أستطيع أن أعتبر نفسي دون غرور ملكة من ملوك المحاولات.
من فضلك لا تقُل ملكة الفشل، فهذا يجرح مشاعري، دعنا نستخدم تعبير ملكة المحاولات فهو أكثر رقة وأستطيع احتماله.
منذ فترة طويلة وأنا أحاول في كل شيء، أحاول أن أبحث عن وظيفة في كل المجالات – لأني فشلت أن أجد وظيفة في مجالي- ولكن يظل الأمر في طور المحاولة لا يتطور لشيء آخر.
اتصل بي أحدهم ذات مرة وعرض عليَّ عملاً ما بكل حماس، فقلت له إنه لا مانع لديَّ، ويسعدني العمل معه، ولكنه اختفى بعد جملتي الأخيرة.
لا أعلم ما أخافه في كلامي، ولا أعتقد أنه من الممكن أن يتصل أحدهم بشخص آخر يعرض عليه عملاً (عزومة مراكبية)، كما يقولون، ولكن يبدو أن هذا ما حدث معي، المشكلة هنا أن هذا حدث معي العديد من المرات خلال عملي في مجال الهندسة وحتى بعد عملي في مجال الكتابة.
الموقف نفسه بذات التفاصيل يعرض عليّ أحدهم العمل بحماس أقول له لا مانع لديَّ، وفي بعض الأحيان يتطور الأمر ويسألني عن العائد المادي الذي أريده، فأقول له: لن نختلف على الأمور المادية فيختفي.
سلسلة من الفشل.. عفواً أقصد سلسلة من المحاولات غير الموفقة التي لا تنتهي. بعض الأشخاص الذين لا يعرفونني جيداً يرون أنني أقفز قفزات كبيرة في خطوة واحدة، ولكن من المنطقي بعد عدد معين من المحاولات غير الموفقة أن تقابل محاولة واحدة ناجحة، وهذا ليس شيئاً خارقاً عن الطبيعة، بل هو قانون الاحتمالات.
المشكلة لا تكمن في المحاولات التي لا تفضي إلى شيء في النهاية، بالعكس فأنا كما قلت ملكة في هذا المجال لا أختلف كثيراً عن الرجل المصري الذي يفتتح مقهى في بلد أوروبي ويطلق عليه (قهوة المصريين)، ومن ثَم يجتمع عنده أغلب المصريين المقيمين في هذا البلد فيصبح مع الوقت "عمدة المصريين".
يمكن أن تطلق عليّ "عمدة المحاولات" إذا استطعنا قول ذلك، أذهب إلى أي مقابلة شخصية في قمة الثقة، أعرف ماذا أقول وأدير الحوار بشكل سلس، خصوصاً إذا كانت نسبة قبولي ضعيفة في هذه المقابلة.
مع الوقت أصبحت المحاولات هي منطقة الأمان الخاصة بي أو كما يقولون comfort zone أشعر فيها بالراحة والسيطرة.
وفي الأوقات القليلة التي تنجح بها محاولتي أكون مثل الدجاجة المذعورة، أصاب بالدهشة والتوتر، ولكن حمداً لله هذا لا يحدث كثيراً وإلا كنت جننت.
أنا أمارس المحاولات كعمل دائم، أستيقظ من نومي باكراً وأقوم بتحضير قهوتي المفضلة ثم أبدأ بالمحاولة.
أحاول البحث عن عمل، أحاول نشر مقال في تلك الجريدة أو أحاول كتابة رواية جديدة.
في مرة من المرات وأنا أمارس عملي المعتاد جاءني هاجس مرعب "ماذا لو نجحت هذه المحاولة؟"، شعرت بالتوتر وزادت دقات قلبي للحظات، ولكنني حاولت طرد هذه الفكرة المزعجة من رأسي حتى أستطيع إكمال ما أقوم به من محاولات.
