يحتفل اليهود في جزيرة جربة التونسية بعِيد "لاك بعومر" في الثالث من مايو/أيار من كل سنة، حيث يجتمع اليهود الشرقيون للحج في الغريبة، والسفارديم، وأغلبهم من أصول أندلسية وهاجروا إلى بلدان حوض المتوسط ومنها تونس، وهم يختلفون في المذهب عن اليهود الغربيين أو "الأشكيناز".
وتضم تونس نحو 2000 يهودي أكثر من نصفهم يعيشون في جزيرة جربة الواقعة على بعد 500 كيلومتر جنوبي العاصمة تونس حسب وكالة رويترز للأنباء.
ويمتد تاريخ اليهود التونسيين لقرابة 2000 سنة؛ إذ نما الوجود اليهودي في البلاد نتيجة موجات هجرة سبَّبتها إجراءات معادية لليهود في الإمبراطورية البيزنطية وفي الأندلس وبلدان أوروبية أخرى، ونجا أغلب هؤلاء في زمن الحرب العالمية الأولى رغم احتلال النازيين تونس.
ورغم هجرة أعداد من اليهود التونسيين إلى إسرائيل في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فإن آخرين رفضوا الهجرة، وتبنَّى بعضهم موقفاً معارضاً للسياسات الإسرائيلية.
ما هو عيد "لاك بعومر"؟
تحتفل الجزيرة التونسية سنوياً بمناسبة "لاك بعومر"، خلال اليوم الـ 33 بعد الفصح. وتعبر هذه المناسبة الدينية عن نهاية فترة الحداد على ذكرى الوباء، الذي أهلك أتباع الحاخام عكيفا، والاحتفال بالهيلولا، وهو ذكرى وفاة الحاخام شمعون بار يوحاي، القديس الأكثر احتراماً لدى يهود السفارديم. وقد كان هذا الحاخام من بين المؤسِّسين للتصوف اليهودي، ومؤلِّف كتاب الزوهار في القرن الثاني من العصر الحالي، حسب صحيفة Mondafrique الفرنسية.
تذكر الأسطورة المحلية أن اليهود المنفيِّين وصلوا إلى جربة في نهاية هجرتهم، بعد أن دمر البابليون الهيكل الأول. ولم تتفق هذه الكوهانيم المأخوذة من التوراة مع موقع كنيسهم، وكان يجب الانتظار حتى يوم "لاك بعومر" ليسقط الحجر المقدس من السماء ويحدد مكان البناء.
كتابة الأمنيات على البيض وإضاءة الشموع
أما داخل الغريبة، وهي أقدم كنيس يهودي في إفريقيا، غنى اليهود ورقصوا، في حين كتب آخرون أمانيهم بالزواج والإنجاب والسلام على بيض ووضعوه في قبو. وتناول الزوار خمراً محلياً يُعرف باسم "البوخا".
بينما أضاء آخرون الشموع داخل المعبد، وأقاموا الصلوات، ورددوا الأدعية. كما تنظم أيضاً مزادات علنية بساحة المعبد يذهب ريعها إلى يهود جربة.
واستغل آخرون الفرصة للتسوق واقتناء هدايا تقليدية من جربة، وتذوُّق الأكلات التي يشتهر بطبخها يهود جربة مثل "البريك".
الغريبة أقدم كنيس يهودي
حسب الأسطورة، تعتبر الغريبة، المعروفة عند اليهود في العالم أجمع، أقدم كنيس بُني من قِبل يهود الشتات. نراها اليوم على هيئتها التي كانت عليها منذ ترميمها سنة 1920، وهو التاريخ الذي انطلق فيه الحج السنوي لليهود أو ما يُعرف باسم "الزيارة"، حسب تقرير صحيفة Mondafrique الفرنسية.
تمثل فترة الحج أهم مناسبة للمّ شمل اليهود في دور العبادة، وفي مكان يسمى "الفندق" (الكاروانِسرايُ)، الذي كان فيما مضى مكاناً لتجارة القوافل، تم ترتيبه لهذه المناسبة في شكل سوق وقاعة للعروض، كما يوجد فيه فضاءات مخصصة لبيع الهدايا التذكارية والحلويات والكسكس. وخلال هذه الفترة من السنة، يكاد يكون المرور في شوارع المدينة مستحيلاً، خاصة مع ازدحام الحشود. ويتبع المزاد المرتبط بموكب المنارة، وهو أحد أزقة الحارة الصغيرة، حفل موسيقي.
النساء في أبهى حلة
يثير مظهر النساء في هذه الاحتفالات السنوية ذهول الناظرين، فغالباً ما يتأنَّقن كأنهن في حفل زفاف. وخلال هذه الاحتفالات، ترتدي النسوة الكعب العالي والجوارب النسائية الشفافة، بالإضافة إلى تنانير قصيرة مع بعض الأزياء الشعبية، وغالباً ما تستعملن مستحضرات التجميل بشكل مفرط. وفي الواقع، تعزى أسباب تأنق النساء اليهوديات إلى خليط من الممارسات الدينية والاعتقادات الشعبية المتعلقة بالخصوبة. وتشمل هذه الطقوس النساء المصابات بالعقم والفتيات اللاتي يبحثن عن شريك.
https://stage.arabicpost.net/lifestyle/2018/04/16/%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%ac%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b9%d8%b1%d9%81-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%b0%d9%87%d8%a8-%d9%83/
في المقابل، يُبدي العديد من الأطفال الصغار الجدية، من خلال ارتداء الملابس السوداء. ويقترح البائعون اقتناء "التيفيلين" لصالح الجمعيات الخيرية، وهي عبارة عن صناديق مكعبة تحتوي على نصوص توراتية يعلقها الرجال على جباههم ويربطونها على أيديهم اليسرى عن طريق أشرطة جلدية. كما يتم تخصيص غرفة كاملة لتلقي التبرعات المالية من المؤمنين من أجل صيانة الكنيس.
