كلام طويل لَبِقٌ، مليء بعبارات الحب والشكر والرضا، يعلن الانفصال. مررت كما مر كثيرون غيري على هذا المنشور. توقفت هنيهة وشعرت بانقباض. لكن لِمَ؟ أليس الطلاق حلاً بالفعل لكثير من العلاقات إذا لم تكن سليمة سعيدة؟ ومن ثم أليس الانفصال بهذه الطريقة أفضل من انفصال يتبعه قدحٌ وسبٌّ أو غمزٌ وهمزٌ وتبادل تهم؟ أليس الكلام عن الذكريات الجميلة والمواقف النبيلة بينهما أقرب ترجمة عملية لقوله تعالى: "ولا تنسوا الفضل بينكم"، لِمَ إذن أجدني منقبضة منزعجة؟
أعدت قراءة الكلام وتفكرت في الأمر، ففهمت أنه أعاد إلى ذاكرتي الأسلوب التقليدي في تصوير الزواج بالدراما الغربية وكثير من الدراما العربية وإليكم التفصيل.
تقول صاحبة المنشور: "وجدنا أننا نحب بعضنا كثيراً إلى حد أننا لا يمكن أن نتمسك ببعضنا حين لا يكون هذا هو الأفضل لنا".
بدت لي العلاقة مثالية مغرقة في الإيجابية، لم يعكر صفوها إلا الزواج. تماماً كما اعتاد الإعلام التقليدي أن يصور الزواج كمقبرة لحبٍّ، لولاه لبقي عامراً وخاتمة حزينة لقصة لولاه لكانت سعيدة. لا أتهم أياً من الزوجين بالترويج لهذه الصورة للزواج أبداً، ولكن قِصتهما تمثل مفارقة جمعت أسلوب تقديم الزواج في الإعلام التقليدي والحديث معاً.
فحين دخل الإعلام الحديث حياتنا ممثَّلاً بوسائل التواصل الاجتماعي بدأنا نرى قصص زواج إيجابية تنتشر وتروّج لصور أكثر إشراقاً لواحدة من أهم وأعمق العلاقات الإنسانية في حياة البشر.
كان هذا جميلاً ولكنه -وعلى عادة كل شيء تقريباً في وسائل التواصل- زاد عن حدِّه وأمعن أصحابه في التجمّل حتى غدا تمثيلاً.
وبتنا اليوم نرى علاقات زواج خيالية لا همّ فيها ولا غمّ، لا مشاكل فيها ولا صعوبات ولا حتى مسؤوليات، حب عجائبي لا يعتريه ذبول ولا خمول، وسعادة مستمرة لا يعكرها شيء، وموائد عامرة ونزهات لا تنتهي.
والحقيقة هي أن الزواج ليس هذا ولا ذاك؛ بل هو شيء لم نرَه في الإعلام يوماً. ليس بالطبع مقبرة الحب؛ بل هو تاجه وسياجه، وليس باباً للنكد؛ بل هو حل له ومَخرج منه، وليس حبساً وأغلالاً؛ بل صحبة بالمعروف والإحسان.
ولكن كل هذا لا يتأتى بصدفة كونية؛ بل بجهد وجدّ مشترك ومستمر. ومن ناحية أخرى، ليس الزواج عالماً وردياً لا يعرف الهمّ إليه مَدخلاً، فهو جزء من الحياة التي تبقى حياة "دنيا" لا جنة فردوس.
وليس الأزواج السعداء ملائكة متوافقين في كل شيء حداً من الاتساق قد لا يبلغه الإنسان مع ذاته! فهذان متحابان ولكن لم يُرزقا طفلاً، وهذان عندهما أطفال ولكن ضاقت بهم أحوال المعيشة، وهذان تجاوزا المحنتين فلم يتركهما المرض. وغيرهما ليس عنده أية واحدة من هذه المشاكل إلا أنهما بكل بساطة يكابدان مشقة الحياة ويجتهدان لإنقاذ ما في روحيهما من بهجة وجمال في كبد عالم يتخبط في الدم والدموع.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلف مع زوجاته ووصل به الأمر إلى حد تحكيم طرف ثالث كما في قصته الشهيرة مع السيدة عائشة فأي زيجة إذن تنجو من خلاف صغير أو كبير؟
أكتب هذا؛ لأن أجيالاً من الشباب غير المرتبط تتطلع إلى زيجات يشهرها الفيسبوك وغيره بوصفها الحالة المثالية التي يصبو إليها، ولست أعرف طريقاً إلى خيبة الأمل في الزواج أسرع ممن رأى صورة في وسائل التواصل فأعجبته فجعلها دليل حياة.
وأكتب هذا أيضاً؛ لأن أجيالاً من المتزوجين يقارنون أنفسهم وأزواجهم وحتى أولادهم بما يرونه هناك، فإن لم يجدوا ذاك البريق غير المنقطع ارتدُّوا إلى قناعاتهم بأن الزواج تعاسة وحبس وروتين.
فلنتذكر أنه ليس في معاجم البشرية وصف لسلامة علاقة الزواج أشمل من كلمتي "مودة ورحمة" كما علّمنا القرآن.
أما المودة فتشمل الحب والود والانجذاب، وكل مشاعر القبول التي تجعل الحياة جميلة نتحملها وتتحملنا.
ولكن الحب وحده لا يكفي، ببساطة لأننا مهما أحببنا أزواجنا فنحن نحب أنفسنا بالقدر نفسه إن لم يزد؛ ولذا قال الله في وصف حال الأزواج المتخاصمين: "وأُحضرت الأنفس الشحَّ"، كلٌّ يريد أن يقتطع لنفسه حظاً أكبر.. لذا كانت الرحمة هي الدعامة الثانية.
والرحمة -كما أفهمها- وصف شامل لكل جميل من الخُلُق والعمل؛ ولذا وصف بها الله رسوله حين أراد أن يُجمِل ويختصر رسالته في كلمة، فقال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
فمن الرحمة أن تعاملي زوجكِ كما تحبين أن يعاملكِ بالرفق واللين والإحسان، وأن تتغافلي عن عيوبه كما تحبين أن يتغافل عن عيوبكِ، وأن تَعفي وتصفحي فأيُّنا لا يخطئ؟ ومن الرحمة أن تحترمي وتصلي أهله وأحبابه كما تحبين أن يحترم ويصل أهلكِ وأحبابكِ، وأن تتفهمي اختلافه وخلافه معك وتنظري إلى الأشياء بمنظوره أحياناً على الأقل، وأن تحترميه وتقدّريه في شخصه وفي جهده للحفاظ على كنزِكما الذي هو الأسرة، ومن الرحمة أن تكدّي معه لجعل الحياة أكثر إشراقاً وجعل الصعوبات أسهل تجاوزاً، وجعل المحن أكثر احتمالاً.
كل هذه وكثير غيرها تجلّيات من الرحمة. ومختصر الكلام أن الزواج ليس شيئاً نجربه فإما أن يصيب وإما أن يخيب بضربة حظ؛ بل هو شيء نصنعه بكثير من الصبر والجهد. لا شك في أنه يحتاج أولاً كثيراً من التوفيق الإلهي، ولكنه يحتاج أيضاً كثيراً من الوعي بالنفس والآخر والحياة. فرفقاً بأُسَرِنا فلعلها آخر ما تبقى في أيدينا من الجمال الذي نحلّي به مرارة الحياة في الدنيا ونمهّد به طريق النجاة في الآخرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.