للدكتور مصطفى الشكعة كتاب بعنوان "إسلام بلا مذاهب"، يتحدث فيه عن قضية التمذهب التي صاحبت الفقه الإسلامي منذ أول عمر الأمة الإسلامية، بعد قليل من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقضية التمذهب والمذاهب الإسلامية قضية يثور حولها جدال كبير، بين قائل بأهميتها وضرورتها في الماضي والحاضر والمستقبل، وبين قائل بأهميتها التاريخية في ماضي الأمة الإسلامية وتجاوزها في هذا الحاضر وعدم الحاجة إليها، وبين قائل بجنايتها على الفقه الإسلامي وعلى الأمة الإسلامية، حيث إلزام المتمذهبين بما لم يلزمهم به الله من وجوب اتباع المذهب في كل آرائه، حتى إن كان في قول المذهب الآخر في مسألة ما وجاهة أكثر.
والحقيقة أن المذاهب الإسلامية ذات فضل كبير على حصيلة الفقه الإسلامي من الآراء والاستنباطات حول كل قضية فقهية وتشريعية، وهو ما أثرى الحياة الإسلامية كلها، وفتح الباب واسعاً أمام جمهور الأمة للأخذ بالرأي المناسب، كلٌ حسب حاله.
غير أن التشدد في التمذهب الذي أتى بعد ذلك أضر بالفقه الإسلامي وبالحياة الإسلامية عموماً.
فمن العنت الشديد أن يُفرض على كل مسلم أن يتبع مذهبه في كل مسألة وقضية، حتى إن كان هناك رأي في مذهب آخر في مسألة معينة هو الأقرب إليه والأنسب له.
ثم إن التشدد في التمذهب أدى في تاريخ الأمة الإسلامية إلى كثير من الخلاف والشقاق، إلى حد أن يثار في بعض الأحيان حديث عن (جواز صلاة الشافعي خلف الحنبلي) و(جواز زواج الحنفي بالمالكية)، وغير ذلك من المسائل التي تنبئ عن الجانب الآخر السيئ من قضية التمذهب والمذاهب.
مرَّت العقود والقرون، وأصبحنا في هذا العصر الحديث، وقد انتهت إلى حد كبير قضية التمذهب، وانتهت المذاهب، إلا في بعض المسائل، وبعض البلاد هنا وهناك.
العنوان العام لهذا العصر، نهاية التمذهب والمذاهب، والنظر إلى المذاهب الإسلامية كلها على أنها حصيلة فقهية واحدة، يرجع إليها الفقيه والمفتي للاختيار من بينها للرأي الأرجح أو الأكثر مناسبة لكل مسألة على حدة.
فيرجّح في هذه المسألة بين الآراء ويأخذ بالمذهب المالكي، ويرجح في تلك المسألة بين الآراء ويأخذ بالمذهب الشافعي، وهكذا…
أصبحت المذاهب كلها وكأنها مذهب واحد، تتعدد فيه الآراء، وللجميع أن يأخذوا من هذه الآراء جميعها حسب الترجيح والمناسبة.
أصبحنا في زمن (إسلام بلا مذاهب) كما ذكر الدكتور مصطفى الشكعة في عنوان كتابه.
وهذا الذي وصلنا إليه، عارضه البعض من العلماء والمفكرين الإسلاميين، معتبرينه مُضراً جداً بالفقه الإسلامي والحياة الإسلامية عموماً.
لكن الحياة الإسلامية المعاصرة شهدت خلافاً من نوع جديد، هو الخلاف الحادث بين الجماعات والتيارات والتنظيمات الإسلامية.
وكأن الجماعات والتنظيمات والتيارات الإسلامية هي التي ورثت قضية المذاهب وخلافاتها.
وإن كانت المذاهب الإسلامية القديمة قد أحدثت الخلافات حول الدلائل الشرعية من القرآن والسنة في القضايا الفقهية الكلية والجزئية، والترجيح فيما بينها، والاستنباط منها.
