تكاد تخلو العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ، من شوارعها الواسعة الفارغة مروراً بأزقتها المغبرة العشوائية، من أي أحاديث عن القمة المحفوفة بالمخاطر التي من المقرر أن تجمع بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والكوري الشمالي كيم جونغ أون في مفاجأة أصابت باقي العالم بالذهول.
وقالت صحيفة The Guardian البريطانية في تقرير نادر لها من داخل العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ إن تفاصيل هذه اللقاءات المزمع عقدها مع أميركا ما زالت سريةً ولا تُذكر في الإعلام الرسمي، ومجهولةً لمعظم مواطني كوريا الشمالية، وهناك خطر شديد على الذين علموا تفاصيل بسيطة عن الأمر إذا ما ناقشوه علناً.
وبعد أيام من اجتماع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مايك بومبيو، بالزعيم الكوري الشمالي في بيونغ يانغ، رفض مرافقون رسميون تولوا مهمة حراسة صحفيين أجانب في جولة شهدت إجراءات تنظيمية مُشددة في العاصمة الكورية الشمالية ترجمةَ أسئلة حول زيارة ترمب في مناسباتٍ عدةٍ، قائلين فقط إن الأسئلة السياسية لم تكن مسموحة أو غير مناسبة.
التحشيد ضد أميركا يصعب مهمة شرح التفاوض معها
ويُعد مواطنو كوريا الشمالية غارقين في الدعاية الإعلامية عن العدوان الأميركي منذ طفولتهم. ففي إحدى روض الأطفال التي زارها صحفيون الأسبوع الماضي بإحدى ضواحي بيونغ يانغ، وُضع ملصق يحذر من الإمبرياليين جنباً إلى جنبٍ مع جداريات الطيور والفراشات. ووضعت بنادق ودبابات بلاستيكية في الفصول الدراسية بجانب نماذج لأباريق الشاي وأدوات الطهي.
ويُحاط المواطنون بجداريات وتماثيل تُقدس السلالة الحاكمة للبلاد: الزعيم الحالي كيم جونغ أون ووالده الراحل كيم جونغ إيل وجده "الرئيس الأبدي لكوريا الشمالية"، كيم إيل سونغ.
وتُعد ذكرى ميلاد كيم إل سونغ في 14 أبريل/نيسان من كل عام عيداً قومياً في البلاد يُعرف باسم "يوم الشمس"، حين يتدفق آلاف الكوريين مرتدين الأزياء الرسمية إلى الجداريات والتماثيل ومكان ميلاده الرسمي لوضع الزهور وإبداء مظاهر الإجلال والتقدير في مسيرات منظمة بعناية.
وتُميّز الشقق السكنية التي زارها الزعماء الثلاثة، والقطارات التي سافروا على متنها -وحتى كراسي المقاهي التي جلس عليها كيم في شبابه- بلوحات معدنية أو علامات أخرى. وتُوضع لوحات رسمية لصور الزعيمين الراحلين في كل منزل من منازل كوريا الشمالية تكريماً لهما.
ويُصعِّب هذا النظام من التلقين والدعاية أي إعلان رسمي عن لقاء مع ترمب. لا بد من وضع إطار أيديولوجي لتفسير عقد مباحثات مع العدو. وبغض النظر عن كيفية تقديم هذا الإطار، هناك هامش مزعج للزعيم "المعصوم" بأن ينظر إليه وكأنه فشل في تحقيق أهدافه.
نجاح ترمب بتغريداته في تغيير موقف الكوريين الشماليين
ويُعد ترمب خصماً متقلب المزاج كشف عن نفاد صبره حتى قبل أن يحدد الرجلان مكاناً لعقد المباحثات، محذراً أنه سينسحب منها إذا ما رأى أن الاستعدادات لعقد اللقاء لا تتقدم بالشكل المطلوب.
لكن تقلُّبات ترمب المزاجية تلك هي السبب وراء وجود مباحثات من الأساس، إذ دفع وابل اعتداءات ترمب اللفظية ومن خلال تغريداته في تويتر على الكوريين الشماليين بيونغ يانغ للتساؤل عمَّا إذا كانت -لأول مرة منذ جيلٍ كاملٍ- تواجه رئيساً أميركياً يرغب في الهجوم عليها، حسبما قال خبراء.
واستندت تهديدات كوريا الشمالية لأميركا على مدار عقودٍ إلى حد كبيرٍ إلى التهديد الحقيقي الذي يمثله النظام الكوري الشمالي على سيول؛ حيث يعيش ملايين المواطنين بالعاصمة الكورية الجنوبية التي بالكاد تبعد 50 كيلومتراً عن الحدود الفعلية مع الشمال. وكون المدينة تقع في نطاق المدفعية وغيرها من الأسلحة يعني أنها تمثل درعاً بشرياً لبرنامج بيونغ يانغ النووي.
ويعتقد المسؤولون في كوريا الشمالية منذ وقت طويل أنه لن يخاطر أي رئيس أميركي بحياة المواطنين في سيول بشن هجوم على الشمال، لكن تحت إدارة ترامب لا يُعد هذا افتراضاً موثوقاً، حسبما قال أندري لانكوف أستاذ الدراسات الكورية بجامعة كوكمين الكورية الجنوبية.
وقال لانكوف، مؤلف كتاب "كوريا الشمالية الحقيقية": "تواجه كوريا الشمالية وضعاً غير مسبوق يتمثل في رئيس أميركي يبدو مستعداً لشن هجوم عليها مهما كانت الأضرار التي ستصيب سيول، وفرض عقوبات تؤثر على اقتصادها بشدة".
