شهدت ليبيا خلال الأيام الأخيرة تحركات سياسية توحي بأن البلاد مقبلة على إجراء انتخابات عامة طال انتظارها، وتمثلت التحركات من أجل الانتخابات في ليبيا في الدعوة التي وجهها رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، إلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، و الاتفاق الجديد الذي أُعلن توقيعه بين ممثلي لجنتي المناصب السيادية في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا.
فبينما وجه عقيلة صالح دعوة إلى مفوضية الانتخابات للإسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية، معللاً ذلك بأنه "استجابة لمطالب المظاهرات"، وقع ممثلو لجنتي المناصب السيادية في مجلسي النواب والأعلى للدولة في طرابلس اتفاقاً جديداً ينظم آلية اختيار شاغلي عدد من أهم المناصب السيادية في الدولة، وفي مقدمتها رئاسة وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات.
هذه التحركات أعادت إلى الواجهة سؤالاً أعمق من مجرد هل تجرى الانتخابات أم لا؟ ليصبح هل تمهد هذه التحركات الطريق فعلاً نحو صناديق الاقتراع، أم تعيد رسم خارطة جديدة لتقاسم النفوذ تحت لافتة "خارطة الطريق" الأممية؟ وهو ما دفعنا للبحث في تفاصيل هذه التحركات والتواصل مع مجموعة من المختصين للإجابة عن مستقبل ليبيا على ضوء هذه التحركات.
ما الجديد في ملف الانتخابات الليبية؟
في خطابه الأخير، قدم عقيلة صالح نفسه بوصفه متناغماً مع "صوت الشارع"، عندما أشار إلى أن المظاهرات الأخيرة تعبر عن مطالب قرابة ثلاثة ملايين ناخب مسجلين في منظومة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وهو رقم يقترب من آخر الأرقام الرسمية المعلنة عام 2021، حين اعتبرت تلك الأعداد مؤشراً على رغبة الليبيين في تغيير المشهد السياسي عبر الاقتراع.
وذكر صالح أن مجلس النواب أصدر قانون انتخاب الرئيس "من الشعب مباشرة" وأحاله إلى المفوضية، في إشارة منه إلى أن البرلمان أدى ما عليه، وأن العرقلة تقع في أماكن أخرى داخل المشهد السياسي.
غير أن هذا القانون ظل منذ صدوره محور جدل واسع، بسبب ما يتضمنه من مواد خلافية، خاصة ما يتعلق بترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، وطريقة تمريره داخل البرلمان؛ وهي نقاط يقول قانونيون وسياسيون إنها منحت أفضلية لفئات وشخصيات معينة، وأسهمت في إفشال الاستحقاق الذي كان مقرراً في ديسمبر/كانون الأول 2021.
وبين خطاب يتبنى لغة "الاستجابة لمطالب المظاهرات"، وتحفظات واسعة على الإطار القانوني الناظم للانتخابات، يبدو المشهد منقسماً بين:
- أنصار البرلمان يرون في تحركاته محاولة لتفعيل الخيار الانتخابي،
- خصوم يرون أن جزءاً كبيراً من الشارع الذي يستدعى اسمه في الخطاب السياسي كان ولا يزال يحمل الطبقة الحاكمة بأكملها، بما فيها مجلس النواب، مسؤولية الفشل والانسداد السياسي.
ويرى أستاذ القانون الدستوري بجامعة طرابلس، صالح محمد المخزوم، أن مسار "التفويض" الذي يطرحه حفتر، أو الدفع نحو انتخابات رئاسية يراد منها إيصال شخصية واحدة إلى الحكم، أثبت سابقاً أنه غير قابل للحياة، لأن الأزمة الليبية بحسبه "أعمق من تفويض فرد للحكم أو انتخابه دون دستور متوافق عليه".
ويشير المخزوم في حديثه لـ"عربي بوست" إلى أن الحاضنة التي وجدها خليفة حفتر في شرق البلاد كانت "حاضنة ظرفية" نشأت من ضيق الناس بالمركزية وفشل الدولة في تحقيق عدالة في توزيع السلطة والثروة، وحذر من أن الوصول إلى حكم مركزي جديد "سيعيد إنتاج المشكلة نفسها التي اشتكى منها أهل الشرق"، ويغذي دورة جديدة من التهميش وعدم العدالة في توزيع الثروة والخدمات.
