قالت صحيفة The Washington Post الأميركية أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب حين اختار الرياض لكي تكون أولى محطاته الدولية، كان يضع رهاناً على السعودية، التي استقبلته باستعراضاتٍ عسكريةٍ، وأبهرته بعرضٍ للطائرات المقاتلة وأمتعته برقصة سيوفٍ تراثيةٍ.لكن حادثة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ربما تتسبب في أزمة
كان العقل المدبر وراء ذلك الرهان هو جاريد كوشنر، مستشار البيت الأبيض الذي أقنع ترمب بزيارة السعودية في أولى رحلاته الخارجية ورتَّب لمهرجان حبٍّ حقيقيٍّ بين الرئيس الجديد وحاكم المملكة الملك سلمان بن عبد العزيز.
زرع صهر الرئيس بعنايةٍ بذور شراكةٍ حميميةٍ مع وريث العرش السعودي، ولي العهد محمد بن سلمان، الذي احتفى به كوشنر كمُصلِحٍ يسعى إلى تحديث المملكة المسرفة في المحافظة والقائم اقتصادها على البترول.
لكن التحالف الأميركي السعودي، وكذلك العلاقة بين كوشنر، ذي الـ37 عاماً، ومحمد، ذي الـ33، هما الآن في خطرٍ من جراء الاختفاء غير المبرر وجريمة القتل الشنيعة المزعومة بحق جمال خاشقجي، الصحافي السعودي الذي كان يقيم في الولايات المتحدة ويكتب أعمدةً لصالح صحيفة The Washington Post الأميركية.
وقد أسفر مقتله المشتبه به عن استياءٍ دوليٍّ ومناشداتٍ بتطبيق عقوباتٍ صارمةٍ على الرياض.
ترمب وإدارته في مأزق بسبب خاشقجي، لما يرغبه كوشنر من دعم ولي العهد السعودي
كوشنر قد أوضح بالفعل عدم اعتزامه التخلي عن ولي العهد. وهدَّد ترمب نفسه بفرض "عقوباتٍ مشدَّدةٍ" حتى مع تكرار تشكيكه في إجرام النظام السعودي وفعالية الإجراءات الصارمة.
وقال جيمس أوبرويتر، السفير الأميركي السابق إلى السعودية في عهد جورج دبليو بوش: "لقد وضع الأمر الرئيس ترمب وإدارته الآن في مأزقٍ، وسنرى كيف سيكون أداؤهم".
ومن وجهة نظر كوشنر أتت الشراكة ثمارها على هيئة تعهدات المملكة السعودية بشراء أسلحةٍ أميركيةٍ بقيمة مليارات الدولارات فضلاً عن موقف المملكة كحليفٍ عربيٍّ في مكافحة إيران والتطرف في الشرق الأوسط، وفقاً لمسؤولين في الإدارة الأميركية.
وقد اجتمع ترمب والملك سلمان معاً بـ54 قائداً مسلماً للتنديد جماعياً بالإرهاب ضمن فعاليات القمة المعقودة في الرياض شهر مايو/أيار 2017. وكذلك أسَّس السعوديون مركزاً لمكافحة الأيديولوجية المتطرفة، وافتتحه ترمب أثناء رحلته عن طريق وضع يده على كرةٍ مضيئةٍ.
خاصة وأن كوشنر يشيد بخطوات ولي العهد بخصوص الاقتصاد السعودي
كوشنر أشاد بالخطوات التي اتخذها محمد بن سلمان من أجل تعصير الاقتصاد السعودي والمجتمع المكبوت منذ قديم الزمان، بما فيها إتاحة قيادة النساء للسيارات وتشجيع ريادة الأعمال لديهن.
إلى جانب أنه يعتبر محمد بن سلمان ممثِّلاً حكيماً وذا نفوذٍ للآراء الأميركية حول السياسة الجغرافية في العالم الإسلامي، ويطمح في أن يمنحه ولي العهد في النهاية دعم السعودية -موطن أكثر موقعين مقدَّسين في الدين الإسلامي- لخطة السلام الإسرائيلي الفلسطيني الفاشلة الخاصة به.
ولكن أزمة خاشقجي قد أصبحت حساباً لكوشنر.
