صنع المخرج جوليان شنابل فيلماً صادقاً، وإن كان يميل إلى التبجيل بلا مواربة، عن السنوات الأخيرة في حياة فينسنت فان جوخ. مثَّله ويليام دافو بكل سلاسة وصدق يمكن توقعهما من هذا الممثل العظيم.
يأخذ الفيلم المشاهدين في رحلة إلى ذهن الفنان الذي، على الرغم من التشكيك فيه والسخرية منه والمرض، خلق بعض الأعمال الفنية الأكثر إبداعاً في العالم.
يسعى الفيلم لالتقاط حاضرية النشوة والانغماس في اللحظة واليقين الملتهب المفعم بالحيوية الذي رسمه فان جوخ.
وهناك بعض اللحظات البارزة حين وجد شنابل وسيلةً تتيح رؤية لوحات فان جوخ بمفردها، في الموقع، والحقول أو البساتين، إذ تنافس اللوحة المتلألئة ضوء الشمس نفسه تقريباً.
وتُظهر المقاطع الصامتة فان جوخ وهو يسير بخطى واسعة عبر المناظر الطبيعية، مذهولاً ومأخوذاً بما فيها، ويستخدم شنابل ألحان البيانو الحماسية في الموسيقى التصويرية، التي ربما تمثل النظير العلماني لموسيقى آلة الأرغن.
لم يركز على قطع أذن فينسنت فان جوخ وقبل فرضية قتله لا انتحاره
بالنسبة للحدثين الأسطوريين في حياة فان جوخ التعيسة، لم يضِف شنابل طابعاً درامياً على حادث قطع الأذن، وهو قرار حكيم، لكنَّه قدَّم محادثةً طويلة وجهاً لوجه مع طبيبه عن هذا الحدث (مع ظهور فان جوخ بالضمادة والقبعة اللتين جعلهما مشهورين من خلال لوحته الذاتية).
ويقبل الفيلم أيضاً، مثل فيلم الرسوم المتحركة الحديث Loving Vincent، نظرية أنَّ فان جوخ لم ينتحر، لكن أطلق عليه النار فتى محلي مجرم.
كانت هناك مشاهد "مبتذلة" لا داعي لها
في المقابل اعتبر الناقد السينمائي في صحيفة The Guardian بيتر برادشو، أن الفيلم مرّ بلحظات ملل، "فمن السهل الانزلاق إلى نوعٍ من المحاكاة المبتذلة حين يتعلق الأمر بتقديم أسلوب فان جوخ ولوحاته. وللأسف، خلق شنابل في دقيقة أو اثنتين ما يرقى إلى كونه محاكاةً ساخرة لرسومات فان جوخ المستخدمة في المشاهد: تقليد لوحات فان جوخ لماثيو أمالريك وإيمانويل سينيه اللذين يمثلان على التوالي أدوار الطبيب باول جاتشيت ومدام جينو، بينما يرسمهما الرجل العظيم. كان بإمكان شنابل بالطبع تجنُّب هذا السخف والحذلقة ببساطة، بإعطائنا لمحة سريعة عن الصور الحقيقية".
علاقته المضطربة مع غوغان.. المنافس والناقد والصديق
يلعب روبرت فريند دور ثيو تاجر الأعمال الفنية وشقيق فينسنت، الذي كان يرسل له إعانةً شهريةً، وكان يظهر بصفةٍ دورية متجهم الوجه حين يكون فينسنت في المستشفى، أو في ورطةٍ عموماً. يؤدي أوسكار إسحاق دور غوغان، صديقه العزيز، ومنافسه وناقده.
كانت شخصيتاهما سريعتي الغضب، لدرجة تُصعِّب أن يكونا بصحبة بعضهما لوقتٍ طويل، وأوفى شنابل حق الحب المؤلم بينهما.
واعتبر برادشو أنه "كان هناك تحذلق في مساحاتٍ متكررة من الحوار في الأداء الصوتي، ندركه على الفور تقريباً بعد أن نراه ونسمعه، كما لو أنَّه استُخدِمَ لاستعراض كيف يكتئب فان جوخ باستمرار ويفكر فيما يحدث".
