يبدو أن تركيا والسعودية في حالة تأهُّبٍ للدخول في مواجهةٍ قد تكون عنيفةً عقب اختفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، وهو واحدٌ من أبرز المعارضين والناقدين، ونائب رئيس التحرير السابق لجريدة العرب ورئيس تحرير جريدة الوطن.
زار خاشقجي القنصلية السعودية بإسطنبول يوم الثلاثاء 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018 في محاولةٍ لإتمام إجراءات طلاقه. تَرَك خطيبته خارج المبنى، ومعها هاتفه المحمول ومتعلَّقاتٌ شخصيةٌ أخرى. لكنه دخل ولم يعد.
اختفاءات سابقة لأمراء سعوديين تثير خوفاً حول مصير الخاشقجي
ويتسبَّب وضعه هذا في حالة ذعرٍ بين عائلته وأصدقائه والصحف، بما فيها صحيفة The Washington Post الأميركية، بسبب مخاوف من أن يكون خاشقجي ضحيةً لمحاولة اختطافٍ رسميةٍ، شبيهةٍ بمحاولاتٍ سابقةٍ اختفى فيها أمراء سعوديون معارِضون بين عامي 2003 و2017.
ومع أنَّ هذه الاختفاءات كانت موضوعاً لأحد أفلام BBC الوثائقية، لم تُبدِ السلطات الغربية، ولاسيما الحكومة السويسرية، اهتماماً كبيراً بمصائر هؤلاء المختفين.
لكن في ظل تغطية وسائل الإعلام التركية خبرَ اختفاء خاشقجي ، فإنَّها لا تذكر حالات الاختفاء السابقة التي يُشتَبَهُ في كونها عمليات اختطافٍ وحسب، بل تقول بوضوحٍ أيضاً أنَّ ردَّ فعل تركيا لن يكون "داجناً" مثل السويسريين.
تركيا تؤكد أنه دخل السفارة ولم يعد
وبالفعل كان ردُّ الفعل التركي سريعاً وقوياً. ففي غضون ساعاتٍ من اختفاء خاشقجي ، كان الخبر يُذاعُ في وسائل الإعلام الوطنية، بما فيها وكالة أنباء الأناضول.
وخرج إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس رجب طيب أردوغان، بتصريحٍ واضحٍ ذكر فيه أنَّ الكاتب اختفى أثناء تواجده بالقنصلية وأنَّ السلطات التركية تُوقِن أنَّه لم يغادر المكان منذ ذلك الوقت.
وترجح صحيفة Middle East Eye صحة ما أدلى به كالين، إذ أن السفارات في تركيا تخضع لحراسةٍ مشدَّدةٍ وتُراقِبُ قوات الأمن عن كثبٍ التحرُّكات من حولها. ولا يمكن أن يكون هناك شك حقيقي في أنَّ خاشقجي ربما غادر المبنى دون رصد كاميرات المراقبة لرحيله.
والسعودية تقول إنه اختفى بعدما غادر السفارة
لكن ذلك لم يمنع القنصلية السعودية العامة في إسطنبول من إصدار بياناتٍ تزعم فيها أنَّه غادر القنصلية بالفعل، وإن كان قد اختفى، فلابد أنَّ هذا حدث في مكانٍ آخر.
وبهذا التصريح، ربما تكون السلطات السعودية قد وقعت في سوء تقدير كبير. الأمر الذي من شأنه أن يضع مصداقيتها في مهب الريح، وتحيط مصيرَ اختفاء خاشقجي أجواء من الغموض في وسائل الإعلام بتركيا وبقية العالم.
مواقف خاشقجي السياسية لا تتوافق مع الموقف الرسمي إطلاقاً
وليس خفياً سبب بغض المسؤولين السعوديين للصحفيِّ السعوديِّ المفوَّه، الذي ينتقد على وجه التحديد وليَّ العهد ورأس الحكومة السعودية الأمير محمد بن سلمان.
وانتقد خاشقجي كذلك بعض مظاهر السلفية، وهي المذهب السائد للإسلام السُنِّي في شبه الجزيرة العربية.
وكتب في الآونة الأخيرة قبل أقل من ستة أسابيع مقالاً في صحيفة The Washington Post يوضِّح فيه أنَّ الولايات المتحدة أخطأت في معارضتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
وهذه رسالةٌ قد تكون غير مُرَحَّبٍ بها في السعودية، لكنها تساعد على تفسير سبب الدعم التركيِّ لخاشقجي عَقِب اختفائه؛ فحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا على علاقةٍ وثيقةٍ بالإخوان المسلمين.