وعلَّق وزير الدفاع ومدير وكالة الاستخبارات المركزية في عهد باراك أوباما، ليون بانيتا، قائلاً: "يراودني شعورٌ بأنهم راهنوا بكل ما لديهم على أمل أن يستطيع السعوديون مساعدة الولايات المتحدة، ليس فقط في التعامل مع تحديات الإرهاب، ولكن كذلك في التعامل مع السلام في الشرق الأوسط".
وتزعم السلطات التركية أن خاشقجي، الذي كان ينتقد الأمير محمد في مقالاته، قد قُتِل وقُطِّعت أوصاله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. وفي محادثاتٍ تحصَّلت عليها الاستخبارات الأميركية، ناقش مسؤولون سعوديون قبلها خططاً لأجل استدراج خاشقجي إلى وطنه الأصلي السعودية واعتقاله. ويؤمن المسؤولون الأميركيون أن ولي العهد نفسه هو من أمر بتنفيذ ذلك المخطط.
لكن أزمة خاشقجي والتي لم يعلم بها كوشنر مسبقاً، وضعته في أزمة
وفقاً لشخصين على درايةٍ بمعرفتهما عن الأمر، لم يعلم كوشنر بشأن هذا المخطط قبل اختفاء خاشقجي. فليس من المعتاد أن يُطلَع أحد كبار مستشاري البيت الأبيض على كل معلومةٍ استخباراتيةٍ في إحدى المناطق الإقليمية، ما لم يقرر المسؤولون إن الأمر يستدعي انتباهه أو انتباهها، على حد قول مسؤولين سابقين بالأمن القومي.
وقال ترمب إن كوشنر قد استفسر شخصياً من الأمير محمد الأسبوع الماضي عن مسألة اختفاء خاشقجي، وقوبل بإنكارٍ من ولي العهد لأي تورطٍ في الأمر. وأوضح الرئيس قائلاً: "ينكرون الأمر بكل صورةٍ تتخيلها"، في لقاءٍ صحفيٍّ عُرِض يوم الأحد 14 أكتوبر/تشرين الأول على برنامج 60 Minutes على قناة CBS.
ومن جانبهم، يقول منتقدو إدارة ترمب إنها كانت سذاجةً خطيرةً من كوشنر أن يثق بالأمير محمد ويسمح بأن يتلاعب به شخصٌ تطلعيٌّ من العائلة الملكية يسحر الأجانب حتى وإن كان عديم الشفقة في ترسيخ سلطته داخل المملكة.
ورفض كوشنر التعليق على علاقته مع الأمير محمد. ويرى المدافعون عنه أنه كان واقعياً بشأن سلطة الأمير ولم يخشَ توبيخه سراً حين يختلف مع أساليبه ولكنه يؤمن رغم ذلك بوجود منافع على المدى البعيد من الحفاظ على علاقةٍ مقرَّبةٍ معه.
وفي حديثه عن الأمر، قال السيناتور اليميني عن ولاية فلوريدا، ماركو روبيو، يوم الأحد ١٤ أكتوبر/تشرين الأول على قناة CNN: "لا أظنه قد تلاعب بهم"، مشيراً إلى إدارة ترمب والأمير محمد. واستطرد قائلاً: "أرى أنهم أرادوا وضع استراتيجيةٍ في الشرق الأوسط كان أحد ملامحها الأساسية وجود حكومةٍ غير مثاليةٍ لتكبح الطموحات الإيرانية في المنطقة".
ومن الجدير بالذكر أن ترمب قد استبعد تماماً إلغاء مبيعات الأسلحة إلى السعودية، مصرِّحاً يوم الأحد بأنها ستكون "حماقةً كبيرةً لدولتنا" أن تتخلى عن الصفقة التي يصف قيمتها بالخطأ بأنها 110 مليارات دولار.
وفي السياق ذاته، قال مسؤولون بالاستخبارات الأميركية يتابعون بقلقٍ صعود الأمير محمد إلى الحكم منذ قبل تنصيبه ولياً للعهد في يونيو/حزيران 2018 إن تقييمهم لشخصيته هو أنه طموحٌ وساذج عديم الخبرة وغير مستعدٍّ لتولي منصبٍ رفيعٍ كهذا. وأضافوا أنهم قد رأوا انعكاساً للأمير محمد على كوشنر. فها هو الآخر "أمير" شاب متعطش للسلطة ويفتقر إلى أي خبرةٍ سابقةٍ في الأعمال الحكومية.
