مع هبوب رياح الثورات العربية في أنحاء الوطن العربي ارتفع الحس السياسي لدى الشعوب، ونبرة الاعتراض على الظلم السائد في أوطاننا، وارتفعت اليقظة، وأصبح لدى كثير من الناس، خاصة الشباب، المقياس الذي يقيس به الأفراد، هو مقياس مدى قبوله من الظلم أو اعتراضه عليه.
الحرية تلك الكلمة التي تيقظنا عليها فجأة مع مجيء الثورات، وقد كان أغلبنا في سباتٍ عميقٍ عن هذا الهم وليلاه، قد كنا نكتفي بما تعطيه لنا الأنظمة من حبوب الاعتراض؛ لكي نعترض بها عليهم؛ ممثلة في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات وغير ذلك.
يقسمون الحرية على أنها حرية فكرية، حرية اقتصادية، حرية سياسية، وهكذا، ثمة مثلث خطير تعيش عليه الدولة والسلطة، هذا المثلث أضلاعه الثلاث المال والسياسة والعلم؛ لكي يكتمل النظام لا بد له من الحفاظ على هذه الأضلاع قائمة منتعشة.
العلم باعتباره ضلعاً خطيراً في هذا المثلث يمثل النقطة الأضعف فيه، قديماً في تراثنا العربي كانوا يقولون على طالب العلم "إنه لا بد أن يمر بمراحل فقر وضيق من العيش"، والبعض كان يقول إنه "لا بد لطالب العلم من مال يكفيه سؤال الناس؟!".
هل لا بد لطالب العلم أو للباحث بالمفهوم العصري من صبر على الفقر وضيق العيش؟ أم أنه لا بد له من مال يكفيه إذاً؟
أم أن من حقه أن يعيش أحسن حياة كغيره أو أحسن من غيره على اعتبار أنه وأمثاله نواة نهضة الأمة وعقلها؟
الحقيقة أن ما شهده الواقع يفشل ما يردده الكثير من الناس من الصبر على شظف العيش والفقر وغير ذلك، وإن كان لا بد أن يمر به الباحث باعتبار أن العلم بضاعة غير رائجة لا يأتي من ورائها المال، اللهم إلا من التجار فهم يعرفون كيف يأتون بالقرش من بطن الحوت، أعني تجار العلم.
الحقيقة أيضاً أن هذا النوع من الباحثين وهو الأكثر، أي النوع الفقير، كانوا نقطة ضعف يستغلون أينما رحلوا أو ارتحلوا، فهم يستغلون من قبل الدولة أو رجال الأعمال أو حتى الباحثين الكبار منهم، ممن يتوفر لهم المال، وهؤلاء يتمثلون بكثرة في أساتذة الجامعات والمؤلفين والكتاب وغيرهم، وكلنا يعرف حكايات كثيرة في هذا الباب، لا بأس أن أذكر منها مثالين صغيرين.
منذ حوالي عشر سنوات بعد تخرجي في الجامعة مباشرة مررت بالمرحلة التي يمر بها جميع الشباب، وهي البحث عن العمل، وعملت بما يسمى مركز أبحاث -وبالمناسبة كلمة "مركز أبحاث" من أكثر الكلمات المنتشرة في أوطاننا والتي تحمل في كثير من الأحيان الوهم واللاشيء، لكن تأتي برزق نافع لأصحابها!- كان عملي يتركز في المراجعة اللغوية للدراسات والأبحاث التي بالمركز، وقد كان بداخلي أثناء عملي بالمركز كمّ لا بأس به من السخرية من نفسي وممن حولي، رويداً رويداً اكتشفت أن هذا المركز يعمل لحساب صاحب المركز، ويصدر له كتابات ومؤلفات باسمه ينشرها بكل مكان، وسط هذا أيضاً طلب منّي صاحب المركز، والذي سيرته الذاتية تملأ كراسة من كثرة مؤلفاته التي ذكرها؛ أعني مؤلفات عماله! طلب منّي أن أصنع بحثاً لمسألة فقهية، وقال لي: لك ما تشاء من بدلات التنقل وغيره، فبدأت بالفعل أجمّع قليلاً دون سؤال لمن هذا؟ أثناء تجميعي البدائي تساءلت في نفسي قائلاً: هل هذا العمل سيكتب باسمك أم باسم مَن؟ لمن هذا العمل؟
على التو ذهبت إلى مدير المركز وحكيت له ما أجده في نفسي، فقال لي: هذا عمل!، قلت له: أعلم ذلك، باسم مَنْ سيكتب هذا العمل؟، قال لي: هذا ليس شغلك!، قلت له: هذا قد يكون رسالة ماجستير أو دكتوراه، قال لي: ربما، قلت له: هذا غش وخيانة للعلم وللأمانة العلمية، فسكت وضحك، وقال لي: ليس الأمر هكذا أنت تأخذ أجراً على هذا العمل التي تقدمه، وأنا شخصياً عملت كثيراً في هذا دون شعور بحرج أو غيره، قلت له: أنا ما زلت عند رأيي أنه غش وخيانة للأمانة العلمية، قال لي: أنت بهذا تشكك في كل مؤلفات فلان، وهو صاحب المركز، قلت له: ولو!