في قراءته لتحركات البرلمان والمجلس الأعلى للدولة بشأن الانتخابات في ليبيا، يصف المخزوم الاتفاقات الأخيرة حول المفوضية والمناصب السيادية بأنها "تكرار للماضي وإضاعة للوقت"، معتبراً أن الاختلاف في الخطاب بين عقيلة صالح ونوابه، والانقسامات داخل مجلس الدولة، يدل على أن "هذه الأجسام ليست قادرة وحدها على إنتاج حل حقيقي".
وحسب أستاذ القانون الدستوري بجامعة طرابلس فإن ليبيا "بحاجة إلى حوار سياسي جاد ترعاه بعثة الأمم المتحدة، ويعالج جوهر الصراع بين المركزية واللامركزية بدل إعادة تدوير الأزمة في صور جديدة".
"مفوضية الانتخابات" في قلب المعادلة
تصريحات رئيس مجلس النواب بشأن الانتخابات في ليبيا جاءت تزامناً مع توقيع ممثلي لجنتي المناصب السيادية بالمجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، الخميس 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، اتفاقاً في طرابلس ينظم آلية اختيار رئيس وأعضاء المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، إلى جانب رئاسة وأعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهيئة الرقابة الإدارية.
قدم هذا الاتفاق من جانب المجلسين بوصفه استكمالاً للتفاهمات السابقة بينهما، وتعزيزاً لمسار "التوافق الوطني" حول المناصب السيادية بعد سلسلة من الاجتماعات والمشاورات. لكن دلالته تتجاوز مجرد تنظيم تقني لآلية الاختيار، فالحديث هذه المرة يطال مفصلاً حيوياً في العملية السياسية برمتها: من يمسك بمفاتيح إدارة الانتخابات المقبلة؟
أهمية المفوضية لا تنحصر في كونها جهازاً إدارياً، فهي الجهة التي تشرف على تسجيل الناخبين، وإدارة مكاتب الاقتراع، واعتماد النتائج، والتعامل مع الطعون والشكاوى. وأي تغيير في تركيبتها أو طريقة اختيار قيادتها ينعكس مباشرة على ثقة الشارع والقوى السياسية في نزاهة الانتخابات في ليبيا.
من جهة أخرى، حين تتحدث البعثة الأممية عن "استكمال متطلبات خارطة الطريق"، فإن تركيزها الأساسي ينصب على إصلاح أو "ترميم" مجلس إدارة المفوضية كخطوة نحو استعادة الثقة في العملية الانتخابية، وليس بالضرورة فتح ملف جميع المناصب السيادية دفعة واحدة.
وهو ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان الاتفاق بين المجلسين يتقاطع مع الرؤية الأممية، أم يعيد ترتيب النفوذ داخل المؤسسات الحساسة قبل أي استحقاق انتخابي.
في هذا السياق، يحذر عاملون في الشأن الانتخابي من أن إدخال المفوضية في دوامة التغييرات والمحاصصة السياسية "مقامرة بمستقبل الانتخابات"، لأن الاستقرار المؤسسي يعد شرطاً أساسياً لنجاح أي اقتراع، وأي اهتزاز في قيادة المفوضية في لحظة حساسة قد يضعف الثقة في المسار برمته.
كيف جاء رد مفوضية الانتخابات في ليبيا؟
في محاولة لرسم مسافة عن التجاذبات السياسية حولها، أصدر مجلس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بياناً في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، جدد فيه التأكيد على أن المفوضية "مؤسسة سيادية مستقلة ومحايدة" كفل لها الإعلان الدستوري الإشراف على العملية الانتخابية بكل مكوناتها، وأن تجربتها في انتخابات المجالس البلدية عززت قدراتها الفنية ورسخت ممارسات إيجابية في إدارة الاقتراع.
وأشار البيان إلى أن المفوضية قادرة على مباشرة تنفيذ الانتخابات الرئاسية والنيابية في إطار زمني محدد، وحدد لذلك سقفاً أقصاه منتصف أبريل/نيسان 2026، شريطة توفير متطلبات التهيئة والتأمين، والتوافق على الآلية الداعمة للعملية الانتخابية في ظل حكومة موحدة.
ودعا مجلس المفوضية بعثة الأمم المتحدة إلى التركيز على جوهر الخلاف المتعلق بتعديل القوانين الانتخابية الصادرة عن لجنة (6+6)، والعمل على تسوية الخلافات حولها وإحالتها إلى المفوضية دون "تأخير أو ماطلة"، حتى تتمكن من إصدار اللوائح التنظيمية والإجراءات التنفيذية اللازمة.