وقال جوزيف ويستفال، السفير الأميركي إلى السعودية في عهد أوباما: "إن الأمير محمد رجلٌ ماكرٌ جداً، وذكي جداً، ومؤهل جداً. إنه يتعلم بسرعةٍ كبيرةٍ. وأرى أنه يعرف، أو بالتأكيد قد عرف الكثير عن نظامنا وسياساتنا".
ونشأت الصداقة بين ولي العهد وكوشنر في مارس 2017 واستمرت حتى الآن
حيث تقرَّب الأمير محمد وكوشنر من بعضهما خلال الفترة الأولى من رئاسة ترمب. ونشأت بينهما صداقةٌ أثناء مأدبة غداءٍ في مارس/آذار 2017 وأجريا مكالماتٍ هاتفيةً فرديةً خاصةً فاجأت قادة أجهزة الاستخبارات وأصابت مسؤولي الأمن القومي بالقلق لأن مسجِّلي الملاحظات لم يكونوا دائماً حاضرين.
قال أحد مستشاري ترمب إن كمية الأحاديث التي جرت بين كوشنر والأمير محمد "جنونية". وما زالت فحوى بعض تلك المحادثات مجهولاً.
مسؤولون في الإدارة الأميركية قالوا إنه منذ تلك الأشهر الأولى، أصبح كبار مسؤولي الأمن القومي حاضرين أثناء محادثات كوشنر مع الأمير محمد أو اطلَّعوا لاحقاً على محتواها.
وصرح أحد مسؤولي البيت الأبيض اشترط عدم ذكر اسمه للحديث عن ممارسات كوشنر: "لطالما اتبع جاريد بحرصٍ البروتوكولات وتعاون مع الزملاء في ما يتعلق بالعلاقة مع محمد بن سلمان وجميع المسؤولين الأجانب الآخرين الذين يتعامل معهم".
ومع ذلك، تنامى الجزع بين بعض الجواسيس الأميركيين حين علموا أن مسؤولين أجانب في أربع دولٍ على الأقل قد جرت بينهم مناقشاتٌ سريةٌ عن طرق التلاعب بكوشنر عن طريق استغلال تعاملاته التجارية المعقدة، وصعوباته المالية، وافتقاره إلى الخبرة في السياسة الخارجية، على حد قول مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين على علمٍ بالاستخبارات التي حصَّلتها الأجهزة عن تلك المناقشات. وكان من ضمن تلك الدول الإمارات العربية المتحدة، إحدى أكبر حلفاء السعودية.
واستطاع ولي العهد السعودي إقناع كوشنر بوجهة نظره للصراع الدائر في الشرق الأوسط وإيران وملفات أخرى
قال أحد مسؤولي أجهزة الاستخبارات الأميركية إن كوشنر قد تأثر بنظرة الأمير محمد المبسَّطة نحو ديناميكيات السلطة في الشرق الأوسط. وأضاف هذا المسؤول: "يملك محمد بن سلمان قدرةً فائقةً على الإقناع"، وقد نجح في إقناع كوشنر بأن إيران هي العدو الرئيسي والعائق الوحيد أمام السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
مع أن الحقيقة أعقد من هذا بكثير. ولكن قال هذا المسؤول إن كوشنر لم يبدُ مهتماً بدراسة تفاصيل المعضلات الأمنية في المنطقة، وتغيَّب عن بعض اجتماعات الاستخبارات قبل إجراء مفاوضاتٍ على أعلى مستوى.
إلى جانب أن كوشنر قد أقنع ترمب وزملاءه في الإدارة بفكرة أن الأمير محمد، مثله مثل كوشنر، هو مصلحٌ يسعى إلى زلزلة التحالفات القديمة وتقويض سلطة الفاسدين داخل دولته. وفي أحاديث سريةٍ خلال العام الماضي، جادل كوشنر بأن الأمير محمد سيكون مفتاحاً لإرساء خطة سلامٍ في الشرق الأوسط، معلِّلاً ذلك بأنه من خلال الحصول على مباركة الأمير، سيتبعه فصيلٌ كبيرٌ من العالم العربي، وفقاً لتصريحات أشخاصٍ على درايةٍ بالمداولات الداخلية.