بعد ذلك جاء فلان صاحب المركز وبدأ النقاش بيني وبينه، وقد ظهر عليه تفاجؤه الشديد بما قلته، على صغر سنّي ومقامي وكبر سنّه ومقامه آنذاك، وأذكر أن مما قاله لي إن هذا من باب التعاون على الخير، (هكذا هم دائماً يلبسون الحق بالباطل ويطوِّعون من المبادئ ما ينفعهم!) فقلت له باللهجة الشعبية: اترك العلم أنا سأعطيك مثالاً آخر، نفترض أن عندي بعضاً من المال وأريد أن أصنع مشروعاً وليكن محلاً للبويات، ودخل معي في المشروع شريكان، ففتحت محلاً للبويات وكتبت عليه "محل رامي للبويات"، سألته: ماذا سيحدث عندئذ؟، قال لي: ماذا؟، قلت له: أقل ما يقال في هذا أن الشريكين سوف يغضبان جداً منّي وسيطلبان كتابة اسميهما أيضاً على المحل، أو أن أكتب محل "رامي وشركاه" هذا في حال أن يكون مالي أكثر من مال الشريكين.
فتحول إلى خطيب متقعر، وقال لي: إن ما تقوله هذا يحدث كثيراً من التلامذة العاقّين لأساتذتهم ومعلميهم… وهكذا تهرّب وأخذ بأطراف الحديث إلى خارج الموضوع.
هذا مثال مما حدث، وأنا موقنٌ أن كثيراً ممن عمل في البحث العلمي عندهم أمثال هذه الحكايات، كمثل فلان المحقق الذي كثرت تحقيقاته التي ينشرها باسمه، وهو في الحقيقة عنده مكتب يشغِّل فيه الباحثين المساكين ويعطيهم فتات الأموال؛ ليخرجوا له ما سينشر باسمه، (ومن طرائف هذا ولطائفه أن يأخذ هذا الحوت الجوائز ويخرج أمام الناس ليشرح ببراعة ما لقيه من معاناة أثناء تحقيق مشروعه) هذا غير أساتذة الجامعة وما يصنعونه من مشاريع تحت أسمائهم، وهذا غير مبدأ "شيّلني وأشيّلك" باللهجة المصرية، ومعناه أنني سوف أقدم لك خدمة مقابلها ستكون خدمة أيضاً، هذه الخدمة تكون متوفرة في وظيفة أو مال أو ترقية من مدير في العمل أو من أستاذ في الجامعة.
دعني أحكِ لك قصة أخرى ليست بطريفة، هذا أحد أصدقائي ممن عاشوا في إحدى الدول الأجنبية وأخذ جنسيتها وجاء إلى بلادنا خطأ لكي ينال درجة الدكتوراه في أحد التخصصات التي ظن أننا فالحون فيها، وهكذا من يعيش في الغرب يذهب كثير من مكره الذي يكتسبه من بلده الأصل، المهم أن صديقي وقع على أحد الأساتذة الذي استغله جيداً في أعمال تعود على الأستاذ، وكان من ذلك أنه أعطاه مقالة ترجمها إلى اللغة الإنكليزية، ثم بعث بها أستاذه لينشرها في إحدى المجلات الأجنبية دون ذكر للطالب صغيراً كان أو كبيراً، هكذا نحن!
والسؤال الواضح الذي نوجهه لأنفسنا: هل هذا فساد يطال البحث العلمي ويخربه أم لا؟! إذا كانت الإجابة بنعم إنه فساد، فلا أستطيع أن أسأل لماذا نحن صامتون عليه؛ لأن الأمر موزّع بين كبار حيتان منتفعين وصغار ذوي حاجة مستغلين ومستخدمين، وكلا الفريقين ليس من مصلحته أن ينطق بكلمة، وإذا كانت الإجابة بلا ليس هو من الفساد في البحث العلمي، وهذا مما يتبجح كثير من الحيتان المستغلِّين، فالسؤال التابع له: إذا كان ليس فساداً فلم تخفيه عن الناس؟! هل لديك الجرأة أن تقول أمام الناس إن هذا البحث الذي أثنت عليه اللجنة الفلانية وأعطتك جائزة عليه شاركني فيه فلان وفلان؟!، أو كان هو عملاً خالصاً له، إذا كانت لديك الجرأة في الإفصاح عما شاركك في البحث ماذا فعل في البحث وماذا قدم لك، وشكرته على جهده ووقته مادّياً بأن أعطيته حقه المادي ومعنوياً بأن ذكرت اسمه في البحث، فهذا إذاً ليس بفساد ولن يعتبر.. والسلام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.