المحاولات غير الموفَّقة هذه هي بيتي أعرف كل شبر فيها بنيت المحاولة فوق المحاولة على مدار السنين، دهنت حوائطها بيدي، أعرف حدودها، مداخلها ومخارجها، ذكرياتي هنا.
هنا أنا أتمتع بالسيطرة الكاملة ولا أحتاج حتى أن أبذل مجهوداً ذهنياً زائداً، ولكن هناك في الجانب المظلم الذي يطلقون عليه النجاح أنا لا أفقه شيئاً، في هذا المكان الموحش لا يوجد لديَّ خبرات كافية، أشعر عند دخوله بالتيه وعدم القدرة على التصرف أو التحكم في زمام الأمور، لا أعرف ما هي الخطوة القادمة ولا كيف أقوم بها، حدود معرفتي تقف عند نهاية طريق المحاولات، ولكن خلف هذا الباب الموصد بعناية في أغلب الأحيان والموجود في نهاية طريق المحاولات الذي عرفت مع الوقت واستراق النظر من وقت لآخر أن هذا هو المدخل الذي يؤدي إلى هذا المكان المدعو "نجاح"، مكان غريب بالنسبة لي وأنا غريبة بالنسبة له؛ لذلك لا نشعر بالراحة معاً ولا نلتقي كثيراً.
كتبت رواية وحازت على إعجاب بعض النقاد مما أصابني بذعر شديد كما تعرف. ولكن حمداً الله لم يتم توزيعها بالشكل الأمثل، وهناك احتمال لا بأس به أنها رديئة فعلاً، على كل حال لم يسمع عنها أحد مما أشعرني ببعض الراحة، إلا شخص واحد استطاع أن يخترق الحاجز والأسلاك الشائكة وقام بشراء الرواية ولم يكتفِ بهذا الاقتحام بل حاول أيضاً الوصول لي عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ ليبدي إعجابه بالكتاب وأحداث الرواية.
أصبت بالهلع ولم أعرف ماذا أقول له فأنا دجاجة مذعورة في هذه المواقف، كنت أريد أن أقول له: "ماذا فعلت يا أحمق؟ أنا لم أتوقع هذا، يمكن إن انتشر رأيك المتهور هذا أن تدمر كل شيء بنيته على مدار السنوات".
ولكنني لم أعتقد أنه سيفهم ما أقصده، فحاولت أن أستجمع شتات نفسي وشكرته على كلماته الرقيقة ورأيه المحترم، وأنا أدعو في نفسي أن ينسى أمرها بعد بضعة أيام أو تبتل صفحاتها بالماء وتصبح عديمة النفع بالنسبة له.
قلت لأمي ما حدث -فهو شيء لا يحدث غالباً- فاقترحت عليَّ أن أعزمه على وجبة عشاء في أحد المطاعم، وكان رأيها منطقياً فهو يستحق هذه الوجبة على كل حال.
أُنهي هذا المقال الآن وسأرسله للجريدة التي أعلم يقيناً أنها لن تقوم بفتحه حتى، فأنا ملكة المحاولات كما تعرف.
ولكن ماذا لو حدث؟ ماذا لو فتحوها؟ ماذا لو أعجبتهم أو نشروها؟ ها هي دقات قلبي تزيد من جديد، أشعر أنني مجرد دجاجة مذعورة وخائفة، فأنا لا أعرف ماذا أفعل بعدها، ولكنني حاولت بكل قوتي أن أطرد هذه الفكرة الشريرة من رأسي.
لكن الغريب أن هناك جزءاً صغيراً بداخلي يتمنى أن تعرف حكايتي أيها القارئ العزيز، فكما يقول ونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة سابقاً: "النجاح هو الانتقال من فشل إلى فشل، دون أن نفقد الأمل".
ولكن من المؤسف ربما أن هذا المقال لن يصل إليك في جميع الأحوال، فكما قلت لك مراراً، أنا ملكة المحاولات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.