في الأول من مايو/أيار 2025 تم تعيين الدبلوماسي والمستثمر العقاري توماس باراك سفيراً لواشنطن في أنقرة، ولم تمض سوى أيام حتى وجد الرجل نفسه يرفع علم بلاده في السفارة الأمريكية في دمشق لأول مرة منذ 2012، وبعدها بأسابيع سيلتقي كبار المسؤولين في لبنان، فهو أصبح بذلك المبعوث الأمريكي للبنان وسوريا.
ومنذ أن وطأت قدما المبعوث الأميركي توماس باراك الأراضي اللبنانية والسورية، تغيّر إيقاع النقاش السياسي في البلدين، إذ لم يعد مجرد اسم دبلوماسي يطلّ بين حين وآخر في الأخبار، بل تحوّل إلى لاعب يومي يفرض حضوره في الاجتماعات الرسمية، ويثير السجال داخل الأوساط السياسية والشعبية.
حتى بدا وكأن باراك بات جزءاً من معادلة صنع القرار في بيروت ودمشق، وبدا شريكاً في صناعة التحالفات السياسية ورسم التفاهمات الأمنية وحل العقد، وأحياناً إطلاق التهديدات، إلى درجة أن مرجعاً لبنانياً من الصف الأول وصفه بأنه "لورنس العصر الأميركي الجديد".
فما الذي يجعل دور المبعوث الأمريكي للبنان وسوريا توماس باراك مختلفاً هذه المرة عن سابقيه؟ وكيف يُنظر إليه من قبل المسؤولين في العواصم المعنية؟ وهل فعلاً تمكن من تحقيق تقدم في الملفات الشائكة، خاصة تلك المرتبطة بعلاقات البلدين مع إسرائيل؟
"مستثمر عقاري" بقبعة دبلوماسية
لا يستقيم الحديث عن توماس باراك ودوره الحالي في لبنان وسوريا دون العودة إلى جذوره وخلفياته السياسية، وكيف تحوّل هذا الدبلوماسي الذي كان في الأصل رجل أعمال أميركي من أصول لبنانية، في ربيع 2025 إلى واحد من أبرز الوجوه في الدبلوماسية الأميركية بعد تعيينه سفيراً في أنقرة ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا.
باراك، المعروف في عالم الاستثمار العقاري عبر تأسيسه شركة "Colony Capital" وصلاته الوثيقة بدوائر المال والسياسة في واشنطن والخليج، دخل إلى الحقل الدبلوماسي من باب غير تقليدي، مستنداً إلى شبكة علاقات اقتصادية واسعة وخلفية عائلية مشرقية تعزز فهمه لمجتمعات المنطقة.
منذ توليه منصبه، رفع العلم الأميركي مجدداً فوق مقر السفارة في دمشق بعد أكثر من عقد على إغلاقها، وشارك في مفاوضات حساسة أفضت إلى وقف إطلاق نار سوري–إسرائيلي في الجنوب، فيما ينشط في لبنان على خط ملف سلاح حزب الله وخطط دمج الاستقرار الأمني بالمسار الاقتصادي.
ورغم أن هذه الأدوار منحت واشنطن حضوراً مباشراً في ملفات شديدة التعقيد، إلا أن شخصية توماس باراك أثارت جدلاً واسعاً، فغياب الخبرة الدبلوماسية التقليدية، إلى جانب سجله القانوني السابق وتصريحات مثيرة للجدل خلال زياراته لبيروت، جعلته عرضة لانتقادات داخلية وخارجية.

ومع ذلك، تراهن الإدارة الأميركية على موقعه المزدوج بين أنقرة ودمشق وقدرته على توظيف الاستثمارات في خدمة السياسة، في محاولة لصياغة مقاربة جديدة تجاه سوريا ولبنان تجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية.
قضى توماس باراك سنوات طويلة في ملفات العقوبات، مكافحة التهريب، وإدارة الموارد الاقتصادية المرتبطة بالنزاعات، هذا المزيج من الأمني والاقتصادي شكّل ملامحه كـ"مدير عمليات" يعرف كيف يضغط ويقدّم حوافز في آن واحد، أكثر من كونه وسيطاً يعتمد لغة المساومات الهادئة.
