طبيعتنا البشرية تدفعنا دائماً إلى حب كل ما هو جميل في حياتنا، وتُزيد من رغبة امتلاكها أو الاقتراب منها والتنعم بمحاسنها المتفجرة في أعين العاشقين.
هكذا الإنسان المُحب لكل ما يراه مصدر سعادة وبسمة في خياله، فيصنع له واقعاً افتراضياً يعزله عما يعانيه من مصاعب ومتاعب في واقعه إذا لم ينجح في تحقيق أمنيته بالعيش مع مَن يحب أو في قربه.
من ضمن قوائم ما يتمناه الإنسان ويقع في عشقه هو المكان، ولكل منا دوافع لهذا العشق، فمنا مَن يعشق جدران وشوارع مهما كانت بساطتها وعشوائيتها كونها شاهدة على ذكريات طفولته وشبابه وموطن مَن أحبهم وأحبوه وتأثّر بهم.
ومنا مَن يعشق المكان وفق مقاييس الجمال الخاصة به، ويجعل منه عاصمة للجمال والخيال، ولعل الحد الأدنى الذي يجمع كل البشر في وصف جمال المكان يجمعنا، والاختلاف ينحصر في نسب تقدير وعشق الأماكن الجميلة، خاصة الأماكن التي تجمع في محاسنها الطبيعة والتاريخ والتحضر.
أماكن ربما لا نرى وجهها الآخر من شدة جمالها، ونجد أنفسنا في النهاية ضحية عشق لم تتوفر مع أدوات استمراره وتنعمنا بالعيش فيها.
التقييم عن بُعد في مثل هذه الحالات قائم على ما يشعر به الشخص من ارتباط بهذا المكان ومحاسنه، دون الالتفات لكيفية الاقتراب منه واستمرار الحياة فيه، وغالباً ما يتفاجأ هذا النوع بوجه الجميلة الآخر القاسي وربما المتوحش الذي لا يمكن أن يُرى إلا من داخلها.
أما التقييم من خلال تجربة مستمرة أو انتهت يتسم غالباً بالعقلانية، بعيداً عن قيمة هذا المكان في قلوبنا، فكم من حبيب القرب منه يقتل!
إنها إسطنبول الجميلة التي تشغل عقول ملايين البشر وتُشعل قلوبهم بمحاسنها التي لا توصف تاريخاً وطبيعة، والكل يتمنى اللقاء بشغف.
هكذا كانت إسطنبول في عيون مَن كانوا قديماً مثل من ما زالوا ينتظرون بشغف اللقاء قبل أن يأتوا إليها ويستقروا فيها، فتكشف عن وجه آخر لا يُقلل من نسيم جوها وعبق تاريخها وسحر طبيعتها وجمالها، وجهاً يعتريه التوحش والقسوة على البشر ويرهق أنفسهم ويفتت أجسادهم.
نعم الوجه الذي تتسم به المدن الكبرى والمجتمعات المفتوحة، ولعل أهم ما فيها هو الازدحام وارتفاع نفقات الحياة، وكذلك الجمود في تعامل أصحاب رحلات تحصيل العلم أو أصحاب الطموح والمال القادمين من كل مكان داخل وخارج تركيا وهم كُثر.
هذه الأهداف التي صنعت قواعد الجمود داخل المدن الكبرى في مختلف بلدان العالم وجعلت من أصحابها قوالب لا يفجر قوتها إلا النفعية، وما يمكن أن يعود عليها بالنفع فغابت بشكل كبير مساحات التواصل الإنساني التي تمثل أهم مصدر سعادة النفس البشرية بالحياة في مجتمع متوازن يجمع بين العمل والإنسانية والعلاقات الاجتماعية التي تتميز بها المدن الصغيرة والقرى والمجتمعات البسيطة.
هذا المعنى لا يؤلم بشكل كبير وقاسٍ إلا القادمين من مجتمعات بسيطة شكلت الإنسانية والعلاقات الاجتماعية والتعاون شخصياتهم، وأصبح من الصعب التخلّي عن أي من هذه القيم أو حتى قبول الفكرة ووضعها في خانة المتغيرات.
يواجه هذا النوع أشد الصعوبات النفسية ورغم نجاحهم في استمرار حياتهم في حضرة الجميلة المتوحشة، فإنهم يجدون صعوبة في التأقلم مع هذه القواعد القاسية.
فسبحان مَن لا كمال إلا له! مدن تُسعد النفوس بما فيها من بساطة ورحمة وإنسانية ويعيبها نقص في التحضر أو التاريخ أو الطبيعة، ومدن يشهد كل شبر فيها على سحرها، وفي شوارعها قلما حكمت الروابط الاجتماعية والإنسانية علاقات الناس ببعضها جعلت النفوس لا تؤمن بما تراه العين من جمال.
أنا لا أنفي وجود المساحات الإنسانية، ولكني -وفق تقديري الشخصي- أجده قليلاً جداً كطبيعة المدن الكبرى في كل بلاد العالم، مثل القاهرة عاصمة بلدي مركز الطموح والجنوح.
إسطنبول الجميلة تُرى محاسنها في جولة سياحية تستغرق أياماً، وربما تتكرر كل عام أو كما يراها أصحاب القصور العالية على البوسفور أو طالب لا يحتاج ذهابه للجامعة أو بيشكتاش وأورتاكوي وتقسيم إلى مواصلات طويلة تُنهك الجسد وُفقد العقل اتزانه والنفس هدوئها.
ربما كنت من القلائل التي حدثت معهم مواقف إنسانية لا تُنسى منها ما حدث معي منذ عامين ونصف، عندما ركبت بالخطأ أتوبيساً وحل علينا المساء ووصلت إلى منطقة عمرانية في آخر الشق الآسيوي، وعندما لاحظ السائق أنني في ورطة بدأ يتحدث معي وأنا لم أفهم منه إلا كلمة (مملكات)، فأجبت مصر، فبدأت تظهر بسمات السائق الأنيق الذي لا يقل عمره عن 55 عاماً، واتضح أنني كان من المفترض أن أستقل 15p، وليس أتوبيس 15b، لم يتركني حتى ركبت "باص" يمر على محطة يمر منها الباص المقصود، وبالفعل مع وصولي لهذه المحطة نزل معي السائق وذهب معي إلى المحطة في الطرف الآخر الغير مواجهة للمحطة التي وقف فيها وسأل المنتظرين في المحطة مَن منكم سيذهب إلى محطة باشا باهتشه (مقصدي)، فأجاب منهم بنعم، فسلمني لهم حتى أصل إلى مقصدي.
ومواقف أخرى معي أو كنت شاهداً عليها ولكنها لا تقارن بقواعد النفعية والمصلحة المترسخة في أركان المدن الكبرى.
هذا الجمال والتوحش التي تتسم به المدينة العريقة يراه التركي المغترب والأجنبي، ولا يعبر من السمات الأساسية وقيم المجتمع التركي بشكل عام التي تشهد عليه وعلى إنسانيته ووحدة نسيجه ومتانة علاقتهم الاجتماعية، كل المدن والقرى والمجتمعات التركية البسيطة باستثناء أهم مراكز التجارة والحضارة والسياحة في العالم، إسطنبول الجميلة المتوحشة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.