كما حذر من الانجرار إلى مسارات تبقي حالة الجمود في هيكل الدولة، مؤكداً أن قرار تغيير الوضع الراهن يجب أن يكون "ليبياً خالصاً" بعيداً عن الإملاءات الخارجية، وأن الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع تبقيان، من وجهة نظره، الطريق الأقرب لإنهاء الانقسام واستعادة الشرعية.
صعوبات تواجه الليبيين قبل أي انتخابات
المسؤول السابق في المفوضية العليا للانتخابات والخبير في شؤون الانتخابات سعيد القصبي يلفت إلى أن التحديات أمام أي استحقاق قادم "لا تتوقف عند تعديل القوانين أو تغيير مجلس المفوضية"، بل تبدأ من بنية المشهد نفسه، وفق ما صرح به لـ"عربي بوست".
وأوضح القصبي أن الصعوبات الأساسية التي تواجه الانتخابات في ليبيا تتوزع على ثلاثة مستويات متداخلة:
- سياسياً: الانقسام ووجود حكومتين متنافستين في الشرق والغرب وصراع مستمر على الشرعية.
- أمنياً: انتشار الجماعات المسلحة وسيطرتها على بعض المناطق، ما يجعل تأمين المراكز والناخبين تحدياً حقيقياً.
- اقتصادياً ومؤسسياً: تدهور الوضع الاقتصادي، وعدم الاتفاق على ميزانية موحدة، وغياب إطار دستوري واضح ومتفق عليه، وانتشار ما يسميه "المال السياسي الفاسد" في الحملات الانتخابية.
وحذر المسؤول السابق في المفوضية العليا للانتخابات من أن "هذه العوامل مجتمعة قد تقود في النهاية إلى عدم قبول نتائج أي انتخابات، وهو أمر شديد الخطورة لأنه يفتح الباب أمام مزيد من الانقسام وربما مواجهات مسلحة" على حد قوله.
وعلى المستوى الفني، يوضح القصبي أن البيئة الانتخابية تحتاج إلى تحديث شامل لسجل الناخبين، وزيادة عدد المراكز وتجهيزها وتأمينها، خصوصاً في المناطق النائية، وتدريب موظفي الانتخابات وضمان نزاهتهم، وتوفير تمويل كافٍ وخاضع للشفافية والرقابة، والاستثمار في التكنولوجيا بما يعزز النزاهة، والتوسع في حملات التوعية والتثقيف بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني.
ويرى القصبي أن الاتفاق على قاعدة دستورية وحسم الخلاف السياسي يمكن أن يفتح الباب لوضع خطة زمنية "تجعل من الواقعي الحديث عن جاهزية لإجراء انتخابات خلال فترة تتراوح بين 8 و12 شهراً، بشرط توفير الدعم الدولي والتمويل الكافي، واعتماد خطة واضحة لإصلاح وتعزيز استقلالية المؤسسات الانتخابية".
المسؤول السابق في المفوضية العليا للانتخابات والخبير في شؤون الانتخابات في ليبيا خلص في حديثه لـ"عربي بوست" إلى أن ليبيا في هذه المرحلة "أحوج إلى انتخابات برلمانية أولاً، تعيد تشكيل السلطة التشريعية وتفرز حكومة موحدة، قبل الذهاب إلى انتخابات رئاسية".
من يتحكم بمسار خارطة الطريق الليبية؟
على مستوى خطاب البعثة الأممية في ليبيا، يتركز الحديث على ضرورة توحيد المؤسسات الليبية، والاتفاق على قاعدة دستورية وقوانين انتخابية شاملة، وتهيئة بيئة سياسية وأمنية تسمح بانتخابات ذات مصداقية، بما ينهي حالة الانتقال المفتوح منذ سنوات.
لكن في المقابل، تبدو تحركات مجلسي النواب والدولة منصبة على ترتيب المناصب السيادية وتوزيعها، بما في ذلك المفوضية والهيئات الرقابية، ضمن صفقات جزئية تقدم بوصفها "توافقاً وطنياً".
بينما ينظر إليها خصوم هذا المسار على أنها إعادة تدوير للنخبة نفسها بأدوات جديدة، ومحاولة لضمان أن تظل مفاتيح العملية السياسية في أيدي الأجسام القائمة، حتى إن تغيرت الأسماء.
