قبل عقدين من الزمن، ظهر توني بلير إلى جوار جورج بوش الابن، يضع توقيعه على واحدة من أكثر الجرائم السياسية دموية في مطلع القرن الجديد: غزو العراق. لم يحتاج الرجلان إلى تفويض من الأمم المتحدة أو تقارير أممية تضع لمزاعمهم تمزيق البلاد شكلاً حتى رسمياً، إذ منح بوش للحرب غطاءً دينياً صريحاً، وزيّنها بلير بخطاب ليبرالي مموّه لا يخلو من نَفَس استعماري قديم.
إذ كان يردّد أن "الغزو ضروري لتحرير الشعب العراقي وحمايته من الطاغية"، بينما الحقيقة أن جيوشاً بأكملها كانت تُساق لتمزيق بلد وإغراقه في الدماء لأهداف استعمارية. إذ كانت رؤيته مع صديقه بوش الابن، مشبعة بالإنجيلية السياسية، امتداداً لنبرة استعمارية مألوفة، والتي لا تختلف كثيراً عن أساطير بنيامين نتنياهو اليوم وهو يروّج لحرب الإبادة على غزة، ويشن حروباً أخرى ضد إيران ولبنان وسوريا واليمن، تحت الشعار ذاته: "الدفاع عن قيم الغرب وحضارته".
ولم يُبدِ توني بلير حتى اليوم أي ندم على قراره الذي دمّر بلداً بأكمله. على العكس، واصل بعد خروجه من السلطة الدفاع عن خياره، قائلاً: "عندما أكون الآن في الشرق الأوسط، لا أظن أن المنطقة ستكون أكثر استقراراً لو كان صدام وولداه ما زالوا يجوبونها". فمنذ دخوله داوننغ ستريت وحتى اليوم، بقي بلير مخلصاً للرؤية الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط: يغلّف انتهازيته ببلاغة المحاضر، ويُسوّق حروب الإمبراطورية على أنها مشاريع سلام، سواء عبر مؤسسته أو منابر الجامعات الأميركية التي وفّرت له مسرحاً لتلميع إرثه الملطخ بالدماء.
واليوم، تعود صورة توني بلير إلى الواجهة مع الأخبار التي تتحدث عن ترشيحه ليكون الحاكم المؤقت لغزة وفقاً لخطة ترامب. مشهد كهذا لا يفاجئ من يعرف مسيرته؛ فهو لم يكن يوماً وسيطاً للسلام ولا براغماتياً متزناً كما يحاول البعض تفسيره، بل أشبه بمقاول حروب يتقن إيجاد موطئ قدم في أكثر الملفات اشتعالاً. ففي بريطانيا، ما زالت التفسيرات تتنازع عن دوافعه لغزو العراق: فهناك من يراها تضخماً في الذات ومحاولة يائسة لإحياء مجد إمبراطورية أفل زمنها، وهناك من وصفها بـ"عقدة المسيح" التي تلازمه؛ رجل يرى نفسه، مثل بوش، مبعوثاً برسالة سماوية تمنحه الحق في التدخل في مصائر الشعوب. وربما هذا الوهم نفسه هو ما يدفعه اليوم، بعد الخراب الذي خلّفه في العراق، إلى أن يجلس مجدداً إلى جانب ترامب، محاولاً أن يفرض نفسه لاعباً مركزياً في ما لا يعنيه، وكأن التاريخ لم يلفظه بعد.
البدايات والصعود
وُلد أنطوني تشارلز لينتون بلير في إدنبرة عام 1953 لأسرة ميسورة؛ والده كان محامياً بالقضاء العالي وأكاديمياً. تلقى بلير تعليمه في كلية سانت جونز بجامعة أكسفورد حيث درس القانون، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية محامياً بالقضاء العالي. لكن السياسة سرعان ما استهوته، فانضم إلى حزب العمال وانتُخب نائباً في البرلمان عن دائرة سيجفيلد شمال شرقي إنجلترا عام 1983.
سريعاً، برز نجم بلير داخل الحزب بفضل حضوره الخطابي ومرونته السياسية كما يصفها البعض. وفي 1994، إثر وفاة الزعيم جون سميث المفاجئة، انتُخب رئيساً لحزب العمال في يوليو/تموز 1994 بنسبة 57% من الأصوات، وجاء انتخابه مفاجئاً، حيث كان المراقبون يتوقعون انتخاب غوردون براون.