فإن الجماعات والتنظيمات والتيارات الإسلامية قد أحدثت الخلاف حول طريقة العمل لخدمة الإسلام (عقيدة وشريعة وأمة).
فمن الجماعات الإسلامية من رأى أن خير طريق لخدمة هذا الدين دعوة الناس إلى الله والرجاء فيه والخوف منه، وعدم الزيادة على ذلك، من أجل البعد عن أكبر الخلاف وأصغره. فالحديث عن الله هو الحديث الذي يتفق عليه الجميع ولا يختلفون فيه. فكانت جماعة التبليغ والدعوة التي تأسست في الهند على يد الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي في عام 1926م، ثم انتشرت بعد ذلك في كل البلاد العربية والإسلامية.
وتعتمد هذه الجماعة الكبيرة على أبسط خطاب دعوي، مع أبسط المراجع كذلك، إذ يكادون لا يخرجون في قراءاتهم عن كتابي (رياض الصالحين للإمام النووي) و(حياة الصحابة للشيخ المؤسس محمد يوسف الكاندهلوي).
ومن الجماعات الإسلامية جماعة، أو بالأحرى تيار رأى أن أفضل طريقة لخدمة الدين الإسلامي نشر العلم الشرعي بين الناس، ونشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً في المظهر واللباس، ومحاربة البدع والقبورية وكل ما يمس العقيدة، حتى تعود العقيدة نقية بيضاء كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا التيار هو التيار السلفي، الذي يعود إلى أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703م_م1791)، الذي نشر أفكاره في شبه الجزيرة العربية، من خلال تحالفه السياسي مع محمد بن سعود.
وكان من آثار هذا التحالف إقامة الدولة السعودية في بلاد نجد والحجاز في عام (1932م). وهي الدولة التي قامت على أساس دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلى منهجه، وعلى نشر ذلك المنهج في البلاد كلها، ما أدى لانتشار هذا التيار في البلاد العربية والإسلامية كلها، وهو تيار معروف بمنهجه العقدي ومظهره الخارجي.
وقد حدثت داخله كثير من الاختلافات والخلافات، مما جعلته في الحقيقة أكثر من تيار، ففيه التيار الجامي المدخلي، والتيار السروري الحركي، والتيار العلمي الدعوي، والتيار السلفي الجهادي.
وهناك جماعة أخرى، رأت أن أفضل طريقة لخدمة الدين العمل لعودة دولته التي تحكم بشريعته، والتي تتوحد تحت رايتها كل بلاد العرب والمسلمين، أو جلها على أقل تقدير.
وهذه الجماعة هي جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست على يد الشيخ حسن البنا في عام (1928م)، والذي عمل على تأسيس جماعته بعد أربعة أعوام فقط من سقوط دولة الخلافة الإسلامية العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
وأخذت هذه الجماعة على عاتقها العمل من أجل عودة هذه الدولة، وعودة شريعة الإسلام الحاكمة، وعودة الروح الإسلامية للأمة، روح العزة بالدين ومنهجيته وتاريخ دولته.
وانتهجت جماعة الإخوان المسلمين العمل السياسي من أجل الوصول للحكم بمشروعها ومنهجها، وتحملت في سبيل ذلك أكبر العنت من أنظمة حاكمة تعاديها من أجل البقاء على كراسيها.
كانت هذه التيارات الإسلامية الثلاثة بجماعاتها هي التيارات الكبرى في الأمة الإسلامية، والتي أخذت إلى دورها في الحياة الإسلامية، فكانت في الناس كما كانت المذاهب الإسلامية من قبل، وكان لها مثل ما للمذاهب، خير كبير عم نفعه على الأمة كلها، وشر لا يستهان به مرده التعصب والتعادي، إلى حد الابتداع والتفسيق والرمي بالخروج من الملة كلها.
فكرة وجود الجماعات والتيارات الإسلامية فكرة في أصلها جيدة ومهمة لخدمة الدين الإسلامي ومشروعه الحياتي، فهي فكرة تقوم على أصل يقول (فرضٌ على الفرد المسلم أن يعمل لخدمة دينه، وكلٌ يعمل حسب طاقته وإمكانياته والطريق الذي يفتح الله له فيه).