وأجمل مشاهده حين بدأ بمواجهة البشر لا الأشياء
وكان لمادس ميكلسن ظهور شرفي مثير للاهتمام في شخصية كاهن مكلف بتقييم استعداد فان جوخ للخروج من المستشفى، وهلعه المهذب إزاء ما اعتبره لطخاتٍ عديمة القيمة من فان جوخ.
كان أفضل مشهد حين واجه فان جوخ البشر، مقارنةً بمواجهته للأشياء. إذ قاطعته مجموعة جامحة من أطفال المدارس مع معلمهم الفظّ الرجعي، بينما كان خارجاً يعمل بجد، مطالبين بمعرفة ما يفعله ومطلقين حكماً قاسياً.
وأتت المشكلة الحقيقية حين أقدم فان جوخ، في أوج إلهامه وجنونه المحموم، على إيقاف راعيةٍ بسيطة على الطريق، وطلب منها الاستلقاء حتى يتمكن من رسمها في وضعٍ معين، وهي مواجهة أصبحت لاحقاً شكلاً من أشكال الاعتداء.
المخرج نفّذ بعض اللوحات بنفسه ويده ظهرت في مشاهد الرسم
وعن الفيلم قال المخرج شنابل، إنه لم يكن يود صناعة فيلم في السابق عن فان جوخ، رغم أن الأمر عُرض عليه أكثر من مرة. كانت الأفكار المعروضة عادية ومتوقعة، على حد تعبيره، إلى أن بادرت إلى ذهنه فكرة تقديم فيلم يدخل إلى عقل فان جوخ ويصوّر الإحساس الذي كان يشعره الفنان قبل أن يرسم لوحاته، وهو ما يشعر به الناظر إليها في كل مرة.
وقال في تصريح لمجلة Variety، إنه كان من المهم بالنسبة إليه ألا يصنع فيلماً يروي قصة حياة الفنان، وقال إن عشقه للفن وحتى امتهانه له فتح له احتمالات أوسع من مخرجين آخرين، فطرح أسئلة وأجوبة على غرار: كيف صنع تلك اللوحات؟ كيف أنجز أعماله الفنية، إلى أي عمق يجب أن يغوص الإنسان في المجتمع ليتمكن من فعل ذلك، وإلى أي حد احتاج الفنان الطبيعة؟
وقال شنابل إنه كان يوجّه الممثل شخصياً أثناء مشاهد الرسم، فيقول له أي لون يختار، وبأي اتجاه تكون ضربته. وكشف أنه كان يرسم شخصياً أثناء اللقطات التي لا يظهر فيها وجه دافو، وبأن اليد التي كانت تظهر في الفيلم كانت يده.
حتى اللوحة التي تظهر دافو على أنه فان جوخ نقلاً عن اللوحة الشخصية لفان جوخ عن نفسه، رسمها شنابل لدافو، ليدمج الشبه بين الشخصيتين. كما رسم الممثل أوسكار ايساك على أنه غوغان شخصياً.
ومن المقرر أن تعرض شاشات السينما الفيلم في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
والفيلم أداء ذكي لدافو التقطه المخرج باقتدار
يقول برادشو: "قطعنا شوطاً طويلاً منذ الأيام التي داهم فيها جون واين زميله كيرك دوغلاس، بعد عرض فيلم سيرة ذاتية لفان جوخ عام 1956 مثله دوجلاس، وصرخ فيه قائلاً: مثلنا شخصياتٍ صعبة وصلبة، وليس هؤلاء الشواذ الضعفاء".
قوة فان جوخ وانتصاره في هزيمته باتت الآن أجزاءً مقبولة من أسطورته وفق براشو، وربما يعيد فيلم شنابل التأكيد على هذا القبول بسهولة.
تُظهر لقطة في بداية الفيلم أزهار دوّار شمس ذابلة ومحترقة، لتعد فيما يبدو بشيءٍ غير تقليدي. ولكن ما أنتجه الفيلم أداء قوي وذكي وقيم من دافو صوَّره شنابل باقتدار.