وفي عام 1997 أصبح بلير رئيساً للوزراء، حيث حصل على 179 مقعداً في مجلس العموم، وهي أكبر أغلبية برلمانية يحصل عليها حزب العمال في تاريخه، وأكبر أغلبية برلمانية يحصل عليها حزب في بريطانيا منذ 1935.
ومع انتصاره الساحق في الانتخابات على المحافظ جون ميجر، بعد 18 عاماً من حكم المحافظين، دشّن بلير مرحلة جديدة في السياسة البريطانية. من هناك بدأ في إعادة صياغة هوية الحزب برمّتها. إذ بادر إلى فك ارتباط الحزب بنقابات العمال وتخفيف لهجته الاشتراكية، وأعاد تقديمه كحزب "عمال جديد" ذو توجه وسطي أعمالي متصالح مع السوق. ووضع بلير العدالة الاجتماعية التقليدية جانباً، وروّج لنهج عملي يحافظ على الانضباط المالي ويقبل خصخصة الخدمات العامة – نهج وصفه بعض النقاد بأنه نسخة لطيفة من المحافظة الجديدة مغلّفة بخطاب تقدّمي.
ففي كتاب مذكراته "رحلة" برّر صراحة سياساته النيوليبرالية بقوله: "إذا لم تضبط الحكومات عجز الموازنة، فسيدفع دافعو الضرائب الفاتورة.. ودور الحكومة هو تحقيق الاستقرار ثم الابتعاد عن الطريق".
وعلى الصعيد الإعلامي، لم يتورع بلير عن التحالف مع قوى اليمين التقليدي لكسب التأييد؛ فسعى مبكراً لكسب دعم إمبراطورية مردوخ الصحفية وغيرها من الصحف الصفراء. فبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، "كان أحد أبرز ما يميز توني بلير هو استعداده – سواء اعتُبر ذلك دهاءً سياسياً أو سقوطاً أخلاقياً، تبعاً للذائقة السياسية – لعقد تفاهمات مع جماعات المصالح اليمينية النافذة، وعلى رأسها صحافة مردوخ."
في مايو/أيار 2001، قاد توني بلير حزب العمال إلى انتصار انتخابي جديد أعاده إلى رئاسة الوزراء لولاية ثانية، لكنها كانت الولاية التي ستطارده أكثر من أي فترة أخرى في مسيرته. فمعها بدأ ثقل السياسة الخارجية يهيمن على أجندته: من كوسوفو وسيراليون إلى انسياقه العميق مع صديقه جورج بوش الابن في ما سماه الأخير بـ"الحرب على الإرهاب". إذ سارع بلير إلى مشاركة الولايات المتحدة في حربها على أفغانستان عام 2001، ثم مضى معها في غزو العراق وتدميره في عام 2003.
هل كان إيمان بلير الديني دافعاً وراء غزو العراق؟
وبرغم أن الحرب كلها كانت قائمة على تقارير استخباراتية مفبركة وتقديرات واهية، بلا غطاء قانوني أو شرعية دولية، أصرّ بلير على تبريرها باعتبارها "حرباً ضرورية" للتخلص من الشر الذي كان يراه هو وصديقه بوش، محاولاً أن يغلفها بخطاب أخلاقي وديني لا يختلف كثيراً عن ذرائع الاستعمار القديم. ومع انسياقه خلف واشنطن، تصاعدت موجة الانتقادات من البرلمان والصحافة والشارع البريطاني، حتى التصق به لقب ساخر ومهين ظل يطارده حتى اليوم: "كلب بوش المدلل".
لكن المفارقة أن بلير، بخلاف جورج بوش الذي قال صراحة إن الله أمره بشن الحرب على العراق، حرص على إبقاء إيمانه بعيداً عن خطابه السياسي. وقد بدا ممتعضاً ذات مرة عندما سأله الصحفي جيريمي باكسمان عمّا إذا كان هو وبوش يصلّيان معاً. غير أن هذا الفصل بين السياسة والإيمان ظلّ في حدود الخطاب لا الممارسة، إذ أكّد أكثر من كاتب سيرة أن إعادة اكتشافه للدين أثناء دراسته في جامعة أوكسفورد هو ما قاده في النهاية إلى السياسة. بلير نفسه كان يتقبل فكرة أن الله والتاريخ هما من سيحكمان على قراره بخوض حرب العراق، ويقول إن ذلك القرار – مثل كثير من سياساته – كان يستند إلى إيمانه المسيحي.