يرى أستاذ القانون العام، راقي المسماري، أن دعوة المستشار عقيلة صالح للإسراع بالانتخابات الرئاسية تأتي "تلبية لرغبة الشارع بعد خروجه للمطالبة بالذهاب إلى انتخابات رئاسية"، لكن المسماري يلفت إلى أن سلوك مجلسي النواب والدولة لا يعكس بالضرورة إرادة جادة في ترجمة هذه الدعوات إلى خطوات عملية.
ويقول المسماري لـ"عربي بوست" إن اتفاقات المجلسين "تبدو شكلية أكثر منها موضوعية"، موضحاً أن ما يحدث في كل مرة هو "المواربة والمخادعة، والاتفاق على الورق دون تنفيذ حقيقي؛ كل ما يفعلونه هو ركل الكرة إلى الأمام وتأجيل الاستحقاقات بدل حسمها".
وفي قراءته لخارطة الطريق، يذهب المسماري إلى أن الملف الليبي جرى تقسيمه ضمنياً بين أطراف دولية، حيث تولت الولايات المتحدة معالجة الشقين الاقتصادي والأمني، فيما أسند للبعثة الأممية الشق السياسي.
ويشير المتحدث إلى أن واشنطن حققت تقدماً ملموساً في الجانب الاقتصادي، "بالوصول إلى تفاهمات حول تقاسم الصرف من الباب الثالث (باب التنمية)"، كما يبدو أن هناك تقدماً في الملف الأمني "من خلال تقاربات بين القوات المسلحة التابعة للقيادة العامة في الشرق وتشكيلات مسلحة من غرب البلاد، عقب إعلان واشنطن عن مناورات ليبية مشتركة برعايتها".
وبناء على ذلك، يرى المسماري أن الرؤية الأمريكية تقوم على أن "الانتعاش الاقتصادي النسبي والاستقرار الأمني يساعدان على الوصول إلى اتفاق سياسي يضمن في النهاية الذهاب إلى الانتخابات"، وبالتالي تبدو البعثة الأممية غير مستعجلة في الملف السياسي، وهو ما يفسره بما وصفه "بطء تحركاتها وتصريحاتها السابقة التي اعتبرت أن نتائج الحوار المهيكل المزمع عقده ليست ملزمة بالضرورة".
من جهته، يرى عضو اللجنة الاستشارية التي شكلتها بعثة الأمم المتحدة، المستشار كمال حذيفة، أن أي اتفاق حقيقي وفعال بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لإنهاء الانقسام السياسي والإداري سيكون مرحباً به، بشرط الالتزام به وتنفيذه على النحو الصحيح.
لكنه يذكر بأن ما جرى خلال السنوات العشر الماضية منذ توقيع اتفاق الصخيرات "لا يدعو إلى التفاؤل"، إذ لم يتمكن الطرفان، على حد تعبيره، من الوصول إلى تسوية في الملفات التي أوكلت إليهما، سواء ما تعلق بالترتيبات الأمنية أو الاقتصادية أو المناصب السيادية أو غيرها.
أما بخصوص اتفاق المجلسين على المناصب السيادية، فيراه حذيفة "اتفاقاً هشاً طال أمده ولم ينجح منذ مفاوضات بوزنيقة وما بعدها"، لأن التسوية السياسية الشاملة والمصالحة الدستورية الناجعة لإخراج البلاد من المراحل الانتقالية المتعددة "لم تبرم أصلاً بين المجلسين".
ويضيف عضو اللجنة الاستشارية التي شكلتها بعثة الأمم المتحدة أن استكمال مجلس إدارة المفوضية أو إعادة تشكيله "طرح أصلاً كشرط من اللجنة الاستشارية، وكان ينبغي الانتهاء منه في غضون ستة أشهر من تاريخ تسليم تقريرها إلى البعثة في 5/5/2025″، إلا أن هذا الشرط لم يتحقق في موعده.
وحسب حذيفة فإن ما هو واضح حتى الآن هو "عجز المجلسين عن إيجاد حلول للأزمة واستمرار الانقسام السياسي والإداري، وتعثر إجراء الانتخابات، والتعنت في رفض الاستفتاء على مسودة الدستور"، معتبراً أن أي حديث جديد عن تفاهمات بينهما يجب أن يقيم من زاوية التنفيذ الفعلي لا من زاوية النصوص والبيانات وحدها.
