تشهد المؤسسات الأمنية في إسرائيل تحولات واضحة في آليات التعيين كان آخرها اختيار رئيس الموساد، حيث يتجاوز رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المعايير التقليدية التي تركز على الخبرة والكفاءة المهنية، مفضلاً "الولاء السياسي" في اختيار القيادات الأمنية.
ويأتي هذا التوجه في إطار تعزيز سيطرته الشخصية على مؤسسات الأمن، ما يثير تساؤلات حول تأثير ذلك على استقلاليتها وأدائها، وكان أحدث تجليات هذه السياسة تعيين رئيس للموساد من خارج الجهاز، في خطوة تعكس بوضوح أولوياته في إدارة الملف الأمني الإسرائيلي.
وتقول صحيفة "هآرتس"، إن نتنياهو يواصل تفكيك ما وصفته بـ"الديمقراطية الإسرائيلية"، والأمر لم يقتصر فقط على القضاء على "حراس البوابة"، بل أيضاً إضعاف مؤسسة الأمن، في طريقه إلى "حكم استبدادي جامح".
وأضافت أنه مع نتنياهو، لا يُرشح أحد لمنصب أهلته له خلفيته، بل إن الولاء يغطي على الكفاءة.
فيما ذكر تقرير في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن تعيين رومان جوفمان رئيساً للموساد قوبل بخيبة أمل، ولكنه لم يكن مفاجئاً، فبعد تعيين ديفيد زيني رئيساً للشاباك، توقع الكثيرون أن يكرر نتنياهو النهج ذاته في الموساد.
وانتهج نتنياهو في الآونة الأخيرة تعيين شخصيات مقربة منه من خارج النظام بخلاف ما كان معمولاً به تقليدياً بالمؤسسات الأمنية، والهدف من ذلك وضع شخصيات تتماهى مع اليمين الأيديولوجي، بحسب الصحيفة.
وتشير الصحيفة، إلى أنه من وجهة نظر نتنياهو، يعد ذلك جزءاً من صراعه ضد النخب وما يسميها "الدولة العميقة"، والتي يزعم نتنياهو أنها تقف ضده.
لماذا فضل نتنياهو تعيين رومان جوفمان رئيساً للموساد؟
بحسب "يديعوت أحرونوت"، فإن نتنياهو فضل جوفمان على غيره من مرشحي الموساد الذين أوصى بهم رئيس الجهاز الحالي ديفيد برنياع، رغم أنه لم ينشأ في عالم الاستخبارات.
وفي بيان له، قال مكتب نتنياهو، إن رئيس الوزراء قرر اختيار سكرتيره العسكري ليحل محل الرئيس الحالي للموساد ديفيد برنيع، والذي ينهي ولاية من 5 سنوات في منصبه في يونيو/ حزيران 2026.
من هو رئيس الموساد الجديد؟
ولد جوفمان عام 1976 في مدينة موزيرف ببيلاروسيا، وهاجر مع عائلته إلى دولة الاحتلال عام 1990.
درس في مدرسة الضباط البحرية "أورت"، وانخرط في رياضة الملاكمة، وحقق الميدالية الفضية على مستوى إسرائيل.
وأكمل دراسته الجامعية في العلوم السياسية بكلية عسقلان، ثم تابع تعميق معرفته في مجال الأمن القومي والسياسة بحصوله على درجة الماجستير من جامعة حيفا.
بدأ مسيرته العسكرية كمقاتل وقائد في سلاح المدرعات، كما شغل مناصب قيادية عديدة في الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك قائد كتيبة 75 في لواء 7، قائد لواء "عتسيون" وقائد لواء 7، ثم قائد فرقة "هباشان" (210)، ورئيس المركز الوطني للتدريب البري، ورئيس مقر عمليات الحكومة بالأراضي الفلسطينية المحتلة.
أصيب رومان جوفمان بجروح خطيرة في الركبة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أثناء اشتباك مباشر مع مسلحين من حماس عند مفترق طريق شاعر النقب قرب سديروت.
وتعافى جوفمان من إصابته بعد فترة، وعمل لعدة أشهر رئيساً لأركان منسق أنشطة الحكومة في المناطق، ثم تم تعيينه سكرتيراً عسكرياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي في 16 مايو/ أيار 2024 مع ترقيته إلى رتبة لواء.
