إن مات خاشقجي فلن تموت الحقيقة..
وإذا غُيب خاشقجي بتآمر سعودي إقليمي ومباركة أميركية، فلن يُسكتوا الأقلام الحرّة التي تتعقّب فسادهم واستبدادهم، وتفضحهم في كل ميدان.
وإن اختفى خاشقجي فإن شمس الحقيقة لن تغيب، بل تحيا في قلوب المؤمنين بها، الداعين إليها، وسيتم تعقّب كل الفاعلين الفاسدين المستبدين، عاجلاً أو آجلاً.
وحقيقة الأمر أن السلطات السعودية ضالعة في مثل هذه الأساليب الوحشية، ولها سوابق وتاريخ، مثل عصابات المافيا المشهور عنها الاختطاف والقتل والتهديد والإخفاء، من ذلك:
– اختفاء المُعارض ناصر السعدي السعودي، أشهر من عارض الأسرة الحاكمة في السعودية بداية من الخمسينيات، الذي اختفى من العاصمة اللبنانية بيروت عام 1979 ولم يُرَ بعد ذلك، ولا يُعرف أين مصيره إلى الآن.
– اختطاف الأمير سلطان بن تركي من مدينة جنيف السويسرية عام 2003، بعد حديثه عن سجل حقوق الإنسان السيئ في السعودية، ولا خبر عنه حتى كتابة هذه السطور.
– اختفاء ماجد بن محمد المسعري بعد القبض عليه في أميركا، بتهمة ملفقة عام 2004، وتم ترحيله للسعودية، واختفى تماماً. وهو ابن المعارض السعودي محمد المسعري، مؤسس حزب التجديد الإسلامي والمقيم في لندن، منذ التسعينيات، هو والمعارض السعودي سعد الفقيه مؤسس حركة الإصلاح الإسلامي، بعد لجوئهما هرباً من الاعتقال، وقد أنفقت السلطات السعودية ملايين الدولارات لاستعادتهما.
– كما اختطفت المخابرات السعودية الأمير سعود بن سيف النصر، بعد فبركة عملية تجارية له، ليُنقل بعدها من روما إلى الرياض، ولم يعرف عنه أي خبر حتى الآن.
– اختفاء الأمير تركي بن بندر آل سعود، الذي تقدم بطلب اللجوء السياسي في فرنسا عام 2015، لبثه مقاطع فيديو معارضة للنظام السعودي على الإنترنت، وتم اختطافه ونُقل إلى السعودية، ولم يعرف عنه شيء حتى الآن.
– قتل اللواء علي القحطاني، الضابط في الحرس الوطني السعودي، الذي مات أثناء وجوده في الحجز، وظهرت عليه علامات تعذيب بما في ذلك رقبته التي بدت ملتوية، وجسمه المتورّم للغاية، والكثيرين غيرهم.
وفي اعتقادي أن هذه السلسلة من الأعمال الإجرامية لآل سعود لن تنتهي، طالما هناك تبعية مطلقة للغرب تجعل محمد بن سلمان، يقبل إهانات ترامب لأبيه وللمملكة على أنها نقد طبيعي من الأصدقاء!
أما أصحاب الرأي، وعلماء الدين، والإصلاحيون في المملكة، لا مكان لهم بين صبيان آل سعود، فهم يرفعون شعاراً للتخلص من معارضيهم، كأنهم يتمثلون الآية الكريمة: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) (النمل: 56).
فالأحرار والشرفاء والمصلحون لا مكان لهم في مملكة الغاب، التي يُغيّب فيها كل من يفكّر في مخالفة ولي العهد وسياساته، الذي يسابق الزمن للحصول على كرسي الحكم، مُقدِمًا كل التنازلات والإملاءات، بالتعاون مع شر البلية محمد بن زايد الذي يعيث في الأرض فساداً خدمة للصهاينة!
لماذا غيّبوا هذا القلم الحر الذي انتقدهم؟
كان حديث جمال خاشقجي دائماً أنه ليس معارضاً، لكنه ينتقد بعض سياسات النظام السعودي، فهو يمدح وينتقد، ويعترض ويوافق، ويؤيد بعض الإصلاحات التي يقوم بها وليّ العهد محمد بن سلمان، ويعارض بعضها أحياناً، ويُعبّر عمّا يراه صواباً، وكان الحاكم في كل كتاباته، السعي لتطبيق الديمقراطية، وإتاحة الحريات العامة للجميع، لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
وترك وطنه مختاراً ليذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعد حملة الاعتقالات التي طالت إصلاحيين، وعلماء دين، ورجال أعمال، في المملكة العربية السعودية، حيث قال في إحدى مقالاته: "وقد اتخذت خياراً مختلفاً الآن، تركت وطني وعائلتي ووظيفتي، وها أنا أرفع صوتي، إذ إن القيام بغير ذلك سيكون خيانة لهؤلاء القابعين في السجون، فأنا يمكنني التحدث عندما لا يستطيع كثيرون، أريدكم أن تعرفوا أن السعودية لم تكن دائماً مثلما هي الآن، ونحن السعوديون نستحق ما هو أفضل من هذا".
