أثار قرار إحدى المحاكم التركية الإفراج عن القس الأميركي "برانسون" ردود فعل مختلفة؛ بين مدافع عن أردوغان ومهاجم له، لا سيما مع تزامن حدث الإفراج عن القس مع قضية تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول. وقد حاول الإعلام الموالي لدول الثورة المضادة استغلال حدث الإفراج عن القس الأميركي للتغطية على حدث اختفاء جمال خاشقجي وتصفيته، والإيحاء بوجود صفقة تركية-أميركية، عنوانها العريض خاشقجي مقابل "برانسون"، ووصف الإفراج بالفضيحة السياسية لأردوغان.
لكن المتتبّع لأزمة العلاقات الأميركية-التركية على خلفية القس "برانسون"، سيستنتج أن إطلاق سراح القس بدأ الحديث عنه منذ مدة؛ حيث كان موعد نظر المحكمة في القضية معروفاً منذ فترة، وكان غالبية المتابعين يعتقدون إطلاق سراح القس الأميركي؛ وهو ما يُستشف من تراجع حدة التصريحات والتصريحات المضادة بين المسؤولين الأتراك والأميركيين منذ مدة.
فالرئيس الأميركي، ترمب، حاول استغلال تراجع الليرة التركية لفرض تدابيره الاقتصادية بحق تركيا، في حين حاول أردوغان استغلال تلك التدابير الأميركية للتغطية على الأسباب الحقيقية لأزمة العملة المحلية، وهي الأزمة التي تعود لما قبل فرض ترمب تدابيره وعقوباته الاقتصادية على تركيا.
وفي اعتقادنا أن إقدام المحكمة التركية على إطلاق سراح القس الأميركي كان بطلب حكومي، وإنْ غُلِّف بغلاف استقلالية القضاء التركي، ويكفي الاستشهاد هنا بحادثة الإفراج عن جنديَّين يونانيَّين بوساطة قطرية إبان فترة اندلاع الأزمة التركية-الأميركية حول القس المحتجز. وتركيا ليست بدعاً من مجموعة من الدول، ومن بينها بعض الدول العظمى، فعندما تتعرض المصالح الاقتصادية للدول للخطر، لا بد من التدخل وتقديم تنازلات حفاظاً على المصالح العليا للبلد.
ففي سنة 1991، قام الرئيس الفرنسي الأسبق، "فرانسوا ميتران"، تحت ضغط إيراني قوي بالعفو عن "أنيس النقاش" ومجموعة من المعتقلين معه، على الرغم من أن "النقاش" اعتُقل وحُكم بالمؤبد؛ لمشاركته سنة 1980 في محاولة اغتيال رئيس وزراء إيران في عهد الشاه "شهبور بختيار"، وعلى الرغم من السجل الحافل لأنيس النقاش في أعمال الاختطاف والاحتجاز، والتي كان أشهرها سنة 1975، حين قام بالمشاركة في اقتحام مقر منظمة "أوبك" في العاصمة "فيينا" واحتجاز الوزراء المجتمعين، قبل الإفراج عنهم بوساطة جزائرية، مقابل السماح للمختطِفين بمغادرة البلاد.
كما قام القضاء الفرنسي سنة 2010 بالإفراج عن الإيراني "علي وكيلي راد"، المدان بالمؤبد لاتهامه بقتل "شهبور بختيار" سنة 1991، بعد أسابيع قليلة من الإفراج عن "أنيس النقاش"، وقد جاء الإفراج عن "علي وكيلي" أياماً معدودة بعد إفراج السلطات الإيرانية عن الأستاذة الفرنسية "كلوتيلد رييس" التي اعتُقلت في ايران بتهمة التجسس، بعد مشاركتها في المظاهرات الرافضة لإعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية الإسلامية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2007، رفض القضاء الفرنسي متابعة وزير الدفاع الأميركي الأسبق، "دونالد رامسفيلد"، بتهمة التعذيب، في أثناء زيارته فرنسا؛ وتذرَّع القضاء الفرنسي بالحصانة القضائية لرؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية، رغم أن وزير الدفاع لا يحظى، بموجب القانون الدولي، بالحصانة نفسها، ورغم أن "رامسفيلد" لم يعد في تلك الفترة يتقلد أي مسؤولية حكومية.
وفي سويسرا، أفرج القضاء سنة 2008 عن نجل القذافي "هنيبعل" وزوجته، بعد القبض عليهما بتهمة الاعتداء على خادميهما، وقد جاء الإفراج نتيجة للضغط الليبي الذي وصل حد التهديد بوقف إمدادات النفط الليبي عن سويسرا، والذي يعتبر المصدر الرئيسي لسويسرا من هذه المادة؛ بل إن السلطات السويسرية عوضت نجل القذافي بأزيد من مليون دولار؛ بسبب الصور التي نشرتها له الصحافة في أثناء الاعتقال.
وتبقى قضية "صفقة اليمامة" أشهر قضية على تداخل السياسة والقضاء، ففي سنة 2006 أغلق المدعي العام البريطاني التحقيق في تلقي المسؤولين السعوديين رشاوى مالية كبيرة، وكان من بينهم السفير السعودي لدى بريطانيا في تلك الفترة بندر بن سلطان، الذي تلقى -بحسب الإعلام البريطاني- رشاوى مالية بلغت ملياري دولار، مقابل شراء السعودية أزيد من 100 طائرة حربية بقيمة مالية بلغت 56 مليار دولار.
وقد برر النائب العام البريطاني قرار إغلاق التحقيق بأسباب تتعلق بحماية الأمن القومي، بعد تهديد السعودية بوقف تعاونها الأمني مع بريطانيا في مجال مكافحة الإرهاب، لكن السبب الحقيقي يعود لتهديد السعودية بإلغاء الجزء النهائي من الصفقة، والمتعلق بشراء 72 طائرة حربية، والتي تبلغ قيمتها ملايين الجنيهات، في حالة استمرار الحكومة البريطانية في تحقيقات الفساد بالصفقة.
والخلاصة التي نصل إليها أن أردوغان سياسي محنك وداهية، هدفه الأساسي هو حماية مصالح تركيا، وتقديمها على ما سواها، وأنه شخصية براغماتية، يعرف متى يصعد ومتى يتراجع ويقدم التنازلات؛ فحين بلغت علاقته مع روسيا مستوى غير مسبوق من التوتر بعد إسقاط الطائرة الروسية، قام بالاعتذار عن إسقاط الطائرة. وبعد تراجع الثورة السورية في جدول أعمال الدول الغربية، وقيام الولايات المتحدة بدعم أكراد سوريا، أعاد أردوغان ربط العلاقات مع روسيا وإيران بشكل وثيق، كما قام خلال الأزمة مع الولايات المتحدة بتقوية العلاقات مع ألمانيا والدول الأوربية، بعد سلسلة من التوتر في تلك العلاقات، خصوصاً مع ألمانيا، والتي بلغت حدة التوتر بينهما حد اتهام أردوغان لميركل بالقيام بممارسات نازية. فمتى يتعلم القادة العرب من نظرائهم الأتراك كيفية الدفاع عن مصالح شعوبهم وأوطانهم؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.