وشارك في تخطيط عمليات ضد حماس وحزب الله، بما في ذلك ضربات استباقية واغتيالات، معتمداً على رؤية متشددة تركز على الحسم العسكري.
فيما أثار ترشيحه لرئاسة الموساد في ديسمبر/ كانون الأول 2025 جدلاً بسبب افتقاره لخلفية استخباراتية مباشرة، مع توقعات باستقالات في الجهاز.
وتقول مصادر داخل المؤسسة الأمنية لـ"يديعوت أحرونوت" إن جوفمان "شخص متسرع، لا يفكر في كل شيء قبل القيام بأي شيء".
كما أشارت إلى القضية غير العادية التي كشفت عنها صحيفة هآرتس العام الماضي، والتي تفيد أن جوفمان، أثناء توليه منصب قائد الفرقة 210 في القيادة الشمالية، بادر دون تصريح إلى عملية ضد فتى يبلغ من العمر 17 عاماً نشر معلومات سرية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وحول الجدل بشأن تعيينه، توضح الصحيفة أن جوفمان ضابط يفكر خارج الصندوق، لكنه غير مؤهل لرئاسة الموساد، فهو لا يجيد سوى اللغتين الروسية والعبرية، ولا يتقن اللغة الإنجليزية، وسيضطر إلى التنقل برفقة مترجم فوري.
كما أنه ليس لديه خبرة في عالم الاستخبارات والعمليات، ولم يكن رقيب عمليات، وليس لديه خبرة تؤهله للمنصب، ولم يُدر منظمةً بهذا الحجم من قبل.
لماذا اختاره نتنياهو؟
تقول صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إن سر قوة جوفمان يكمن في ولائه لنتنياهو الذي يثق به رئيس الوزراء ثقة عمياء.
وبحسب الصحيفة، فإن سارة نتنياهو أجرت مقابلة مع جوفمان قبل اتخاذ قرار تعيينه، وقد قيل سابقاً إن لقاء مماثلاً عقدته زوجة نتنياهو معه قبل تعيينه سكرتيراً عسكرياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
وفي تقرير آخر تشير الصحيفة إلى أن جوفمان أصبح صديقاً مقرباً من نتنياهو، وهو الشخص الذي أثر عليه أكثر من أي شخص آخر في الساحة الأمنية، وقد كان "رئيس أركان بديل" بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي في عهد هرتسيليا هاليفي.
إلى ذلك، فقد كان الشخص الشريك في تطوير التحركات العسكرية الرئيسية في الحرب على غزة، وأصبح فعلياً المحور المركزي لنتنياهو في النظام الأمني.
وكما قال مسؤول استخباراتي كبير سابق، ما سببَ تعيينه سوى أنه "الرجل المطيع لنتنياهو".
*הקרב בו נפצע ראש המוסד המיועד גופמן ב-7.10 – pic.twitter.com/hjdJx2EqJO
— Holding Back the Years (@DvachEster49265) December 6, 2025
فيما هاجم زعيم حزب "يشار" غادي آيزنكوت، تعيين جوفمان، قائلاً: "يعين نتنياهو كبار المسؤولين، فيما يبدو مكافأة على ولائهم وتمسكهم بنهجه، على حساب الخبرة والمهنية والاعتبارات الوطنية".
المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" أمير أورين شدد على أن نتنياهو لا يفكر في الموساد، بل يريد شخصاً يطيع كل أوامره، ويتيح لمبعوثه الشخصي رون ديرمر من خلاله أن يكون له موطئ قدم داخل الجهاز وتوسيع نفوذه، ومنحه دوراً مركزياً في إدارة ملفات حساسة داخل الجهاز.
من جانبه، يقول المحلل السياسي أمنون لورد في مقال له في صحيفة "يسرائيل هيوم"، إن تعيين جوفمان يعكس موجة جديدة يقودها نتنياهو تقوم على اختيار قادة أمنيين يعتمد عليهم سياسياً، ويثق بقدرتهم على تنفيذ رؤيته من دون إرث نخبوي أو استقلالية مؤسساتية مزعجة.