فالدعوة إلى الله والعمل لخدمة دينه ونصرة أمته فرضٌ على كل مسلم، غير أن الله لم يفرض طريقة معينة لهذا العمل، وإنما جعل لكل فرد طاقته وموهبته، وكلٌ مطالب بأن يعمل على حسب ما أعطاه الله له.
قال الله تعالى" (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) 226 البقرة.
ويقول المفسرون: والله يعلم وسعها، فهو الذي قدّره لها.
خلق الله عز وجل أناساً بسطاء في تفكيرهم وقدراتهم، وفرض عليهم الدعوة إليه والعمل لدينه، فكان من حُسن تقديره أن جعل لهم مثل هذه التيارات والجماعات التي تدعو إلى دين الله بأبسط أدواته، ولا تُدخل نفسها في مواضع الخلاف الذي لا تقدر عليه، وتبعد بذلك عن مناكفة الحكومات والأنظمة، فهي لا تقدر على ذلك أيضاً.
وخلق الله عز وجل أناساً تميل أنفسهم إلى التحصيل العلمي والشرعي، وتحب أن يكون عملها نشر ذلك العلم في عموم الناس، ومن حسن تقدير الله لهؤلاء أيضاً أن جعل لهم تلك التيارات التي تهتم بهذا المجال وتبدع فيه.
وخلق الله عز وجل أناساً حركيين سياسيين ثوريين، تتوق نفوسهم إلى تغيير الواقع بتغيير رأسه، فجعل الله لهم تلك الجماعات التي تنتهج السياسة والعمل الحركي من أجل ذلك.
ولو بقي الأمر كذلك، تيارات وجماعات يلتحق بها الناس رغبة في العمل لدين الله ونصرة شريعته، كلٌ حسب ميوله وما جبله الله عليه، لكانت فكرة الجماعات والتيارات الإسلامية هي من أعظم الأفكار التي حدثت في تاريخ الأمة الإسلامية نشراً للدين ونصرة له.
لكن التعصب للجماعة والتيار، والتحاسد والتنافس والتعادي بين هذه التيارات والجماعات، إلى حد الرمي بالفسوق والمروق عن الدين، والوقوف مع أعداء المشروع الإسلامي ضد بعضهم، هو ما أفسد هذه الفكرة وجعل شرها كبيراً إلى الدرجة التي تجعل البعض ينادي بـ(إسلام بلا جماعات).
لوجود الجماعات والتيارات الإسلامية فضل كبير في نشر الإسلام ومنهجه ومشروعه الحضاري، ولا ينكر هذا الفضل إلا جاهل أو حاقد.
والتعصب الذي أحدثته هذه الجماعات والتيارات إلى حد التعادي والتفسيق والتبديع، تعصُّب كبير لا ينكره إلا جاهل.
غير أن الدعوة إلى إسلام بلا جماعات دعوة جائرة، ليست في وقتها البتة.
فالناظر بإمعان في هذه اللحظة التي نعيشها سيجد أن وجود الجماعات والتيارات الإسلامية هو شيء يصل إلى حد الضرورة الواجبة، في ظل هذا الواقع الإسلامي البئيس من كل وجوهه.
وإن دور الجماعات والتيارات الإسلامية دور كبير لن يقوم به غيرها.
لتبق الجماعات والتيارات الإسلامية، وليدعها الجميع إلى حسن الخلاف، والبحث عن فكرة التعاون وتوزيع الأدوار فيما بينها.
ولو كان ذلك على أحسن صورة لكان النصر الكبير لمشروعها الإسلامي والدعوي، فقد باتت هذه الجماعات والتيارات تمتلك أعظم ما في هذه الأمة، من عقول وعلماء ومفكرين وشباب وطاقات، يعول عليها إن اجتمعت معاً أو تعاونت فيما بينها أن تحدث انقلاباً في الحاضر الإسلامي والحاضر العالمي كله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.