كما دخل خلافاً علنياً مع السعودية بشأن الحصار الاقتصادي على قطر في الخليج، وكذلك بشأن مستقبل سوريا.
والتوتر بين تركيا والسعودية لا يجعلها مكاناً ملائماً للاختطاف
ومن المعروف أنَّ المشاعر غير الودية متبادلة بين تركيا والسعودية. ويُشاع أنَّ وليُّ العهد بن سلمان جاهر بانتقاد أردوغان أمام الحكومة البريطانية حين زار الأول المملكة المتحدة في وقتٍ سابقٍ هذا العام 2018.
ولذلك فإن تركيا مكانٌ غير ملائم تماماً لتنفيذ أية مهمة اختطافٍ مخالفة للقواعد لمعارضٍ سعوديٍّ، وفق الصحيفة. وما لم يصل الطرفان إلى حلٍّ سريعٍ، قد تُفاقِم الأزمة التوتُّرات الحالية بين البلدين، ما سيرتد على المنطقة.
القنصلية السعودية لها امتيازات ولكنها على أرض تركية
ومع ذلك، فإنَّ تركيا تجد نفسها في موقفٍ محرجٍ. فالقنصلية العامة للسعودية، شأنها شأن جميع البعثات الدبلوماسية في أنحاء العالم، تتمتَّع بامتيازاتٍ دبلوماسيةٍ، ولا يحقُّ للسلطات التركية دخولها.
لكنَّ مبنى القنصلية لا يُعَدُّ أرضاً سعودية. أي إنَّ السيادة والقوانين التركية تنطبق على أرض البعثة كأيٍّ بقعةٍ أخرى داخل الدولة.
لذا، من شأن اختطاف أو احتجاز أي مواطن دَخَلَ تركيا بصورةٍ قانونيةٍ أن يُمثِّل جريمةً شنعاء بموجب القانون التركي، ما لم تكن السلطات التركية متفقة مع البعثة الأجنبية في الاعتراف بأنَّها تلاحق مجرماً.
ومن الواضح أنَّ هذه ليست الحال مع جمال خاشقجي.
اختفاء خاشقجي بمثابة جريمة خطيرة وفق القانون التركي
سيكون مسار العمل الأكثر حصافة للسعوديين هو الإفراج عن أسيرهم والأمل في تجاوز هذه الواقعة. لكن الإنكارات المتكرِّرة من القنصلية لاحتجاز خاشقجي توحي بأنَّها لن تسلُك ذاك المسار.
وإذا أبقوه سجيناً لفترةٍ من الوقت عوضاً عن إطلاق سراحه، فستتَّضح هذه الحقيقة على الفور للسلطات والشعب التركيين، وستأخذ الأمور منحنى أخطر بكثيرٍ. وبالفعل قد ينشأ صدعٌ دبلوماسيٌّ بين الدولتين لأنَّ السعوديين حينها سيكونون في موضع الطرف المُصِرّ على ارتكاب جريمةٍ خطيرةٍ بموجب القانون الجنائي التركي.
ما لم يتم تهريبه خارج البلاد
لكن هناك احتمالاً آخر جرت نقاشاتٌ حوله في تركيا، وهو أن يحاول السعوديون تهريب سجينهم إلى خارج الدولة عبر هذه السيناريوهات.
وستكون هذه استراتيجيةً بالغة المخاطر ما لم يكن ذلك قد حدث بالفعل -مثلما يشير البعض- ولم يَعُد جمال خاشقجي حالياً داخل تركيا.
وهناك بالفعل مزاعم تتناقلها محطات التلفزة التركية عن أنفاق ووسائل أخرى لتهريب خاشقجي إلى الخارج، لكنَّها احتمالٌ بعيد جداً.
من جانبها، تقول السلطات السعودية إنَّها تتعاون عن كثب مع الشرطة التركية في البحث عن خاشقجي، لذا سيكون من الصعب عليهم رفض تقديم المساعدة إليهم في حال طُلِبَ منهم ذلك.
وسجلُّ السعودية الحقوقي رهن انتقاد العالم من جديد
وأياً كان الاحتمال الذي سيتحقَّق على أرض الواقع، فهناك الآن ضجة عالمية تُولِّد دعاية عكسية لدولةٍ يتعرَّض سجلُّها الحقوقي بالفعل لسهام النقد باستمرار.
وكنتيجة غير مقصودة لهذه الحادثة، انتشرت رسالة خاشقجي المُنتقِدة للحكومة السعودية لجمهورٍ عالمي على الأرجح لم يكن قد سَمِعَ عنه قطُّ قبل اختفائه.