فاز بافل بافليكوفسكي بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي في مايو/أيار الماضي عن فيلم Cold War الذي يدور حول قصة الحب المستعرة بين عاشقين عاثري الحظ يفرقهما الستار الحديدي في أوروبا في فترة ما بعد الحرب.
استلهم بافليكوفسكي الفيلم من قصة والديه (وأهداه لهما)، ووصفهما بأنَّهما: "من أكثر الشخصيات التي قابلتها في حياتي إثارة وروعة.. كلاهما قويّ وعظيم، ولكن وجودهما معاً يمثل كارثة أزلية".
ومع أنَّ بطلي الفيلم العاشقيْن فيكتور وزولا يحملان نفس اسمي والديّ مخرج الفيلم وسماتهما الشخصية، إلا أن قصة كل منهما من وحي الخيال ورمزية، فتأخذنا من ريف بولندا إلى شوارع برلين الشرقية، ومن باريس إلى يوغسلافيا، وتعرّج على 15 سنة من الاضطرابات لتعبر بذلك حدوداً موسيقية وجغرافية وسياسية وأخيراً وجودية حسب صحيفة The Guardian.
وباكورة ذلك كله هو إنتاج البولندي-البريطاني-الفرنسي المشترك المبهج والمتميز، الذي ذكّرني بشكل مفاجئ بفيلم Casablanca أو فيلم La La Land كما أعاد تصوره أندريه فايدا أو أنيسكا هولاند -وهو تذكير بالأشياء الأساسية التي تستمر بمرور الزمن.
الفن الشعبي لن يضيع بعد ذلك
يبدأ الفيلم بمشهد في ريف بولندا، عام 1949، حيث يسجل فيكتور (ويؤدي دوره الممثل توماس كات) وإيرينا (أغاتا كولشا) أغانٍ شعبية -تدور حول قصص حزينة عن الحب والشراب والصعاب بكافة ألوانها وصنوفها. وتحت راية "فرقة Mazurek" (وهي مستوحاة من فرقة Mazowsze الموجودة على أرض الواقع)، يجريان اختبارات أداء للموسيقيين والراقصين لإبراز الأصوات الأصيلة في بولندا، للتأكد من أن "الفن الشعبي لن يضيع بعد ذلك".
أثناء الاختبارات تأتي زولا (جوانا كوليغ)، وهي شابة غامضة تتظاهر بأنها فتاة قروية ولكنها لا تقدم لحناً قروياً وإنما أغنية تعلمتها من فيلم روسي. وتستشعر إرينا أنها "مخادعة" لكنها خلبت لب فيكتور، وقد ثارت حولها الأقاويل بأنها قتلت والدها ("عجز عن التمييز بيني وبين أمي، لذا استخدمت سكيناً لأريه الفرق").
ولا تلبث زولا أن تصبح واحدة من نجوم فرقة Mazurek، التي لم تعبأ بمطالب السلطات بإطلاق أغانِ تمجد ستالين والإصلاح الزراعي. وعندما سنحت الفرصة لفيكتور بالفرار خلال اشتباك عام 1952 في برلين الشرقية، توسل إلى زولا أن تصحبه. ولكن هل تتنازل عن أولوياتها البراغماتية من أجل أحلامه ذات الميول الغربية؟
صور الأبيض و الأسود
بالعودة إلى النمط الذي ظهر عليه فيلم Ida الحائز على جائزة أوسكار، والذي اتبع قواعد نسبة الباعية القياسية للصورة، واستخدم صور الأبيض والأسود، تنتقل صور بافليكوفسكي والمصور السينمائي لوكاش زال المذهلة من الأطُر القديمة الثابتة المشكَّلة بعناية إلى حركات أكثر تحرراً تتوافق مع النقلات الموسيقية للقصة.
وكما تبدِّل لحن أغنية Dwa serduszka (وتعني قلبين Two Hearts) لفرقة Mazowsze البولندية الشعبية من نغمة ريفية إلى أغنية صاخبة بموسيقى الجاز، يعرض بافليكوفسكي ببراعة سلسلة من التغييرات الأساسية الجمالية، التي تعكس المد والجزر في قصة الحب الهائجة التي تدور حولها القصة. هناك شدّ مستمر بين الاجتياح الملحمي للرواية وحصر الصورة داخل صندوق إطاره بمقياس 4×3 الذي يتطابق تماماً مع الفكرتين الرئيسيتين المتلازمتين اللتين يدور حولهما الفيلم: الحرية والحبس.
المزج بين الحرية والانحباس
والمشهد الذي ترقص فيه زولا وهي ثملة على أنغام أغنية Rock Around the Clock لبيل هالي يعكس بحيوية التشابك بين شعوري الحرية والانحباس.
وفي صميم هذا كله، تأتي، جوانا كوليغ، التي عملت من قبل مع بافليكوفسكي في فيلمي The Woman in the Fifth وIda، والتي تقدم في هذا الفيلم أداءً مذهلاً يليق بنجمة سينمائية مع عمق ومدى مذهلين.
وأمام أعيننا نرى زولا تتحول من امرأة شابة ليست بالبراءة التي تبدو عليها (تعترف صراحة بالتجسس على فيكتور لصالح أمن الدولة) إلى مغنية جاز مبتذلة وفتاة استعراض منهكة؛ ومن الحسناء "البولندية النقيِّة" إلى مغنية باريسية تدخِّن بشراهة؛ ومن ضحية إلى منتصرة ثم إلى ضحية مرةً أخرى.
من دور الفنان إلى فتاة عنيدة
ومنذ أول ظهور ناجح لكوليغ في فيلم Cold War في مهرجان كان، قارنها الكثيرون بجين مورو، رغم أنّ ذكاءها وحساسيتها الفائقة يذكرانني أكثر بليا سيدو. فكوليغ مثلها، تتمكن من أن تنسل بخفة من دور الفنان البارع إلى دور فتاة عنيدة ممن يظهرن في أفلام جيمس بوند. ومن قبيل الصدفة أن توماس كات الذي يشاركها البطولة قد وقع عليه اختيار المخرج داني بويل لأداء دور الخصم الشرير في فيلم جيمس بوند القادم وقد يكون هذا الاختيار هو أحد أسباب "اختلاف الرؤى الفنية" الذي أدى إلى انسحاب بويل من إخراج فيلم جيمس بوند المرتقب.
ولا بد أن نشيد هنا أيضاً بالموسيقار مارشين ماسيسكي، وهو أحد المشاركين الرئيسيين الذين اختارهم بافليكوفسكي في الأصل لأداء دور فيكتور، والذي يرجع إليه الفضل في "تجهيزات موسيقى الجاز والأغاني". تماماً كما عبرت مايلز ديفيس بقولها: "إنَّ ما يهم ليس النوتات الموسيقية التي تعزفها، بل النوتات الموسيقية التي لا تعزفها"، فالجانب الموسيقي من فيلمCold War غامض مليء بلحظات صمت مطبق والفجوات الناقصة. والأمر متروك للجمهور كي يملأ هذه الفراغات المتعاقبة في السرد، وأن يستكشف المشاعر الحقيقية التي غالباً ما تظل طيّ الكتمان. لا أجد تعقيباً على هذا الفيلم أنسب من أنّه تركني منعقد اللسان عاجزاً عن الكلام.