"هذه نَقْرَة.. وتلك نَقْرَةٌ أُخرَى!"..
بهذه العبارةِ التي تحملُ في طيَّاتِها ما يُسقِطُهَا ويضرِبُهَا في صميمها، سوفَ يُشَنِّفُ آذانَك بعدَ فراغِه من أداء فريضة العصر، وذلك حين تسألُهُ ذلكَ السؤالَ العُضَال..!
إنهُ السؤالُ المحيِّرُ الذي كم ألحَّ على عقلي وقلبي وظلَّ يتردَّدُ في جنباتِ نفسي كلّما التقيتُ -قدراً- أحد هذه النماذج المثيرةِ للاهتمام، والتي أعجزُ غايةَ العجزِ عن فهم ما تحمِلُهُ من نوازع التناقض، وأمارات التذبذب والاضطراب!
إذ كيفَ يستطيعُ أو يستسيغُ هؤلاء أن يَفصِلُوا ويُفَصِّلوا المعايير الأخلاقية والدينية وفق مواريثهم التي لا تتجانسُ أبداً؛ بل تسلكُ -عندي- مسلكَ الزيتِ والماء، وتذهبُ -لديَّ- مذهبَ نقطة الحبرِ حينَ تُلقَى في كوب الحليب!
أيُّهُمَا أولَى يا حضْرِت؟
أن تواظبَ على أداء الصلاة وأنتَ تتزَلَّفُ للفاسدين وتتملَّقُ الظالمين؟
أم أن تنتصرَ للمهضومةِ حقوقُهُم؛ المهيضة أجنحتهم من المستضعفين الذين لايستطيعونَ حيلةً ولا يهتدونَ سبيلاً؟
- لكنّ الصلاةَ عمادُ الدين؛ من أقامَها فقد أقامَ الدين، ومن هَدَمَهَا فقد هَدَمَ الدين!
- ونصرةُ المظلوم والأخذُ على يد الظالم -ياهــذا- عمادُ إنسانِيَّتِكَ؛ ومِهادُ سلامة فطرتك فَضْلاً عن دينِك ودينونتك، وقدْ وُلِدَتْ هذه الإنسانيةُ معكَ قبلَ أن يكلِّفكَ اللهُ -تعالى- بتكاليفِ الدين عند سنِّ البلوغ، وقد كانَ محمدٌ -صلى الله عليه وسلّم- يُدعَى في قريش بالصادق الأمين، وعاشَ أكثرَ عمرِهِ مثالاً يُحتذى به وما تنزلت عليه رسالةُ السماءِ إلا وهو في الأربعين من عمره؛ فهل كان قبل الأربعين فاقداً لإنسانيته التي لم يعرفها سوَى بالوحي الإلهي؟ هذا والنفسُ البشريةُ -لو تعلم- مفطورةٌ ومجبولةٌ على حب الخير، وكراهية البغي والظلم والشر، وهذا في كل إنسانٍ وإن لم يهتدِ إلى الوحي، ولو لم تصل إليه الدعوة.
ألا أيُّها المتوشحُ بالدين والمتوحشُ في أخلاقه؛ ليستِ اللحيةُ فضلاً عن سيما الصلاةِ بأولى عند الله -تعالى- من كلمةٍ حقٍ تقولُها عندَ سلطانٍ جائر.. وإنْ كانَ لا يعنيك أن يستطيلَ الفسدةُ، ويتطاولَ في بنيانهم الظلمةُ ما دمتَ أنتَ تحرصُ على سنن اللحية العشرين؛ فلحيتُك هذه نذيرُ ضلالٍ، لا دليلَ هداية!
ألا أيَّتُها المتلفحةُ بغطاءِ الوجه أو حتى الرأسِ، وأنتِ تخالينَ أنَّكِ بهذا -وَحْدَهُ- تلتمسين سبيلَ الصالحات، هذه التي تُسمِّينَهَا متبرجةً وربما تأنفين من مجالستِها ومؤاكلتِها خيرٌ والله منكِ، ما دامت لاتحسِدُ ولا تكرَهُ ولا تغتابُ ولاتحقِدُ ولا تَغُلّ، وربما كنتِ أنتِ في هذا مستغرقة حتى شحمَةِ أذنيكِ!
