عندما تأتينا ذكرى عاشوراء نتذكر حينها الحسين وثورته، عندما خرج إلى العراق ليُعلن ولايته عليها بعد خلع ولاية الأمويين، ويتخذ منهم جنوداً وجيوشاً يحاربهم بها ويقاتلهم.
ليصنع الحسين بذلك ثورة مسلحة، في صورة من صور الخروج على الحاكم التي يتحدث عنها العلماء، ويثور الجدل حولها من أطياف الأمة جميعها في القديم والحديث.
مسألة الخروج على الحاكم والثورة عليه من المسائل التي أحدثت لغطاً كبيراً في تاريخ الأمة الإسلامية، وتحدث لغطاً كبيراً في واقعها المعاصر، وسيبقى لغطها كذلك في قابل الأيام؛ لأنها قضية عليها خلاف كبير، ونستطيع أن نقول إنها من المشتبهات التي من شأنها أن تُبقي لغطها وإشكالها، على غير ما تكون المُحكمات الفاصلات القاطعات.
لم تكن ثورة الحسين هي الثورة المسلحة الأولى على السلطة الحاكمة في دولة الإسلام، فقد سبقتها الثورة على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وقتله في منزله عام 35هـ، ثم كانت الثورة على عليّ (كرم الله وجهه) من عائشة وطلحة والزبير، وقتاله في موقعة الجمل عام 36هـ، ثم كانت ثورة معاوية بن أبي سفيان وجيشه على عليّ وقتاله في موقعة صفّين عام 37هـ.
ثم جاءت ثورة الحسين على يزيد بن معاوية، وخروجه إلى العراق، وخيانة العراقيين له، ومقتله هو ومرافقيه في كربلاء على يد جند عبيد الله بن زياد، والي يزيد بن معاوية على العراق عام 61هـ.
وجاءت بعد ذلك ثورة عبدالله بن الزبير على الأمويين، وقتالهم حتى مقتله عام 71هـ.
وجاءت من بعد ذلك ثورات العلويين على الأمويين، وتأييد أبي حنيفة النعمان، الفقيه المتبوع صاحب المذهب المتوفى عام 150هـ، لثورات زيد بن علي ومحمد النفس الزكية، ودعوة الناس لمبايعتهما والخروج معهما.
الثورة على عثمان ثورة لا يقبل بها أحدٌ من علماء الإسلام، ولا أحد من المسلمين، وهي خروج غير مشروع على حاكم مظلوم، وهي فتنة كبرى نفخ فيها شياطين الإنس والجن.
وكذلك كان خروج عائشة وطلحة والزبير، وخروج معاوية، فإنّ علماء الأمة جميعاً انتصروا لعليّ (رضي الله عنه)، وخطؤوا عائشة وطلحة والزبير ومعاوية (غفر الله لهم جميعاً)، فقد كانوا صحابة كراماً، ابتلاهم الله بالخلاف وقتال بعضهم، يحكم الله يوم القيامة لصائبهم ويغفر لمخطئهم.
لكن، لا أحد يستطيع أن يخطّئ الحسين، ويحكم على ثورته بأنها خروج غير مشروع على الحاكم، وبأن الحسين قد صار بها خارجياً حلال الدم في الدنيا، معذباً بالنار في الآخرة.
كل علماء الأمة يرون الحسين ثائراً مطالباً بالحق شهيداً مظلوماً، ويقولون بجرم يزيد بن معاوية وواليه في العراق عبيد الله بن زياد.
وكذلك ينظرون لثورة عبدالله بن الزبير بن العوام على الأمويين، ويرونه شهيداً مظلوماً.
ولن يستطيع أحد من علماء الإسلام أن يرمي ثورات زيد بن علي ومحمد النفس الزكية بأنها كانت خروجاً غير مشروع على الحاكم، وبأنهم كانوا خوارج تحل دماؤهم في الدنيا ويحكم عليهم بالنار في الآخرة، ذلك لأن أمثال زيد بن على ومحمد النفس الزكية هم مَن هم في أمة الإسلام نسباً وشرفاً ومكانة وصلة بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، كما أن إماماً فقيهاً صاحب مذهب كأبي حنيفة ناصرهم ودعا الناس إلى مبايعتهم والخروج معهم.
كل هذه الأحداث التاريخية التي ذكرناها تؤكد تأكيداً واضحاً أن مسألة الثورة في الإسلام والخروج على الحاكم الظالم بالسلاح هي من المسائل غير المقطوع بحرمتها ورفضها، وإلا لما ثار كل هؤلاء الكرام، وفيهم صحابة وتابعون وأئمةٌ أصحابُ مذاهب.
قول العلماء بعدم جواز الخروج على الحاكم والثورة عليه أتى من بعد كل هذه الأحداث، وذلك لما رأوا أنها ثورات لا تُحسم للحق، ولا تأتي إلا بالشر على أهل الحق المظلومين، وعلى الأمة كلها.
ولذلك تحدثوا جميعاً عن وجوب الطاعة لولي الأمر حتى وإن كان ظالماً، وعن حرمة الخروج عليه، ووجوب الصبر حتى يستريح برٌّ ويستراح من فاجر.