وللمفارقة، بعد فترة وجيزة من تنحيه عن منصبه، اعتنق الكاثوليكية الرومانية، ديانة زوجته وأطفاله الأربعة، وأسس "مؤسسة بلير الدينية". وكان واضحاً أن هذا التحول لم يكن ممكناً أثناء وجوده في الحكم؛ إذ كان يخشى أن ينشغل الناس بإيمانه الديني بدلاً من إنجازاته السياسية. ويذكر القس جون كادن، كاهن عائلته في سيدجفيلد، أن بلير: "كان معارضاً بشدة للإجهاض، لكن ضميره لم يسمح له بأن يفرض رأيه على الآخرين". غير أن هذا الضمير ذاته لم يجد حرجاً في شنّ حرب وإراقة دماء أكثر من نصف مليون إنسان، إذ رآها من منظوره الإيماني "حرباً عادلة".
الفرق أن معظم الليبراليين الذين دعموا غزو العراق أعربوا لاحقاً عن ندم عميق على قرارهم، بينما لم يفعل بلير ذلك أبداً. وكما أشار جوناثان فريدلاند في الغارديان، فإن بلير لم يُظهر أي أثر للمعاناة التي عاشها قادة سابقون تورطوا في حروب دموية وفوضوية؛ فما زالت ابتسامته المميزة ترتسم بسهولة على وجهه، وعيناه الزرقاوان تتلألآن. وكلما سُئل عن تلك الحرب، لم يُبدِ سوى القليل من مظاهر الندم، محصوراً نقده في "إجراءات التنفيذ" لا في أصل القرار. وحين سألته الصحفية الأميركية جينيفر سينيور عن حرب العراق، أجاب قائلاً: "عندما أكون الآن في الشرق الأوسط، لا أظن أن المنطقة ستكون أكثر استقرارًا لو كان صدام وولداه ما زالوا يجوبونها".
وعندما صدرت نتائج تحقيق "شيلكوت" في عام 2016، بعد أن استمر سبع سنوات في دور بريطانيا بالحرب على العراق، مؤكدة أن مبررات الغزو بُنيت على أسس واهية، لم يقبل بلير ذلك. وفي اليوم نفسه لخروج التقرير، عقد مؤتمراً صحفياً امتد لساعتين، أعاد فيه التأكيد على قناعته بالقرار، قائلاً: "أعتقد أننا اتخذنا القرار الصحيح، وأن العالم أصبح أفضل وأكثر أماناً."
في بريطانيا، حاول بعض المراقبين تفسير دوافعه للحرب. ثمة نظرية تقول إنه كان متضخم الذات، يطمح لنفسه ولبريطانيا بدور أكبر وأعمق في الساحة العالمية. أما خصومه فذهبوا أبعد من ذلك، فنسبوا قراره إلى ما وصفوه بـ"عقدة المسيح" لدى بلير، وربما لأنه، مثل بوش، كان رجلاً مؤمناً يرى في نفسه حامل رسالة تتجاوز حدود السياسة.
وفي مقابلة مع سكاي نيوز عام 2006، أقر بلير بذلك إلى حد كبير. قال إن الحكم النهائي على قراره بإرسال قوات إلى العراق لم يكن بيد الناس فقط: "إذا كنت تؤمن بالله، فهو بيد الله أيضاً". وعندما سُئل في مقابلة أخرى إن كان ما زال يتحدث إلى جورج بوش، فأجاب: "بالطبع. أنا لست صديقاً موسمياً. أنا أحترمه فعلاً".
وبينما دُمّر العراق نتيجة الحرب، كان تأثيرها سلبياً على شعبيته، ووجهت له انتقادات كثيرة، ورغم ذلك فاز في مايو/أيار 2005 برئاسة وزراء بريطانيا لولاية ثالثة، وإن كان ذلك بعدد من المقاعد أقل من السابق. استمرت الانتقادات ضد توني بلير وسياساته، وانضم بعض النواب من حزب العمال إلى المعارضة في تصويتها ضد بعض المشاريع، مثل مشروع قانون مكافحة الإرهاب.