وكذلك حثَّ كوشنر ترمب على جعل زيارته الخارجية الأولى كرئيسٍ إلى السعودية، على الرغم من الاعتراضات الأولية الصادرة من وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون، الذي له باعٌ طويلٌ في المفاوضات مع السعوديين والدول العربية بفضل عمله مديراً تنفيذياً لشركة إكسون موبيل للبترول. وأردف مستشار ترمب الذي اشترط عدم ذكر اسمه: "كان هذا خلافهما الأول".
وكان تيلرسون، ووزير الدفاع جيم ماتيس، وآخرون في الحكومة الأميركية متشكِّكين في التزام الأمير محمد بوعود السعودية بمساعدة الولايات المتحدة على ردع النفوذ الإيراني وتدمير تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفقاً لأشخاصٍ على درايةٍ بالمداولات طلبوا عدم ذكر اسمائهم لأنهم لم يكن مصرحاً لهم بالحديث عنهم إلى الصحافيين.
أسند ترمب إلى كوشنر مسؤولية صياغة مقترح سلام لإسرائيل والفلسطينيين بسبب الروابط القوية لكوشنر مع إسرائيل، ولأنَّ سلطته بوصفه من أعضاء أسرة ترمب سوف تكون أمراً مفهوماً في العائلات المالكة العربية، مثل السعودية.
ومع ذلك، وفي شهر يوليو/تموز، تسبب السعوديون في نكسة. فبعد اعتراف إدارة ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، رفض الملك سلمان علناً خطة كوشنر للسلام وأكد على أنَّ الفلسطينيين والسعودية لن يقدما التنازلات التي سعت إليها الولايات المتحدة لإسرائيل. توقفت الخطة، وكان كوشنر مذهولاً وغاضباً من الرد السعودي، وذلك بحسب دبلوماسيين مطلعين على رد فعله.
كان من المتوقع أن يعرض ترمب قريباً صفقة معدلة، لكن ليس من الواضح ما إذا كان السعوديون سوف يوفرون الدعم الدبلوماسي والمالي الذي كان يسعى إليه كوشنر.
وقال توماس رايت، الزميل الأقدم بمشروع النظام العالمي والاستراتيجية بمعهد بروكينغز: "ينطوي الأمر كله على سذاجة كبيرة من جانبه لعدم جلوسه مع محمد بن سلمان وتحديد إطار أوسع للسلام في الشرق الأوسط" يتضمن الدول العربية التي تريد حلاً مستداماً.
لم تبد الإدارة أي شكوك تذكر عندما بدا أنَّ محمد بن سلمان قد تجاوز الحدود باحتجازه مديرين تنفيذيين سعوديين بارزين، الخريف الماضي، وقصة غريبة تضمنت ما بدا أنه اختطاف مؤقت لرئيس الوزراء اللبناني، وكذلك عندما انخرط ولي العهد العام الجاري في شجار دبلوماسي مع كندا، الحليف المقرب لأميركا.
وقال منتقدو ترمب إنَّ إعجاب الرئيس، بشكل عام، بالرجال الأقوياء، وممانعته للدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية تجعل الزعماء السلطويين يشعرون بالقوة لأنهم لا يخشون من القصاص الأميركي.
وقال جيرالد فيرشتاين، السفير الأميركي السابق في اليمن والمسؤول السابق بوزارة الخارجية، ويشغل حالياً منصب مدير السياسة في معهد الشرق الأوسط، الذي سبق واستضاف خاشقجي: "إنَّ علاقة جاريد ومحمد بن سلمان تدور حول عملية السلام بالشرق الأوسط، والأمل الذي يحمله جاريد تجاه المسألة الإسرائيلية–الفلسطينية".
لكنَّ فيرشتاين قال: "لقد تظاهر محمد بن سلمان بالموافقة لأسباب خاصة به، وأعطى الإدارة سبباً لتعتقد أنَّ السعوديين سوف يفعلون أكثر مما أعتقد أنهم سوف يفعلون أبداً"