ألا أيها الحريصُ على تداوُل الأدعية الدينية على جوالك، ونشرِ الخطب الوعظيةِ والأذكار الصباحية والمسائية في صفحتك، ثمَّ أنتَ بعدَ كلِّ هذا لا يزعِجُكَ أن يُضطَهَدَ إنسانٌ بسببِ لونِه أو جنسِه أو دِينِه ؛ وأن تُصَادَرَ منهُ حُرِّيَّتُه ويُضَيَّقَ عليهِ في رِزقِه؛ قد خابَ -واللهِ- مسعاكَ وأنتَ ممن يَحسَبُونَ أنَّهُم يُحسِنُونَ صُنْعاً!
إذا كانَ لسانُكَ يتعفَّفُ عن لوكِ الألفاظِ البذيئة، ولكنَّ قلبَك لا يستنكفُ من تحقيرِ إنسانٍ لأنَّهُ أفقرُ منك مالاً، أو أدنى منك منزِلةً وأرقُّ حالاً، فاعلم أنَّ لسانَكَ هذا سوفَ يكونُ شاهداً على سوادِ قلبِك يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه!
يا من تتزلَّفُ لذي سلطةٍ أو حظوة لتُحَصِّلَ بذلك مالاً أو تَحْصُلَ على جاهٍ أو وجاهة! وأنتَ مع هذا تحرِصُ على أن يحفظَ أبناؤك القرآن، اعلم أنَّ الله -تعالى- قد ذمَّ قوماً حُمِّلُوا التوراة ثم لم يَحْمِلُوها كمَثَل الحِمَارِ يحمِلُ أسفاراً، ثم ذمَّ رسولُه -صلى الله عليه وسلم- آخرين يقرأون القرآن لا يُجَاوِزُ حناجِرَهُم!
يا من تصرُّ على التبرع لبناء المساجد؛ وتداومُ على زيارة المقابر، وتكثر من النوافل، بلادُنا لا ينقصُها المساجد بقدر المستشفيات، ولا تعوزُ المعابدَ بقدر المدارس! فضلاً عن مراكز البحث العلمي، ومنارات الفكر والتخطيط الاستراتيجي.
يا صاحب الجاه والسلطان والصولجان.. إذا كان ضميرُك لا يضربُك ضرباً في الأرض! وأنتَ تمارسُ استغلالَ نفوذِك حينَ تقومُ بتعيين أحد أقاربِكَ في منصبٍ تعلمُ أنَّ هناك من هُوَ أحق به منه، فصلِّ على ضميرك هذا صلاةً لا ركوع ولا سجودَ لها!
يا أصحابَ الأعمال وأساطين الأموال، بينما شِرَارُكُم يُزْهِقُونَ أموالَهُم في البهرجة المكذوبة وهم يتقلَّبُون على الفُرُشِ الوثيرة، وخيارُكم ينفقون أقلَّها في التحضير لموائد الرحمن في رمضان! يأوي ملايين الشبابِ والفتيات في عالمنا العربي إلى فرشهم ليناموا وقد أنهكتهم هموم الوحدة، وضربتهم معاول العنوسة! فهل أعنتموهم على الزواج بشيء من هذه الأموال لتكون صدقةً جارية تنفعكم بعد موتكم؟
أيُّها العلماءُ والمشايخُ والدُّعاةُ، لماذا انتهكتم آذان العوامِّ بخطاب التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، ولم تُنكِرُوا على الأمراءِ ما صارت إليه أحوالُ الدنيا والآخرة مما لا يخفى على مبصر؟ أم لنا الآخرةُ ولهم الدنيا والآخرة؟ تلك إذاً قسمةٌ ضيزَى!
أيُّها الكُهَّانُ والنُّسَّاكُ والوُعَّاظ ؛ يا من أطلقتُم بالثَّلْبِ حناجِرَكُم وأنتم تُخَوِّفونَ من يُؤخِّرُ الصلاةَ عن أوَّلِ وقتِها من العذاب، لماذا لم تذكروا شيئاً عن عَذَاباتِ المستضعفين؟ ولم تنكروا يوماً أو بعضَ يومٍ حُرمَةَ المَال العام، وجريمة نهبِ ثروات الشعوب وسحق كرامتها وحرياتها؟
وفي الختام.. قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "من نزلَ بأرضٍ تفشَّى فيها الزنَى فحدَّث الناس عن حرمة الربا فقد خان"! هذا والسلام..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.