في سابقة خطيرة، شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي هجوماً على العاصمة القطرية الدوحة بهدف اغتيال وفد حماس التفاوضي، ما اعتبره مراقبون تصعيداً غير مسبوق وتجاوزاً للخطوط الحمراء في قواعد الاشتباك الإقليمي.
هذا الحدث لم يأتِ بمعزل عن سياق أوسع تسعى فيه "إسرائيل" إلى فرض معادلة جديدة في المنطقة. في هذا الإطار، يقدم موقع "أسباب" للدراسات الجيوسياسية قراءة تحليلية لأبعاد الهجوم، وخلفياته، وتداعياته المحتملة على توازنات القوة والعلاقات الإقليمية، في سياق تصاعد التطرف الإسرائيلي.
ماذا حدث؟
شن الطيران الحربي التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي هجوماً مباغتاً بهدف اغتيال وفد حماس التفاوضي أثناء اجتماعه في مقر سكني بالدوحة. وصرح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن الضربة "مبررة تماماً" لأنها استهدفت كبار قادة حماس الذين دبروا هجوم السابع من أكتوبر.
من جانبه، وصف رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن الهجوم بأنه "غادر"، و"إرهاب دولة". وشدد على أن بلاده لن تتهاون إزاء المساس بسيادتها وسلامة أراضيها. وبينما نجا وفد حماس القيادي، فقد أسفر الهجوم عن استشهاد 5 فلسطينيين بينهم نجل القيادي خليل الحية ومدير مكتبه، وعنصر أمن قطري.
وكشف الوزير القطري أن الجانب الأمريكي أبلغهم بالهجوم بعد عشر دقائق من وقوعه، وأكد الرئيس الأمريكي أن الهجوم كان "قراراً اتخذه نتنياهو، وليس قراراً اتخذته أنا"، معربا عن "أسف عميق" لوقوع الهجوم على أراضي قطر. وأوضح أنه وجّه وزير الخارجية للإسراع في إتمام اتفاق التعاون الدفاعي مع قطر، لافتاً إلى أنه أكد لأمير قطر، هاتفيا، أن "مثل هذا الأمر لن يتكرر على أرض قطر".
هجوم "إسرائيل" على قطر استمرار لنهج فرض الهيمنة العسكرية
على الرغم من أن احتمال قيام "إسرائيل" بهذه الخطوة لم يكن مستبعداً، فإنه أيضاً لم يكن مرجحاً، ومن ثم فإن الهجوم يمثل نقطة تحول لا ينبغي التقليل من تداعياتها الأمنية البعيدة. وبينما يمثل الهجوم مؤشراً على انفلات سلوك حكومة الاحتلال، فإنه في نفس الوقت يرسل رسالة تحذير إلى كافة دول الإقليم، ويوضح الهامش الواسع الذي تتمتع به الآلة الأمنية الإسرائيلية خارج توازنات الولايات المتحدة مع حلفائها في المنطقة، حيث يبدو محتملاً أن الهجوم لم تدعمه الإدارة الأمريكية، إذ يميل ترامب إلى استعراض قوته وجرأته، وليس التبرؤ من أفعال خُطط لها.
يؤكد الهجوم المزاج المسيطر على عقلية الاحتلال، وهو فرض الأمر الواقع وإحداث تغيّرات استراتيجية في المنطقة، بغض النظر عن تكلفة ذلك على علاقات "إسرائيل" مع جيرانها أو تأثيره على صورة "إسرائيل" دولياً. سلوك حكومة نتنياهو المتطرفة يعتبر هذه التكاليف أضراراً جانبية يمكن التعامل معها لاحقاً، في حين تظل الأولوية لإنجاز الأهداف الاستراتيجية المتعلقة بفرض معادلة أمن إقليمية جديدة تكون فيها "إسرائيل" في موقع هيمنة عسكرية، بما يشمل معالجة تحديات، مثل عبء غزة الديموغرافي، والسيادة في الضفة، والأمن في جنوب سوريا وجنوب لبنان، والتهديد الإيراني وما يرتبط به من تهديد الحشد الشعبي والحوثيين.