وفي سبتمبر/أيلول 2006 أعلن بلير أنه سيقدّم استقالته خلال عام، وفي مايو/أيار 2007، وبعد هزيمة حزب العمال في الانتخابات البرلمانية باسكتلندا، أعلن أنه سيستقيل في يونيو/حزيران 2007.
توني بلير.. مسيرة على أنقاض الشرق الأوسط
مع حلول صيف 2007، إثر سنوات دامية شاركت خلالها بريطانيا عسكرياً إلى جانب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وأيّد خلالها توني بلير الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ودعم عزل حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية، كانت شعبية الرجل قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها — لم تتجاوز العشرينات في استطلاعات الرأي. واجه الاحتجاجات أينما سافر، بلافتات تتهمه بالكذب وبالعمالة لبوش. اضطر إلى التنحي بعد عشر سنوات في السلطة، تاركاً خلفه جيشاً مرهقاً في العراق وأفغانستان، وبلداً مثقلاً بوصمة المشاركة في الحرب. وسلّم الراية لغوردون براون، بينما تحوّل هو إلى رجل دولة جوّال.

ولم يبتعد بلير عن الأضواء بعد خروجه من داونينغ ستريت. في 2008، وبينما كان براون غارقاً في الأزمة المالية العالمية، ظهر بلير أستاذاً زائراً في جامعة ييل يدرّس مساقاً بعنوان "الإيمان والعولمة".
لكن، بالتوازي مع ذلك، بدأ في نسج شبكة من الشركات والمؤسسات تحت مظلة جمعية توني بلير. فأسس "مؤسسة توني بلير للإيمان" بهدف الترويج للاحترام والفهم بين ديانات العالم الكبرى كما يزعم، وانخرط في مشاريع حول "الحوكمة في أفريقيا" و"كسر الجمود المناخي". وتولى منصب مبعوث اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، نيابة عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا، في محاولة لإيجاد تسوية سلمية بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، حتى 2015، وهي مهمة فشل فيها فشلاً ذريعاً، إذ لم يترك وراءه سوى خيبات أمل جديدة.
ورغم أن بلير لم يكن يتقاضى أجراً رسمياً عن بعض هذه المناصب وفقاً لصحيفة الغارديان، إلا أن صحيفة الإندبندنت البريطانية أشارت أن مهماته الدولية، خصوصاً في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، قرّبته من قادة العالم، ووضعته على طاولات تتيح له فرص أعمال شخصية. وما لبثت وسائل الإعلام أن كشفت لاحقاً عن تلقيه مبالغ مالية ضخمة عبر شبكة من شركات الاستشارات وإلقاء المحاضرات، ساعدته على بناء ثروة شخصية قُدّرت بحوالي 60 مليون جنيه إسترليني حينها، بحسب صحيفة التلغراف (2015). وتشمل هذه الثروة، بحسب الغارديان، "قدراً استفزازياً" من العقارات في بريطانيا، في بلد يعاني أزمة مزمنة في ملكية المنازل.
ويبدو أن أعمال بلير لم تكن نمطاً جديداً له، ففي عام 2008، في ذروة الهجوم على المصرفيين باعتبارهم "أشرار الاقتصاد العالمي"، قبل بلير منصباً استشارياً لدى بنك الاستثمار الأميركي جيه بي مورغان، وبحسب فاينانشال تايمز (2012) كان يتقاضى حوالي 2.5 مليون جنيه إسترليني سنوياً. وفي 2011، أسّس بسرعة شركته الاستشارية "توني بلير أسوشيتس"، التي بدأت بتقديم المشورة لنظام كازاخستان الغني بالنفط.
بلير.. من غزو العراق إلى هندسة "السلام" الاستثماري في غزة
حتى عام 2014، ظل بلير مرتبطاً بعقد مع صندوق "مبادلة" السيادي الإماراتي، وبعلاقة وثيقة مع ولي العهد محمد بن زايد. نقلت فاينانشال تايمز عن أحد أصدقائه قوله: "توجد كيمياء بينه وبين محمد بن زايد". وفي العام نفسه، كان بلير يبحث إمكانية افتتاح مكتب له في أبوظبي لتوسيع حضوره في عالم الأعمال والسياسة "خلف الكواليس"، ولاحقاً، تُوّجت هذه المسيرة بعقد ضخم مع الإمارات، إذ وقّعت شركة "توني بلير أسوشيتس" عقداً استشارياً قُدّر بما بين 25 و35 مليون جنيه إسترليني، وفق ما نقلت التايمز البريطانية عام 2015.
