشارف الكارثة، طلبت من واشنطن التدخل للوساطة، اعتماداً على التقارب ما بين السيسي وترامب.
وبالفعل بادر الأخير بإرسال وفد رفيع المستوى، يوم 26 مارس/آذار، ضم كلاً من إريك ستروماير، مساعد وزير الخارجية لشرق إفريقيا، وديفيد جريني مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى، وأرون سالزبيرج المنسق الخاص للموارد المائية، في رحلة مكوكية شملت الخرطوم والقاهرة وأديس أبابا، على أمل الوصول لنقطة تفاهم، لكنهم قوبلوا بـ"تعنت إثيوبي"، وفشلوا حتى الآن في مهمتهم، على حد تعبير المصدر.
ويأتي هذا التعنت الإثيوبي من رفضهم التام أي تفاوض على تمديد الفترة الزمنية اللازمة لملء خزان السد، إذ تصرّ أديس أبابا على إتمام العملية في 3 سنوات فقط، وهو ما يعني عدم منح مصر أي نقطة مياه طوال هذه الفترة.
وكان مما عرضته مصر على الجانب الإثيوبي، طبقاً للمصدر، أن يتم ملء خزان السد على مدى 7 سنوات بدلاً من 3 سنوات، وتنازل مصر بالتالي عن 18 مليار متر مكعب من حصتها القادمة من إثيوبيا، والمقدر بـ48 مليار متر مكعبة، لتكون الحصة السنوية لمصر خلال هذه السنوات 30 مليار متر مكعب فقط.
لكن أديس أبابا ترفض بإصرار، مؤكدة أنه "ولا نقطة مياه خلال سنوات الملء". هذا في الوقت الذي تقول مصر إن هذا يعني حرمانها من 67% من مصادر المياه لديها طوال مدة الملء، وهو ما يعني دمار الزراعة نهائياً في مصر. هذه العقدة الأساسية هي التي تسببت في وقوع فشل وراء آخر في المفاوضات بين البلدين، كان آخره اجتماع وزراء ري مصر والسودان وإثيوبيا في أديس أبابا، يوم 5 مايو/أيار 2018.
الجميع الآن في انتظار اجتماع 15 مايو/أيار، الذي اقترحته السودان، من جانب ترى إثيوبيا أنه من حقها إقامة مشروع تنموي يولد لها الكهرباء على النهر، خصوصاً أنها أنفقت كل ما تملك في الاستثمار فيه، وعليه فإنها لن تسمح بمرور قطرة مياه واحدة لمصر قبل ملء الخزان (76 مليار متر مكعب)، لتتمكن من إدارة الـ6 توربينات وتولد كهرباء.
خياران باقيان
أمام القيادة المصرية الآن خيار من اثنين، الأول أن تتوجه فوراً للتحكيم الدولي، استناداً على اتفاقية 1929، وفي الأغلب سوف تحكم لها المحكمة بـ"تعويضات باهظه"، لن تستطيع معها إثيوبيا استكمال المشروع، طبقاً لما ذكره المسؤول بوزارة الري.
والخيار الثاني هو أن تستمر في مسار المفاوضات والوساطة، خصوصاً بعد دخول إدارة ترامب على الخط.
حتى الآن لا يمكن الجزم إذا ما كانت القاهرة سوف تتحرك قانونياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أم يستمر السيسي في وضع أعناق المصريين في أيدي عواصم أخرى، لكن هذا ما ستكشف لنا عنه الشهور القليلة القادمة.