واشنطن أرادت شخصية تحمل أكثر من قبعة: جزء منها يعود إلى وزارة الخارجية، وجزء آخر مرتبط بمجلس الأمن القومي والخزانة الأميركية. بهذه الطريقة، لا يكتفي بنقل الرسائل، بل يُشرف عملياً على صياغة رزم ضغوط وحوافز، ما جعله بالنسبة لخصومه "المفاوض–الشرطي" في آن واحد.
مقاربة أمنية بغطاء اقتصادي في سوريا ولبنان
يرى مهند الحاج علي، نائب مديرة مركز "كارنيغي" للأبحاث، أن نهج توماس باراك في سوريا ولبنان يقوم على مقاربة "براغماتية–أمنية" بواجهة اقتصادية وسياسية.
ففي سوريا يسعى المبعوث الأميركي إلى الجمع بين خطاب التهدئة والترتيبات الحدودية وملفات المعتقلين وبرامج التعافي المبكر، مقابل التزام واضح بالخطوط الحمراء التي تتقاطع مع مصالح واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
ويشير الحاج علي لـ"عربي بوست" إلى أن باراك يميل إلى استخدام الحوافز الاقتصادية لكسب الوقت السياسي، لكن تشابك العقوبات وتعقيدات ملف قسد وتوترات السويداء تجعل أي مكسب عرضة للتآكل بسرعة.
أما في لبنان، فيدمج توماس باراك قضية سلاح حزب الله في سلّة أوسع تشمل ضبط الحدود الجنوبية، وتفاهمات أمنية مدعومة بحوافز اقتصادية للمناطق الطرفية، إضافة إلى دعم محدود لمؤسسات الدولة والجيش، مع ربط أي تمويل بجدول زمني لـ"حصر السلاح".
وبرأي الباحث اللبناني، تبدو هذه المقاربة كصفقة استقرار زهيدة الكُلفة، لكنها محفوفة بمخاطر تبدّل موازين القوى داخلياً وانعدام الثقة الشعبية بالإشراف الخارجي.
ويضيف الحاج علي أن توماس باراك يعتمد ما يسميه "دبلوماسية الدائرة الضيقة"، إذ يركّز على القادة السياسيين والأمنيين ورجال الأعمال، مع قنوات مفتوحة للعواصم العربية، لكنه يتجاهل الأطراف الاجتماعية والمدنية، ما يثير حساسيات حول الطابع "الوصائي" لمهمته.
وفي المحصلة، يُحسب له فتح نوافذ تهدئة وتعافٍ موضعي، لكن يُؤخذ عليه تكريس معادلة "الأمن أولاً" على حساب مسار سياسي وعدالة غائبة، ليظهر كوسيط منفّذ يفضّل الصفقات السريعة على التسويات الشاملة، ينجح حين تتوافر له شبكة مساندة عربية وحوافز قابلة للصرف، ويتعثّر حين يتحوّل الأمن إلى غاية بحد ذاته.
انطباعات لبنانية: ابتسامات دون نتائج
يقول مصدر حكومي لبناني رفيع إن تعامل القادة مع المبعوث الأميركي توماس باراك لا يخلو من التناقضات. فمن جهة، يقدّم نفسه بوجه ودود ومرن، يتحدث بلهجة هادئة ويُظهر نفسه على مسافة من الخطاب المتشدد الذي اشتهرت به المبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس، بل يكرر أمام من يلتقيهم أنه لا يحبذ أسلوبها ويعتبر نفسه أكثر قرباً و"فريندلي" كما يصفه البعض.
هذه الصورة تمنحه قبولاً أولياً لدى كثير من السياسيين اللبنانيين الذين اعتادوا على خشونة في تعامل بعض الموفدين الأميركيين.
لكن خلف هذه المرونة، تكمن خيبة عميقة؛ إذ إن باراك تراجع أكثر من مرة عن وعود قطعها بالضغط على إسرائيل للالتزام بمعادلة "خطوة مقابل خطوة"، ما جعل عودته من تل أبيب أو واشنطن دائماً بلا نتائج ملموسة.
هذا التراجع أضعف موقف الدولة اللبنانية في محاولتها دفع قرارات 5 و7 أغسطس/آب 2025 إلى التنفيذ، كما أضعف النقاش حول خطة الجيش اللبناني التي كان يُفترض أن تكون أكثر براغماتية وأقل حدّة.
ومع غياب الغطاء الدولي الكافي، وجد القادة اللبنانيون أنفسهم أمام مبعوث يوزّع الابتسامات والوعود، لكنه يعجز عن تحويلها إلى أوراق تفاوضية تساند مؤسسات الدولة.