وهكذا، أعاد بلير إنتاج نفسه مقدّماً نفسه كوسيط سياسي واقتصادي في الشرق الأوسط. ففي الثالث عشر من أغسطس/آب 2020، جلس ترامب في المكتب البيضاوي مشيداً بصهره ومستشاره جاريد كوشنر بعد إعلان التوصل إلى "اتفاق أبراهام". ورغم الأضواء التي سُلّطت على كوشنر، لم يكن وحده وراء التمهيد للاتفاق. فقد تحدثت وول ستريت جورنال ووسائل إسرائيلية عن جولات محادثات سرية سبقت الإعلان منذ 2019.
لكن جذور هذه القنوات الخلفية تعود أبعد من ذلك؛ إذ كشفت صحيفة إسرائيل هيوم أن تلك المفاوضات السرية "أصبحت ممكنة بفضل جهود رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير"، الذي استثمر موقعه كوسيط دولي منذ سنوات الرباعية، ليظل حاضراً في خدمة المصالح الإسرائيلية، جنباً إلى جنب مع كوشنر.
في مقال قديم بعد تنحيه بعنوان "بلير الأمريكي"، رأت مجلة نيويورك أن الرجل، منذ أن قاد السياسة البريطانية، كان أسير التبعية الكاملة للرؤية الأميركية في الشرق الأوسط. وما بدا وقتها توصيفاً قاسياً لم يعد كذلك اليوم؛ إذ يعود اسمه بقوة إلى الواجهة، بعدما أشارت تقارير متعددة إلى طرحه ليكون حاكماً لغزة على رأس "هيئة انتقالية دولية" بدعم من قوى غربية وخليجية، وبمباركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وشنّ حرب الإبادة على قطاع غزة، تردد اسم بلير أكثر من مرة. فقد كشف الإعلام الإسرائيلي عن لقاءات عقدها مع قادة الاحتلال، في مقدمتهم رئيس الوزراء المطلوب دولياً بتهم جرائم حرب – بنيامين نتنياهو، لم يُكشف عن تفاصيلها، قيل إنها هدفت إلى أن يلعب بلير دور الوسيط "بين الرغبات الإسرائيلية لليوم التالي، وبين بعض الدول العربية، إضافة إلى إعادة دراسة إمكانية قبول لاجئين من غزة في دول حول العالم".
⛔️ كوشنر وبلير يعرضان على #ترامب خططاً بشأن #غزة.. تضمنت المساعدات، وأزمة الأسرى، وخطط ما بعد الحرب.
— عربي بوست (@arabic_post) August 28, 2025
⭕️ نقلت وكالة رويترز عن مسؤول كبير في البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ناقش في اجتماع بالبيت الأبيض، الأربعاء، أفكاراً من صهره ومستشاره السابق جاريد كوشنر، ورئيس… pic.twitter.com/nS1YebohFA
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. ففي يوليو/تموز 2025، ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن "معهد توني بلير" (TBI) شارك في مناقشات لتحويل غزة إلى ما وُصف بـ"ريفييرا"، بالتعاون مع مجموعة "بوسطن الاستشارية" (BCG)، إحدى أكبر شركات الاستشارات العالمية. وتشير تقارير إلى أن BCG لعبت دوراً محورياً في تصميم مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، التي تحولت مشاريعها المزعومة للإغاثة إلى فخ قاتل، أودى بحياة مئات الفلسطينيين الجائعين تحت ذريعة توزيع المساعدات.
هكذا، ومن خلال هذا التواطؤ، تتبلور رؤية تُحوّل غزة إلى مركز تجاري واستثماري، بعد أن تُجهز إسرائيل على شعبها بالإبادة. في قلب هذه الرؤية يقف بلير — الرجل الذي لم يتخلَّ يوماً عن رؤيته الاستعمارية، يوظف خبرته السياسية وشبكاته المالية لتكريس الهيمنة، تحت لافتات "السلام" و"التنمية".