من هي أبرز الشخصيات الأمنية التي اختارها نتنياهو على أساس "الولاء"؟
لم يكن رومان جوفمان الشخص الوحيد الذي اختاره نتنياهو على أساس "الولاء" لا "الخبرة"، فإلى جانب إقصاء ما يسمى "حراس البوابة" عزم رئيس الوزراء الإسرائيلي على إجراء تعيينات في المؤسسة الأمنية والعسكرية بشخصيات مقربة له، منهم:
وزير الجيش يسرائيل كاتس:
في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أقال نتنياهو وزير الجيش يوآف غالانت، واختار يسرائيل كاتس (وزير الخارجية السابق) خلفاً له، مبرراً القرار بـ"أزمة ثقة" نشأت تدريجياً بينهما ما منع إدارة الحرب بشكل فعال في غزة ولبنان.
وكانت الخلافات الرئيسية بين غالانت ونتنياهو تتمثل في:
- عارض غالانت إطالة الحرب في غزة ودعا للتركيز على إعادة الأسرى الإسرائيليين أحياء، بينما فضل نتنياهو خططاً هجومية أكثر تشدداً.
- اختلفا حول تجنيد اليهود الحريديم (المتدينين)، حيث أصدر غالانت أوامر تجنيد لـ 7000 منهم قبل إقالته مباشرة، ما اعتبره نتنياهو تحدياً سياسياً.
- سابقاً، عارض غالانت التعديلات القضائية لنتنياهو في 2023، و"عرقل" توسيع الهجوم على جنوب لبنان حسب ادعاءات نتنياهو.
أما كاتس المقرب من نتنياهو في حزب الليكود والذي جاء من خارج المؤسسة العسكرية، فكان يعتبر أكثر انسجاماً مع رؤيته العسكرية المتشددة، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي بتعيينه رغم أنه لا يتمتع بخبرة عسكرية متقدمة أو مناصب قيادية عليا في الجيش، حيث تحول مساره بعد التسريح من الجيش إلى السياسة والإدارة.
رئيس الشاباك ديفيد زيني
اختار بنيامين نتنياهو الجنرال ديفيد زيني لرئاسة الشاباك في 22 مايو/ أيار 2025 خلفاً لرونين بار، بعد صراع مع الجهاز ومحاولة إقالة بار بسبب عدم ثقة ناتج عن تحقيقات إخفاقات 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وعلى مدى العامين الماضيين كانت العلاقة بين نتنياهو ورئيس الشاباك متوترة، ويرجع ذلك إلى المطالب الأمنية لعائلة نتنياهو، وهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول وإصدار جهاز الشاباك وثائق تحذيرية بشأنه، وموقف بار مع المسؤولين الأمنيين الآخرين بما يتعلق بمفاوضات الأسرى الإسرائيليين، ومهاجمته لقرار البقاء في محور فيلادلفيا.
وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2025، صادقت حكومة نتنياهو على تعيين زيني رئيساً للشاباك، وذلك بعد مداولات استمرت أشهر مع المحكمة العليا، وقد جاء تعيينه رغم رفض المعارضة.
وزيني عضو في حركة "الصهيونية الدينية" اليمينية المتطرفة، يرى الضفة الغربية وغزة أراضيَ إسرائيلية، وعارض صفقات الأسرى مع حماس واصفاً الصراع "حرباً أبدية"، ما يتوافق مع رؤية نتنياهو في ذلك الوقت بشأن إطالة الحرب دون تنازلات.
وقد أبدى عدد من رؤساء جهاز الشاباك السابقين تحفظاتهم على التعيين خلال مداولات لجنة "غرونيس" للتعيينات. وقالت اللجنة إنها تلقت خلال عملها استفسارات من أربعة رؤساء سابقين للشاباك أبدوا تحفظات على التعيين، وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت".
وأبدى الرئيس الأسبق للجهاز يورام كوهين قلقه من استغلال نتنياهو زيني بما يخالف القانون، وكتب في رسالته: "نظراً لحساسية المنصب ونطاق صلاحياته، هناك قلق من أن المرشح سيُستغل عملياً من قبل من عيّنه، وسيستخدم صلاحياته، بما في ذلك الصلاحيات الأمنية والمدنية، بما لا يفي بالمعايير القانونية للمهنية".
ورأى المعارضون أن تنوع المناصب التي شغلها زيني في الجيش الإسرائيلي لا يشكل أساساً كافياً لتعيينه رئيساً للجهاز.
واللافت هو ما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية، أن زوجة نتنياهو، خلال المناقشات المتعلقة بتعيين رئيس أركان جديد خلفاً لهرتسلي هاليفي، ضغطت على نتنياهو لإضافة ديفيد زيني ضمن قائمة المرشحين، رغم أنه لم يكن يُعتبر مرشحاً طبيعياً.