لذلك، تبدو مقاربة توماس باراك للبنان بحسب المصدر محدودة التأثير، ودية في الشكل، لكنها مثقلة بالخيبات في المضمون، وهو ما ينعكس على ثقة النخب السياسية بقدرته على التأثير في مسار صنع القرار المحلي.
حول سؤال تأثير باراك على الديناميكيات السياسية في لبنان، يشير المصدر إلى أنه ظل محدوداً وملتبساً. فالمبعوث أضعف من خلال تراجعه المتكرر عن وعوده بالضغط على إسرائيل، وهو بتردده أجبر حكومة نواف سلام على البحث عن مقاربات أكثر براغماتية وأقل حدّة في خطة الجيش اللبناني، بعدما تبيّن أن الغطاء الأميركي غير مضمون.
عملياً، أدّى ذلك إلى إعادة رسم أولويات داخل مجلس الوزراء وبين القوى السياسية، إذ تزايدت أصوات تدعو إلى إدارة الملف بحذر أكبر تفادياً لانفجار داخلي.
من جهة أخرى، أسلوب باراك الودود وابتعاده عن لغة المواجهة التي تبنّتها مورغان أورتاغوس، جعلاه مقبولاً من قبل بعض الأطراف، لكنه في الوقت نفسه قلّل من وزنه التفاوضي لأن غياب النتائج أظهره كوسيط عاجز عن تحويل وعوده إلى نفوذ حقيقي.
النتيجة أن حضور توماس باراك في لبنان أعاد خلط الأوراق السياسية، لكنه لم يتمكن من إحداث تغيير جوهري في معادلة صنع القرار، بل عزّز الميل نحو التهدئة الداخلية على حساب القرارات الجريئة.
في سوريا.. إدارة للأزمة دون حلول حقيقية
أما في دمشق، فالصورة تبدو أكثر تعقيداً، فبحسب مصدر دبلوماسي سوري لـ"عربي بوست"، يرى المسؤولون في دمشق أن توماس باراك صادق في رغبته بدعم استقرار بلادهم، وأنه يحاول استخدام موقعه داخل الإدارة الأميركية للدفع نحو خطوات تخفف من وطأة العقوبات وتفتح الباب أمام بعض المشاريع الاقتصادية والإنسانية.
بل إن باراك، بحسب المصدر نفسه، لا يتردّد في لعب دور "الناصح" للسلطات السورية في ملفات معينة، وهو ما يعزز صورة رجل يريد أن يكون أكثر من مجرد وسيط شكلي.
هذا الأمر منح تعاطيه بعض القبول، خاصة في ظل عجز القنوات الأخرى عن إحداث خرق مشابه. لكن هذه النظرة الإيجابية تراجعت بشكل ملحوظ بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة على دمشق، والتي تركت أثراً سلبياً بالغاً داخل الدولة السورية.
فقد شعر القادة في دمشق أن باراك، رغم كل وعوده، لم يستطع فعل شيء لوقف الاعتداءات، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغه بصراحة أنه "يقصف أينما يشاء وكيفما يشاء ومتى شاء". هذه العبارة، التي ترددت في الكواليس، كانت بمثابة إعلان محدودية الدور الأميركي وقدرة مبعوثه على ضبط إيقاع إسرائيل.
ومع ذلك، ما زال المسؤولون السوريون يتعاملون مع باراك كقناة ضرورية لتخفيف الضغط ومحاولة فتح ثغرات في جدار العقوبات والعزلة، لكنهم في الوقت نفسه باتوا أكثر اقتناعاً بأنه يواجه "مجموعات ضغط" تحاول "فرملة" الاندفاعة التي يحظى بغطاء من الرئيس الأميركي في ممارستها، وأنه بات مديراً للأزمة ويساهم في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة من دون أن يملك مفاتيح الحل الحقيقي، والتي تسعى حكومة نتنياهو لامتلاكها، والتي يحذر باراك المسؤولين السوريين من تحركات مجموعاتها في واشنطن.

تصريحات حادة ونظرة قاتمة
توماس باراك لم يترك وراءه في بيروت سوى أثر كلامٍ حادّ أثار استنفاراً سياسياً واسعاً، وفي المشهد العام، لم يتجاوز لبنان مجرد عاصفة كلام فحسب.