وفي بيونغ يانغ، كان المرافقون الذين منعوا أسئلة الصحفيين الأجانب عن هذه القمة صريحين بشأن ترمب نفسه، إذ قال أحدهم مشيراً إلى خطاب ترمب العدائي في الأمم المتحدة: "إنه مجنون".
وأضاف قائلاً: "لم يصدق الكوريون الشماليون الأمر عندما هدد فعلاً بإبادة أمة من 25 مليون مواطن بأكملها".
مشاركة الحليف الأقرب بالحصار.. الصين
وما يزيد الضغط على كيم هو الاختناق الذي أصاب التجارة الدولية الضرورية لاقتصاد البلاد بعد قرار الصين غير المتوقع بتنفيذ عقوبات قاسية وقَّعتها الولايات المتحدة على كوريا الشمالية وأقرَّتها الأمم المتحدة.
وعلى مدار سنوات، احتجت الحكومة الصينية على شرائح مختلفة من العقوبات الاقتصادية الموقعة على بيونغ يانغ لكبح نظامها النووي. واعتاد الكوريون الشماليون تصدير المأكولات البحرية والفحم ومجموعة الصادرات القانونية الأخرى -المقصورة على فئة معينة في البلاد- عبر الحدود الصينية واستيراد الزيت والمنتجات الاستهلاكية وكانوا في حاجة ماسة إلى العملة الصعبة في البلاد، لكن ذلك تغير في الخريف الماضي.
لم تنقطع كل التجارة بين البلدين، إذ كانت الصين ما تزال تشتري نوعاً واحداً على الأقل من الحديد المُدرج ضمن عقوبات الأمم المتحدة هذا الربيع، حسبما ذكر موقع NK News الإخباري. لكن هناك إجماعاً واسعاً بين المصانع والسائقين، في ظل خمول مواقع البناء والتدفق المفاجئ للمأكولات البحرية في السوق المحلية، على أن بكين قررت اتخاذ إجراءات صارمة بطريقة غير مسبوقة.
تُعد دوافع الصين غامضة، إذ ربما تكون قلقةً للغاية من احتمال اندلاع حرب على حدودها بالنظر إلى عدائية ترمب، أو تبدي تخوفها من انتشار الأسلحة النووية في منطقة هي القوة النووية الوحيدة فيها حتى الآن.
كذبة الاعتماد على النفس
لكن آثار إجراءات الصين ليست محلاً للشك؛ فقد أصبحت كوريا الشمالية ملتزمة رسمياً بالاعتماد على نفسها وتقول إنها يمكنها تحمل آثار فرض قيود على تجارتها الدولية، ولكن في مكانٍ تتفوق فيه الأيديولوجية على الواقع، من الصعب أن تجري مناقشة واضحة عن تأثير إغلاق الصين للحدود.
وفي أحد مصانع الأحذية بالعاصمة بيونغ يانغ، أصر مدير المصنع بشدة على أن كل موادهم الخام صُنعت داخل كوريا الشمالية، بينما كان العمال يقفون على بعد أمتارٍ قليلةٍ من أكياس مفتوحة لكريات بلاستيكية مختومة بعبارة "صنع في الصين" لتغذية خط الإنتاج.
لكن الآثار كانت شديدة ومنتشرة بما يكفي لتستحق الإشارة إليها من بعض الجهات الرسمية، إذ قال ري جي سونغ، الأستاذ بأكاديمية العلوم الاجتماعية في بيونغ يانغ في مقابلة غير معتادة: "تشكل هذه العقوبات بعض العقبات التي تعيق تنمية الاقتصاد بالفعل".
كان ذلك قبل أسبوع من هجوم رئيس الوزراء الكوري الشمالي، باك بونغ جو، على "العقوبات الشريرة ومناورات الضغط"، وتحذيره من "تحديات هائلة غير مسبوقة" وذلك في تقريره عن شهر أبريل/نيسان لبرلمان كوريا الجنوبية "الروتيني"، حسبما ذكر موقع 38North.
ومن المرجح أن يؤثر هذا الضغط الصيني على خزائن الحكومة الكورية الشمالية، التي تُدعم بأموال من شركات خاصة رغم عدم فرض ضرائب رسمياً في كوريا الشمالية.
وربما يكون كيم قلقاً أنه في ظل معاناة اقتصاد بلاده، ربما يُقلِّص التقشفُ الدعمَ الذي يحصل عليه من النخبة الصغيرة التي اعتادت على الرفاهيات البسيطة التي تمثل نمط حياة راقياً في كوريا الشمالية، مثل تناول الطعام والمشروبات في الحانات وسهرات الغناء والرحلات التي يقومون بها بين حينٍ وآخر إلى الملاهي والحدائق المائية.
نجاح دبلوماسية العائلة مستمر
وأثبت كيم، مثل أسلافه، أنه بارع في التلاعب بالقوى الإقليمية والعالمية للحصول على مساعداتهم ودعمهم السياسي بينما يقدم القليل في المقابل. والآن، ربما يضطر كيم في النهاية إلى إجراء تغييرات حقيقية لتجنب الأزمات السياسية والاقتصادية التي تلوح في الأفق.
وقال لانكوف: "إنهم سيقدمون تنازلات حتى لا يتعرضوا لأي هجوم ولرفع بعض العقوبات الموقعة عليهم"، مشيراً إلى أن هذه التنازلات قد تشمل وقفاً للتجارب الصاروخية والنووية.
لكنه يعتقد أن لا ضغوطات داخلية أو دولية ستقنع الحكومة الكورية الشمالية بالتخلي تماماً عن برنامجها النووي، إذ قال: "إنهم ليسوا انتحاريين، وإذا خسروا أسلحتهم النووية سيصبحون معرضين للخطر بشدة".