ويخلص المتحدث إلى أن ضمان نجاح العملية الانتخابية القادمة يتطلب "تسوية سياسية شاملة" تتضمن، في حدها الأدنى، تصحيح وضع المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وتوفير التمويل اللازم لها والإجراءات الأمنية الكفيلة بتأمين سلامة العملية الانتخابية، وتعديل الإعلان الدستوري والقوانين الانتخابية وفقاً لمخرجات اللجنة الاستشارية، وتشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحدة تتولى الإشراف على المرحلة المقبلة.
ويرى عضو اللجنة الاستشارية التي شكلتها بعثة الأمم المتحدة، المستشار كمال حذيفة، أن الرسالة الأهم للأطراف المحلية اليوم هي "ضرورة التزامها بخارطة الطريق الأممية وعدم عرقلتها، وتجنب إصدار قرارات أحادية تزيد من حدة الانقسام السياسي والتشظي الإداري، والعمل معاً من أجل الاتفاق على إنهاء هذه المرحلة الانتقالية البائسة".
تقاسم نفوذ أم بحث عن حل حقيقي؟
الكاتب والمحلل السياسي عبد الله الكبير يذهب أبعد في تفسير تحركات الأطراف المحلية، فهو يرى أن دعوة عقيلة صالح للانتخابات الرئاسية لا يمكن فصلها عن الضغوط التي يمارسها خليفة حفتر، لكنها، في الوقت نفسه، لا تعني أن صالح جزء من مشروع "تفويض حفتر"، بدليل غيابه عن اللقاءات التي جمعت حفتر بمن يقدمون على أنهم شيوخ وأعيان وحكماء من مختلف المناطق.
يقول الكبير لـ"عربي بوست" إن عقيلة صالح "يدرك أن مشروع التفويض برمته مصيره الفشل، لأنه يصطدم بالاتفاق السياسي وبمبادرة البعثة الأممية، ولن يحظى بقبول القوى الدولية"، ويعتبر أن ما تقوم به السلطات الحالية "محاولات يائسة لتدارك ما فاتها بعد انطلاق قطار مبادرة البعثة"، من دون أن تتمكن حتى الآن من إنتاج بديل واقعي ينافس المسار الأممي.
ويرى الكبير أن أي توافق بين مجلسي النواب والدولة في الظروف الراهنة يفسر في الغالب على أنه "تقاسم نفوذ ومحاولة لمنع تسرب العملية السياسية من أيدي المجلسين"، مشدداً على أن الأهم في ملف رئاسة المفوضية "ليس ما إذا كان المنصب جزءاً من صفقة شاملة للمناصب السيادية، بل نزاهة الشخصية المرشحة وكفاءتها والفريق الذي يعمل معها، إلى جانب وجود مراقبة دولية موثوقة تعزز ثقة الناس في الانتخابات".
ويختم الكاتب والمحلل السياسي عبد الله الكبير بالقول إن الأطراف المحلية تبدو اليوم "في سباق مع رياح التغيير التي تحاول البعثة قيادتها، والكل يسعى لحجز مقعده في المرحلة المقبلة، إن تعذر عليه تعطيل المبادرة الأممية أو تقويضها".
أي طريق يقود فعلاً إلى صناديق الاقتراع؟
أمام هذه الصورة المعقدة، يمكن قراءة ما يحدث بطريقتين متعاكستين تقريباً:
- قراءة ترى في دعوة الانتخابات واتفاق المناصب السيادية خطوات ضرورية لترتيب البيت الداخلي وتوحيد المؤسسات قبل الذهاب إلى استحقاق انتخابي شامل.
- قراءة أخرى تعتبر أن ما يجري ليس سوى إعادة رسم لخارطة النفوذ داخل الدولة، مع توظيف شعار الانتخابات وخارطة الطريق الأممية لتأمين موقع أفضل للنخب الحاكمة في أي تسوية مقبلة.
بين هاتين القراءتين يبقى العامل الحاسم هو كيفية تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، هل ستختار قيادة المفوضية والهيئات الرقابية وفق معايير شفافة للكفاءة والاستقلالية، أم وفق توازنات سياسية وجهوية ضيقة؟ وهل سيتحول الضغط الأممي والدولي إلى التزام زمني واضح وملزم بانتخابات فعلية، أم سيظل عنوان "خارطة الطريق" غطاء لتفاهمات جديدة فوق واقع لم يتغير بعد؟
وإلى أن تتضح الإجابة، سيبقى سؤال الليبيين معلقاً، هل تقربهم هذه الدعوات والاتفاقات من صناديق الاقتراع فعلاً، أم تعيد إنتاج قواعد اللعبة نفسها بأسماء مختلفة؟