ذلك الإطار الوَهِن لا يمثل جزءاً من شروط المحبة ولا القُرب ولا البُعد ولا الجفا، لا يمثل القلوب ولا حاجة له فيها.
الوقت الذي يعتبره البعض قيداً دون غيره، ويعزّزون من قيمته الشارطة رغم هشاشتها.
قُل لي أين حاكم الوقت حين تكوّنت مُضغة في رحم امرأة في ثوانٍ إثر التحامها بمنيّ يُمنى؟!
ما حاكم ذلك الوقت الذي تكوَّن فيه إنساناً له حياة وقدر وخطط وشَريك ونهاية محتومة.. في ثوانٍ؟!
ما قانون ذلك الوقت الذي تحوّلت فيه تلك المرأة لأم؟
عَظُم الحدَثَ وضاق الوقت..
وعلى الجبهة الأخرى.. ما قيمة قانون الوقت الذي انتهى فيه حياة شخص وفاضت فيه روحه، وتألّم لفراقه المقرّبون واقُتلعت قلوبهم حزناً "للأبد" أيضاً في بضع دقائق؟!
وما دام هان قانونه في جُلّ أوقاته وأقدسها.. بداية الحياة وختامها.. فأبده أن يهون في باقي أموره!
ذلك هو الوقت الذي يشترطه البعض لتآلف القلوب، إنما هو مزحة سخيفة وخرافة مُبتدَعة.
ما حاجة الوقت إن التقى اثنان دون معرفة مُسبقة ولا سُمعة واصلة.. وتواصلت قلوبهما رغماً عنهما، ما حاجة الوقت الذي استعصى أن يؤلِّف بين قلبين تشبّثا به ليُديما وصلاً هشّاً.. لأي ما كانت ظروفهما التي أجبرتهما على التلاقي والبقاء دون بقاء الودّ.
ربما تحت شعار "مع الوقت هتحبيه"!
وما حاجة الوقت في صداقة دامت سنوات طوالاً -بقوانينه- افتُرض بها أن تكون عزّزت رابط وصل قوي لا يُقطَع!
ثم قُطع.. قُطع عنوةً ووجعاً لكليهما رغم ثبات القانون ورضوخ القلب له.
وما حاجة الوقت بالنسيان؟!
عجبت كل العجب لأكذوبة علّمونا إياها صِغاراً "كل حاجة مع الوقت بتتنسي"، ربطوا وجعاً وفرحاً لمسا قلباً وتركا فيه ما تركا من أثر بوقتٍ يمرّ عليه مرور الكرام.
رغم أنني ما زلتُ أذكر والدي المهاجر منذ عشرين عاماً، ما زلتُ أذكر جدي المتوفّى منذ أكثر من خمسة أعوام، أذكر ركضي نحوه وتقبيلي لجبهته المُجعّدة الدافئة.
ما زلتُ أذكر أول قهرة فَقْد، أول نجاح، وأول فشل، أذكر تكريمي بحفل المدرسة وأذكر أمي الشابة واقفة تسمع بفخرٍ ابنتها ذات الثامنة من عُمرها تُلقي شِعرها بالفناء.
أذكر أول صديقة تخلّت.. وأذكر حينها أوّل كلمة خطّها قلمي.
لم يُنسِني الوقت أياً من ذلك الشعور، ولم يُبهت أثره.
ربما أرادوا قولاً إننا مع الوقت "نعتاد".
نعتاد الألم، نعتاد الفتور، نعتاد الحب ونعتاد الراحة.
نتعايش مع أيّما "حالة" أصابت القلب.. بحالة من الرضا والسكون المُخدِّر.
أما عن الوقت كقانون يحد العلاقات ويباعد ويقارب القلوب.. فكِذبوا.
كذبوا حين قالوا: "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، فبنظري وضرباً بعرض قوانينكم الحائط "البعيد عن العين قريبُ جداً من القلب.. المُشتاق".
ماذا عمن التقيتُ بهم مرة واحدة -لا ثاني لها- وكأن سهماً أصابني في صميم خاطري.. علّقني بهم تعلُّقاً لا يُقطع.
الذين شعرنا معهم بأُلفة سنوات وراحة لم نلقها في حضور من بقوا معنا أعواماً بعد أعوام!
ماذا عن التقاء الأرواح بالأُفق؟.. الأفق الذي لا يعرف زماناً ولا مكاناً، لا يُعجزه بُعد مسافات ولا طول زمان.
ماذا عمن التقينا بهم بعيداً.. بعيداً في ذلك الأُفق؟
وماذا عن تلك الصديقة التي شاركتُ معها كل حياتي وأدمعت معها ضحكاً ومزاحاً مع أول يوم التقينا فيه وسط جمع كبير، وكأن قلوبنا اختارت بعضها للتلاقي دون غيرها.
رغم تباعد المسافات بيننا وتقارب "حدود الزمن" في علاقتنا، فإنها عَبَرت.. عَبَرت ذلك الغشاء الذي يغشي مُضغة في الصدر لا تعي ما تزعمونه من قوانين.
وهكذا النجاح.. لا علاقة له بالوقت، بل هو مُرتبط بالمحاولات المتكررة.
الثبات رغم وقوع الجميع.. رفعة الهِمَم رغم ثبوطها عند الآخرين.
نيوتن الذي غيّر العالم وترك أثراً في البشرية لا يُمحى.. كانت بدايته إثر سقوط تفاحة عليه في ثانية لا تُلمَح.
نعم، محاولاته كَثُرت عبر سنوات طِوال، أما اللحظة الفارقة في حياته وحياتنا.. كانت ثانية!
محمد -صلى الله عليه وسلم- أتى برسالته في شبه الجزيرة العربية بعد خراب دام مئات من الأعوام، حتى كانت النساء يُحرقن، والبنات يتم وأدهن، وكان الفقر مدقعاً، والطُرق تُقطع، والأصنام تُعبَد، ثم أنقذ العالم بأسِره من ضلال بيّن، حوّل مساره وبنى حضارةً.. في خمسة وعشرين عاماً فقط!
حتى دامت آثاره حتى يومنا ذلك.. بعد ألف وأربعمائة عام.
والله خلَق الكون بكواكبه، نجومه، جماده، نباته، وبَشره في ستة أيام! وضرب لنا مثلاً لنتّعظ ونعي..
لا أنكر قيمة الوقت ولا أُسفِّه من مدى تأثيره على حياتنا، بل أراه أحياناً بلاء.
نعم.. الوقت بلاء، بلاء يمتحن الصبر، التعلّق، عِظم الغاية والثبات.
ولكني أؤمن أنه" قيمة" فحسب وليس شرطاً!
فلا تسوّروا به علاقاتنا، نجاحنا، حُبّنا وبُغضنا.. بوقتٍ دقائقه رتيبة، لا حاجة له بأُلفة عرفتها القلوب أو نجاح شهده العالم.
ورغم قوانينكم.. إن مرّت الأحداث بالوقت، فلا يُمرّ أثرها.
وإن فاتت الكلمات بالوقت، فلا يُنسى وقعها.
وإن جُبر الخاطر بالوقت، فلا يُمحى علامة كسْره.
ربما العقل ينسى، ولكنّ القلب "يتعلّق" والقلب لا يعرف قانوناً يُدعى "الوقت".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.