وتعرف جزيرة جربة بملابسها النسائية المميزة التي تقول الكثير عمن ترتديها.
طقوس شعبية ودينية
يمثل السبت اليهودي أحد الطقوس التي يتقاسم فيها الحجاج الطعام، ويسبقه أداء صلاة الحاخامات. وتمر هذه الأطباق من مقعد إلى آخر، ويعرض كل مصلٍّ الطبقَ على الشخص الذي يجلس بجواره، إلى جانب ذلك، يتم تمرير "البوخة"، الذي يعد من المشروبات الكحولية المحلية المستخرجة من التين، والعرق المستورد من إسرائيل.
بينما تكتظ القاعة الأولى للصلاة والتي تعوّض بصفة استثنائية، ساحة المعابد اليهودية التونسية. وعند المدخل، توجد أكوام من قِطع القماش التي يمكن للنساء استعارتها لتغطية شعرهن عند دخول الغرفة الرئيسية. وتحتوي هذه القاعة على بعض المقاعد الخشبية، التي تكون عريضة جداً للجلوس باتجاه الشرق، وتوضع عليها أطباق من الكعك والفواكه الجافة.
من أجل الوصول إلى القاعة الرئيسية، التي تشمل "تيفا" أو منصة التوراة والأغراض الطقسية المقدسة، يجب تغطية الرأس وخلع الأحذية. وفي هذه القاعة، تضاء الشموع في كل مكان، لإحياء ذكرى الأشخاص المتوفين أو للدعاء. وتتخذ تيفا من القدس قِبلة لها، حيث يقرأ الحاخام الكتاب المقدس كل سبت، وهو في أبهى حُلة. كما توجد بهذا المكان خزائن عرض زجاجية تُحفظ فيها الصور الدينية المرصَّعة بالذهب والفضة.
كما تحظى مغارة محفورة داخل الحائط باهتمام الجميع، حيث تصطف النساء اللاتي يرغبن في أن يُرزقن بطفل أو زوج، في طابور من أجل وضع البيضة التي كُتب على قشرتها بالقلم الأمنيات اللاتي يردن تحققها. وتطهى البيضة على أضواء الشموع، ثم تأتي المرأة في اليوم التالي لتناولها. ويعود الحجاج الذين تحققت أمانيهم كل سنة إلى الغريبة؛ تقديراً للبركة التي استفادوا منها، وتشتد الحيوية مع الجو الروحاني والحماسة التي تعتري المشاركين في هذا الاحتفال الديني.
إجراءات أمنية مشددة
هذا العام، يتدفق الحجاج اليهود من كل حدب وصوب في حشد غفير، لحظة اجتيازهم الفحوصات الأمنية المتعددة التي يشرف عليها عناصر الشرطة. ويعتبر هذا الرهان كبيراً بالنسبة للسلطات التونسية، التي تسعى لضمان الأمان لحجاج الغريبة، خاصة بعد أحداث هجوم أبريلنيسان من سنة 2002 ، حيث اقتحم انتحاريٌّ مزار الغريبة بسيارة محمَّلة بغاز متفجر، وقُتل 21 شخصاً غالبيتهم من السياح الألمان.
وشاهد مراسل "رويترز" إجراءات أمنية مشددة، وأقيمت الحواجز في مدخل منطقة الغريبة بجزيرة جربة حيث يقع الكنيس، كما انتشر مئات من قوات الشرطة ومكافحة الإرهاب بينما كانت طائرة هليكوبتر تحلِّق لمراقبة المكان. ويستمر الاحتفال يومين.
زيادة في عدد الحجاج اليهود إلى تونس
كان من المتوقع أن يصل عدد الحجاج إلى ما بين 2500 و3500 حاج خلال سنة 2017، وهو عدد أكبر بكثيرٍ مقارنةً بالأعداد المسجلة خلال السنوات السابقة. ويأتي اليهود السفارديم من الخارج ومن تونس، حيث يضم المجتمع اليهودي نحو 1500 شخص، كما يتوافد اليهود من الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا وليبيا والعديد من البلدان الأخرى. كما يشارك بعض يهود أشكناز (الغربيين) في الاحتفالات، إلى جانب العديد من المسلمين المتأثرين بالطقوس المقامة في كنيس جزيرة جربة.
فيما قال سائق سيارة أجرة، لوكالة رويترز: "تدفُّق اليهود على جربة يعطينا فكرة كيف سيكون الموسم السياحي.. هذا العام جاءوا بكثرة ويبدو الأمر جيداً للغاية.. نتوقع انتعاشة في القطاع السياحي بعد ركود استمر سنوات عقب الثورة".
ويقول بيريز الطرابلسي، رئيس الطائفة اليهودية في جربة، لـ"رويترز": "هذا العام الوضع جيد للغاية، واليهود عادوا بكثرة إلى كنيس الغريبة من إسرائيل وروسيا وفرنسا وإيطاليا.. عدد الزوار يتجاوز 5 آلاف".
وعودة تدفُّق اليهود إلى كنيس الغريبة مؤشر مهم بالنسبة لصناعة السياحة في تونس، التي تتطلع حكومتها إلى استقبال نحو 8 ملايين سائح أجنبي هذا العام (2018).
إذ قالت زائرة -تدعى إيزابيل قاز- قدِمت من باريس، لـ"رويترز": "الوضع الأمني ممتاز هنا، وهذا شجعنا على القدوم من جديد. نحن اليوم نحس بأننا أكثر أمناً في تونس من باريس".