وأوضحت أن هناك صلة عائلية وراء هذه العلاقة، فشقيق اللواء زيني، شموئيل زيني، هو الرجل الأمين للملياردير سيمون فاليك، الذي يعيش في ميامي وله علاقات وثيقة مع عائلة نتنياهو.
رئيس الأركان الحالي إيال زامير
قبل تعيين إيال زامير رئيساً للأركان، تمكن نتنياهو من الإطاحة برئيس هيئة أركان الجيش السابق هرتسي هاليفي، الذي كان ضمن بنك أهداف الائتلاف الحكومي اليميني في إسرائيل.
وفي فبراير/ شباط 2025، اختار نتنياهو زامير ليتولى المنصب رسمياً في 5 مارس/ آذار 2025، معتمداً على خلفيته العسكرية الواسعة كقائد لواء 7 المدرع، قائد الفرقة 36، والمدير العام السابق لوزارة الجيش.
وبحسب الإعلام العبري، فإن دعم نتنياهو لإيال زامير في تعيينه رئيساً لهيئة الأركان، جاء لضمان قائد عسكري "موثوق" ينفذ رؤيته العسكرية، مع التركيز على إصلاحات في الجيش وتعزيز الهجمات على غزة وإيران.
ورغم اعتباره من وزراء الحكومة الإسرائيلية "الخيار الأنسب" للمنصب، إلا أنهم لاحقاً انقلبوا على زامير عندما اعترض على مخططات احتلال مدينة غزة، تلا ذلك مؤخراً خلاف حاد مع وزير الجيش كاتس.
وقالت صحيفة "هآرتس"، إنه يمكن إيجاد بعض العزاء في أن إيال زامير أثبت عدم إخلاصه لمنصبه الرسمي، ولم يلبِّ توقعات نتنياهو الشخصية، حتى أن أوساطاً مقربة من رئيس الوزراء، وفي ظل الخلاف مع كاتس، أشارت إلى أن تعيين زامير "كان خطأ".
وبحسب "يديعوت أحرونوت"، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يشعر بخيبة أمل من أداء زامير في غزة ولبنان.
كيف تخدم تعيينات "الولاء" نتنياهو في المؤسسة الأمنية؟
أصبح نتنياهو يهيمن على المؤسسة الأمنية والعسكرية عبر تعيينات موالية مثل يسرائيل كاتس في وزارة الجيش، ديفيد زيني في الشاباك، إيال زامير في الأركان، ورومان جوفمان في الموساد، ما يحول الأجهزة إلى أدوات سياسية تخدم بقاءه في الحكم بدلاً من الاعتبارات المهنية.
وتقول صحيفة "هآرتس"، إنه منذ سنوات تدور معركة بين المؤسسة الأمنية وبنيامين نتنياهو، وقد قام عدد كبير من رؤساء الأركان المتقاعدين، ورؤساء الشاباك والموساد السابقين، بخلع ستراتهم العسكرية، وعبروا عن انطباعاتهم السلبية عن رئيس الوزراء، ولكن مع 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وحتى قبل ذلك، تحول الصراع بين المؤسسة الأمنية ونتنياهو إلى حرب مفتوحة.
بعد نحو عشرين يوماً من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وجه نتنياهو اتهاماً واضحاً للمؤسسة الأمنية في تغريدة، ثم تراجع عنها، لكنه اليوم يخوض نتنياهو ووزراءه هذه المعارك ضد المؤسسة الأمنية كسياسة معلنة ومتباهية.
وتضيف الصحيفة أنه نتنياهو لم يتحمل أي مسؤولية عن أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم يكن ينوي ذلك، ولقد أدرك أن هناك فرصة سانحة للسيطرة على المؤسسة الأمنية الفاشلة، واستبدال قياداتها العليا برجاله، وبالتالي القضاء على معارضة قوية ظلت تزعجه لسنوات.
وإلى جانب آراء محللين إسرائيليين بأن تعيينات نتنياهو القائمة على الولاء تشكل تهديداً على أمن الدولة، فإن استخدام تلك التعيينات من أجل تمرير قانون الإعفاء من التجنيد للحريديم، ساهم بشكل مباشر في التأثير سلباً على خطط الجيش العملياتية، لاسيما مع نقص القوى البشرية.