إذن تغييب، جمال خاشقجي، وإخفائه، أو قتله كان له عدة أسباب منها:
اتصافه بالاعتدال ورصانته في كتاباته بشكل عام، ونقده للنظام السعودي، بطريقة هادئة، وعدم مخالفته على طول الخط مثلما يفعل بعض المعارضين الآخرين، في المملكة، أو غيرها.
– انفتاحه الشديد على أطياف ودوائر وأوساط مختلفة، فهو معروف بكونه صاحب علاقات متوازنة مع المعارضين الإسلاميين والليبراليين على حد سواء في السعودية وخارجها.
– له حضور قوي في القضايا الإقليمية المهمة، مثل سوريا، ومصر، واليمن، والملف الإيراني، ويُعبّر عنها في كتاباته، ومشاركاته التلفزيونية، وحضوره للمؤتمرات والندوات الدولية، ما جعل العديد من الجهات المؤثرة تستمع إليه.
– يتمتع بعلاقات واسعة تضم معارضين إسلاميين عرباً، من بلدان الثورات العربية، كما له تواصل مع مسؤولين أتراك، وإعلاميين وصحافيين غربيين، وأكاديميين ومثقفين من أصحاب الشهرة والتأثير العالمي.
– تحقيقه شهرة وتأثير واسعين، بعد خروجه من المملكة بشكل اختياري من خلال عموده الأسبوعي في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، الأمر الذي جعل الجريدة الكبرى تُبقي عموده فارغاً في موعد مقاله الأسبوعي بعد اختفائه.
– تمتعه بعلاقات واسعة مع دوائر العائلة السعودية الحاكمة، حيث كان يُقدّم باعتباره صحافياً سعودياً مقرباً من القصر الملكي الحاكم في البلاد، حتى عام 2015. وهذا بطبيعة الحال يزعج محمد بن سلمان الذي لديه شره كبير للحكم في المملكة.
– كمّ المعلومات التي لديه، حيث عمل خاشقجي منذ عام 2004، مستشاراً إعلامياً للأمير تركي الفيصل، المدير العام للاستخبارات العامة السعودية سابقاً، والسفير السعودي السابق في لندن، ثم الولايات المتحدة الأميركية.
هذه الأسباب وغيرها تجعل النظام السعودي يُعجّل بإخفائه وتغييبه، هو أو غيره، بأي طريقة كانت، حتى لا يُسبب لهم إزعاجاً في التحولات القادمة في المملكة العربية السعودية، التي تتهيأ لقدوم الابن محمد بن سلمان.
وفي ختام هذه السطور أتمنى أن يكون حادث تغييب جمال خاشقجي، وغيره من المصلحين ورجال الدين في مصر والمملكة العربية السعودية، وباقي البلدان العربية والإسلامية، أيقونة لكشف زيف الأنظمة المستبدة في منطقتنا، وفضح ممارساتهم أمام العالم بكل الوسائل الممكنة، سياسياً، وإعلامياً، ودبلوماسياً، وحقوقياً، وإنسانياً، حتى يتطهر العالم من هذه الطُغمة الحاكمة، التي عاثت في الأرض فساداً، وأهلكت العباد، ودمّرت البلاد!
ومن أوجب الواجبات علينا أن نؤمن في قرارة أنفسنا أننا لسنا ضعفاء، أو لا حول لنا ولا قوة لمقاومة هذا الاستبداد الجاثم على صدورنا، فكل مناً لديه الكثير لكي يفعله.
وأعتقد أن أفضل ما يمكننا القيام به هو الإصرار والسعي الحثيث لتحقيق النضال السلمي، ضد الفسدة والمستبدين، كل حسب إمكانياته وقدراته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ حتى لا نقضي على فرص النجاح، ونبدد القوة والطاقة الكامنة في داخلنا، بالتالي تفقد الأعمال التي نقوم بها، وإن قلّت، تأثيرها، وتضيع التضحيات سُدى.
رحم الله جمال خاشقجي وكل الأحرار الذي سعوا لنصرة قضايا الأمة، وغُيبوا خلف الأسوار وقضوا نحبهم، أو قتلوا بدم بارد. وستكون دماؤهم لعنة على قاتليهم ومن عاونهم ومن أيدهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.