خلفَ كلِّ عالَمٍ ممَّا نحن فيه عالَمٌ آخر يحكى حكاياتٍ مختلفة الأطوار، لا تُروَى في مثل هذه السطور، ولكن ما حِيلةُ الأسيرِ وقد غدا محجوباً عن الناس إلا أن يُفضِي بآلامهِ على تلك الأسطر، فلعلَّها تخاطب العقول، العقول المرهفة، والأنفس السوية. خرجتُ يوماً من زنزانتي في وقت التهوية -التريض- وهو مكان أوسع من زنزانتي قليلاً محاط بالأسلاك، لعلى أرى شمسَ الحياة عبر فتحات الأسلاك الصغيرة، وبينما أسير أنا وأصدقائي وجدتُ عُصفوراً يشدو، لكن ربما كان يشدو ألحاناً حزينة، يشدو ألماً ووجعاً، وكان يُلِحُّ في ذلك إلحاحاً، فهمَّني هَمُّه، ورابني أمَرُه، فقلت في نفسي: علامَ يَئِنُّ هذا العُصفور؟!
فوجدتُ آخرَ يضع له طعاماً، فإذا به عافَه وظَلَّ ينظر لأعلى، فوضعوا له الماء فلم يَحفَلْ به، وأنشأ ينظر إلى شيء بعيد، نظرات تنطقُ بشيء ما، فنظرت حيثُ كان ينظر فلم أرَ شيئاً غير المألوف، فتمنّيتُ حِينها لو كنتُ أفهم لغة الطير كما كان "نبيُّ اللهِ سليمان" من قبل لأعرِفَ حاجتَه وأفرِّج كربَته. أنشأت أفكر في أمر هذا العُصفور، فإذا به يغدو نحوَ هدفه، فدقَّقت النظرَ فوجدتُها فتحةً صغيرةً يحاول الخروجَ منها، الخروج من هذا العَالَم الذي لو تحدَّثَ لَأَنَّ وجعاً من ساكنيه، وربما تألُّم العُصفور كان لسببين، أحدهما هو بحثه عن حريته، والآخر حُزنه على هؤلاء الناس الذين سِيقوا إلى هذا العَالَم من دون وجه حق. ظلَّ يغدو حتى اصطدم بالحديد فعادَ كما كان، فأنشأتُ أفكِّر في أمره، وتملَّكني العجبُ، وانتابتني الدَّهشةُ، فعجباً لأمر هذا الطائر، وللهِ في خلقه شؤون.
هل يفهم هذا الطائر معنى الحرية؟! هل أصبح يحزن لفقدانها؟! ويفرح للقياها؟! نعم إنه يفهم معنى الحرية حقَّ الفَهم، وما كانت مواقِفَه من إمساكه عن الطعامِ والشراب إلا من أجلها، وما كان إلحاحه إلا سعياً وراءها. استعاد قوامَ جسده ليحاول مراتٍ ومرات من دون يأسٍ أو كلل، حتى لو كان يعلمُ في قرارة نفسه أنه قد يموتُ قبل أن يصل، لكنَّ موتاً في سبيل الحرية خيرٌ من حياة العبودية، وغدا هذا الطائر نحو النجاة، النجاة بنفسه، فأبى الحديد أن يكون سبباً في نجاته، فهوى جسده على الأرض. فهذا الطائر قد بلغ ذروةَ الفَهمِ والإدراك في أن يحيا حياة كريمة، حياة الحرية، وهذا ما عجز عنه كثير من بنى الإنسان، وحتى وإن وَصَمَهُم البعض بأن عقولَهم مسلوبة إلا أنهم أجادوا ما لم يُجِدْه كثير من البشر. فما أعجب أن تتخيل العقول البشرية أن يكون الحيوانُ أوسعَ إدراكاً وأكبر حباً لحريته من الناطقين من بنى البشر، فهل كان نطقه شؤماً عليه؟!
هل كان فَهمه سبباً في تعاسته، فيا لها من انتكاسة؟! أوَليس من الغريب أن يسودَ بين البشر منطق القوة، لا قوةَ المنطق، وأن يعيش الضعيفُ أسيراً لدى القوي حِيناً من الدهر يصنع له الأغلال تحت مسميات عدة مثل القانون والنظام وغيره. ربما اختلفت المسميات لكن الهدف واحد، وهو أن يظلمه باسم العدل ويسلب منه جوهرةَ الحياة، وأثمنَها باسم النظام. فهذا ما نعيشه الآن من عصر حريتنا المسلوبة التي وُضِعْنا بسببها تحت القيد والسجان، تحت سطوةِ الجلاد، صنعوا لنا هذه القيود المخيفة كي لا يكون هناك سبيلٌ لسعادتِكَ في هذه الحياة ولا يسيطر على جسمك وعقلك ونفسك وفكرتك، إلا أن تعيش فقط مسلوبَ الحرية، وحينها لا هدف لحياتك.
إذا كانت الحريةُ هي شمسَ الحياة، فلا بد أن تُشرقَ في كل نفوس بنى البشر، فما أظلم ممن عاش بغير شمسٍ، وإذا كان قمراً فلا بدَ أن يُنيرَ في كل العقول، علَّ هذه العقول تعي وتفهم ما عجز عنه الكثيرُ من بنى الإنسان. يا بنى البشر إننا عندما نطلبُ الحرية لسنا بمتسولين، ولا مستَجدِين، وإنما نطلب حقاً من حقوقِنا، حقوقِنا المسلوبة، المسلوبة بالمطامعِ البشرية. فلا مِنةَ ولا فضل لأحدٍ علينا عندما نطلُبُها، فما قيمةُ الحياةِ بغير حرية؟! فلو ضاعت منا حريتنا لَهُنَّا وغدَونا دماً متحركة في أيدي صغار القوم وسفائهم -وهذا ما كان- يحركونها كيفما شاؤوا. فهذه الطيور تصدح في السماء، والأسماك تسبح في البحار، والوحوش تغدو وتهيم في الأودية والجبال، ولكنَّ الإنسانَ يظلُ حبيسَ نفسهِ من الخوف، وحبيسَ حكومته من البطش.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.