فبينما يغرق المواطنون والسياسيون في قراءة خلفيات التصريحات وتداعياتها، تتبلور خلاصة واحدة، وهي أن إسرائيل تتقدم على أرض الواقع وتعمل على تثبيت وقائع جديدة في المنطقة، فيما تتراجع واشنطن عن بعض بنود اتفاقاتها السابقة.
كما أن كلام باراك وفق المصدر الحكومي اللبناني، أعاد تأكيد هذه الحقيقة، فقد بدا أنه تخلّى عن مضمون ورقته التي لم تحظَ بموافقة إسرائيل أصلاً، مخترقاً بذلك بنود اتفاق 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ومسهماً عملياً في إضعاف أي قاعدة تفاوضية سابقة.
وتجاوز باراك المنحى الدبلوماسي حين أعلن بصراحة أن الولايات المتحدة لن تسلّح الجيش اللبناني ليواجه إسرائيل، وأن القوات الأميركية لن تعود إلى الشواطئ اللبنانية، وأن واشنطن لن تطرق أبواب المواطنين الشيعة لسحب السلاح، لأن هذه "مهمة لبنانية" يجب أن يقوم بها الجيش.
عبارة كهذه لم تُحرج فقط النخب السياسية، بل شكلت عنصر ضغط جديداً على الدولة، لأنها ترسّخ فكرة أن الضمانات الدولية غير متاحة وأن المطلوب محلياً تحمّل كلفة قرار حساس وشائك.
الأهم من ذلك، أن مقولة باراك بأن "السلام مجرد وهم" أعادت إلى الواجهة قراءة قاتمة لمسارات التسوية، فوفق المصدر فإن من منظوره -أي باراك- تبدو إسرائيل الطرف الأقوى القادر على فرض معطيات جديدة، من سوريا إلى لبنان، عبر تجاوز الاتفاقات السابقة والعمل على ترتيبات أمنية تصبّ في مصلحتها.
وفي ضوء هذا الكلام، بدا أن تصريحات الموفد الأميركي توماس باراك تمنح لإسرائيل غطاءً سياسياً لخيارات قد تثمر توسيعاً عسكرياً أو توغلات برّية تهدف إلى فرض واقع مفاوضاتي جديد، فيما يُترك لبيروت عبء التعامل مع تبعات هذا التحول في الداخل.
فعالية توماس باراك ومستقبل الوساطات
في المحصلة، يظهر أن تأثير المبعوث الأميركي توماس باراك على القادة السياسيين والعسكريين في سوريا ولبنان ظل محكوماً بمعادلة مزدوجة، قدرة على إثارة النقاش وفتح مساحات محدودة للحوار، يقابلها عجز عن فرض تحولات استراتيجية كبرى.
هذا الواقع انعكس على المؤسسة العسكرية نفسها التي باتت محور الخطاب الأميركي، إذ حُمّلت مسؤولية إدارة ملف يتجاوز إمكاناتها التقنية والسياسية، ما أضعف زخم خطة الجيش وأدخلها في دائرة الحذر والانتظار.
أما في سوريا، فقد استفاد باراك من موقعه لمدّ قنوات مع القيادة السياسية والعسكرية، مقدِّماً نفسه كوسيط يمكن أن يفتح ثغرات في جدار العقوبات ويدفع نحو مشاريع إنسانية أو اقتصادية محدودة، لكنه اصطدم بحدود قدرته على كبح اليد الإسرائيلية الطولى، وهو ما جعل تأثيره في القرارات الاستراتيجية بدمشق محصوراً في الهوامش لا في صلب المعادلة.
وعليه، فإن باراك لعب دوراً مهماً في تشكيل توجهات آنية وفي ممارسة ضغط نفسي وسياسي على الحكومات المعنية، لكنه لم ينجح بعد في بلورة مسار يغيّر قواعد اللعبة أو يعيد رسم الموازين الإقليمية.
بالنسبة لواشنطن، وفرت مهمته حضوراً ميدانياً مباشراً ورسائل ضغط على الخصوم، لكنها لم تحقق اختراقات جوهرية في الملفات الكبرى، لا في حصر السلاح بلبنان، ولا في دفع تسوية سياسية شاملة بسوريا.
وبهذا، تبقى فعالية جهوده الدبلوماسية محدودة، أشبه بإدارة للأزمة وتأجيل لانفجاراتها، أكثر منها صناعة لتسويات أو ترسيخ لاستقرار دائم يخدم الأهداف الأميركية بعيدة المدى في المنطقة.