لكن ليس من المؤكد أن هذه الأضرار ستظل جانبية، وإنما من المرجح أن تؤثر بصورة استراتيجية على علاقة "إسرائيل" بدول الإقليم، بما فيها دول كانت في مسار تطوير شراكة أمنية واقتصادية مع الاحتلال قبل حرب غزة، حيث تنتقل دولة الاحتلال تدريجياً من احتمال أن تكون "شريكاً أمنياً" موثوقاً في مواجهة "التهديد الإيراني"، إلى أن تعود هي بذاتها كمصدر تهديد مستمر لجيرانها، بمن فيهم الدول التي تجمعها مع تل أبيب اتفاقية سلام مثل مصر والأردن. ويمثل قرار نتنياهو تعليق اتفاقية تصدير الغاز إلى مصر رداً على الحشود العسكرية المصرية المتزايدة في سيناء، ورفض القاهرة لخطة التهجير، مؤشراً يعزز هذا الاستنتاج.
هذه التطورات، ومجمل سلوك "إسرائيل" العدواني في المنطقة، من المحتمل أن يؤدي تدريجياً إلى سعي بعض دول المنطقة على الأقل إلى تعزيز التعاون الدفاعي في مواجهة "إسرائيل" وليس بالشراكة معها، خاصةً وقد ظهر واضحاً أن الركون إلى الضمانات الأمريكية غير كافٍ، بعد أن تعرضت قطر، الحليف لواشنطن من خارج الناتو، لقصف أراضيها مرتين خلال الأشهر الأخيرة، مرةً بصورة رمزية حين استهدفت إيران قاعدة العديد، والثانية من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي.
فيما يخص احتمالات التحرك القطري، فمن المرجح أن تتحرك الدوحة في المسارات التالية:
أولاً، المسار العسكري: من المتوقع أن تسعى الدوحة إلى اتفاقية دفاعية مع واشنطن تشمل توسيع نطاق الالتزامات الدفاعية، خاصةً حماية أجواء البلاد وليس فقط قاعدة العديد. وفي نفس الوقت، سوف تعمل على تعزيز تحالفاتها العسكرية بحيث لا تتوقف على الولايات المتحدة، وستكون قوى أخرى مرشحة كحلفاء عسكريين، خاصةً تركيا وباكستان.
ثانياً، المسار القانوني والعقوبات: من المرجح أن تبذل الدوحة جهوداً قانونية دولية تستهدف إدانة العدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى العمل على فرض عقوبات على تل أبيب، خاصةً وقد أسفر الهجوم عن وفاة مواطن قطري. وسوف تستخدم الدوحة نفوذها المالي في دول غربية وعلاقاتها الراسخة مع شركات كبرى لمعاقبة "إسرائيل" اقتصادياً.
ثالثاً، المسار الدبلوماسي: من المرجح أن تطلق الدوحة جهوداً دبلوماسية تستهدف عزل "إسرائيل" سياسياً وإدانتها من قبل دول العالم، خاصةً وأن الهجوم على أرض وسيط يضع "إسرائيل" في موقع ضعيف. وقد جاء الاعتداء الإسرائيلي في لحظة حساسة من جهود وقف إطلاق النار، وهو ما يمنح قطر ورقة ضغط تتمثل في التراجع عن دورها كوسيط رئيسي، ما يؤثر في فرص التوصل إلى تسوية حول الهدنة وتبادل الأسرى.
رابعاً، المسار السياسي: سوف يترك الهجوم تداعياته على ثقة قطر إزاء الرهان على العلاقات مع الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يعزز هذا من توجهات الدوحة نحو تعزيز الشراكات السياسية مع قوى متوسطة عالمية، مثل أعضاء مجموعة العشرين، فضلاً عن موازنة علاقاتها مع القوى الكبرى، خاصة دائمة العضوية في مجلس الأمن.