لكن، وأين النصوص الشرعية من كل ذلك؟
من أثمن ما قيل في مسألة النصوص الشرعية التي تتحدث عن مسألة الخروج على الحاكم والثورة عليه ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي حين قال ما معناه: "هناك نصوص يُفهم منها عدم جواز الخروج على الحاكم مهما بلغ ظلمه وجوره، وهناك نصوص يُفهم منها جواز الخروج، بل وندبه واستحبابه، وجعله جهاداً في سبيل الله، بل ومن أعظم الجهاد".
إذن، فالنصوص تحتمل الرأيين والتوجهين، ويستطيع كل فريق أن يعتمد على ظاهر بعض النصوص وعلى تأويل النصوص الأخرى في تأييد رأيه ومذهبه في المسألة.
ومن أعظم ما يقال في مجمل الرأي في هذه المسألة: الثورة على الحاكم الظالم والخروج عليه من المسائل الجائزة شرعاً، خصوصاً إذا ما كان ظلم الحاكم ظلماً كبيراً عاماً يقع على الأمة كلها لا على فرد بعينه أو طائفة بعينها، ويزيد من درجة الجواز هنا أن يكون الحاكم ممن يحكمون بغير ما أنزل الله في كتابه من أحكام وتشريعات (جزائية واقتصادية واجتماعية، وغيرها…).
لكن على الرغم من الجواز الشرعي في المسألة، فإن الأمر ليصل بالنظر في أحداث التاريخ وما آلت إليه كل الثورات على الحكام، وبالنظر كذلك إلى واقع الدول والأنظمة الحاكمة المعاصرة وما وصلت إليه في قوتها وسيطرتها وإحكام أجهزتها الأمنية والعسكرية والمخابراتية، ليصل الأمر بالنظر إلى كل هذا إلى القول بعدم الجواز العقلي للخروج على الحاكم والثورة عليه؛ لأن ذلك عقلاً لن يؤدي إلا إلى مذبحة تسيل فيها الدماء وتنتهك فيها الحرمات، ولن تكون الغلبة في النهاية إلا للأنظمة وأجهزتها مهما طال الزمان.
وإن هذه النظرة التي تقول بعدم الجواز العقلي لتصل في النهاية للقول بعدم الجواز الشرعي، فإذا كان السعي لتغيير منكر مما سيؤدي إلى منكرات أكبر، فإن الحكم ساعتها يكون بعدم جواز إنكار هذا المنكر، ووجوب السكوت عنه والصبر عليه.
فإذا ما قال قائل: فإذا تيقن الثائرون من نجاح ثورتهم؟ لقلنا: فلننظر ساعتها لسرعة الحسم وحجم التكلفة، فإذا كانت التكلفة باهظة من دماء الناس وأعراضهم، فهذا مما لا يجيز الثورة كذلك.
فإذا قال القائل: فإذا كانت التكلفة قليلة والحسم سريعاً؟
لقلنا: يكون الجواز حينها، ذلك إذا كان اليقين بسرعة الحسم مع قلة التكلفة، وهذا اليقين لن يكون أبداً في مثل هذا الحياة المعاصرة بأنظمتها الجاثمة وأجهزتها الحاكمة، وليس من المشروع ولا الجائز أن يجازف المجازفون بدماء الناس وأعراضهم وبلدانهم من أجل بغية غير متيقنة، وإن الناظر في ثورات الزمن المعاصر المسلحة ليرى ذلك، فها هي سوريا وها هي ليبيا، وقبلهما كانت الجزائر ومصر.
الأسلم لهذه الأمة أن يبتعد أبناؤها عن فكرة الثورات المسلحة على الأنظمة مهما بلغ جور هذه الأنظمة، لا لأن الخروج ممنوع شرعاً من الأصل، ولكن لأنه ممنوع شرعاً من بعد النظر العقلي في المآلات والمصائر.
وعلى المصلحين أن يعمدوا إلى النصح والإرشاد للأنظمة وللحاكمين، ثم للنقد والمعارضة، ثم للتدافع والمنافسة على كراسي الحكم والإدارة بالوسائل القانونية والديمقراطية، ثم بالاحتجاج الشعبي والعصيان المدني وصولاً للثورات الشعبية، التي لا تستطيع الأنظمة الوقوف في وجهها، تلك الثورات التي يخرج فيها الملايين من جميع أطياف الأمة وأحزابها.
لا طريق للمصلحين غير ذلك، أما أن تخفّ عقولهم وتطيش أحلامهم، ويسرعوا في لحظة غضب وجهل إلى بنادقهم فيقفوا بها في وجه دبابات وطائرات وصواريخ الأنظمة، ليُدخلوا بلادهم وأهلهم في أتون حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، ولا تصل بهم إلى هدف ومستقر، فهذا هو الجنون والجهل الذي يؤكد عدم أهليتهم لتحمُّل الأمانة، أمانة الدين، التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها، لثقلها وعظم شأنها وهول تبعتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.