منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، لم تقتصر الجرائم على القصف الجوي أو الاجتياحات البرية أو التجويع، بل امتدت إلى سياسة ممنهجة من التدمير الشامل: منازل تُسوّى بالأرض، بنى تحتية تُمحى، وأحياء تُحوّل إلى أنقاض. في هذه الحرب، يتكشّف أكثر فأكثر البعد الإبادي للآلة العسكرية الإسرائيلية التي تتعامل مع القطاع كساحة مفتوحة للهدم والتجريف لدفع الفلسطينيين بعيداً عن منازلهم وأحيائهم وأرضهم.
وخلف هذا المشهد، تعمل تشكيلات هندسية موازية للجيش الإسرائيلي أقل انضباطاً وأكثر خطورة، لكنها تحت إشرافه. وحدات غير رسمية، تضم مستوطنين متطرفين ومقاولين دخلت غزة لتتولى المهام القذرة، مثل التدمير الانتقامي للأحياء الفلسطينية، بعيدًا عن أي ضوابط عملياتية، لتتحول الفوضى الإجرامية ضد الفلسطينيين جزءًا من الاستراتيجية الإسرائيلية في الحرب على غزة.
من أبرز هذه التشكيلات تبرز "قوة أوريا"، التي كشفت صحيفة هآرتس العبرية عن تفاصيلها لأول مرة: قوة صغيرة لكنها مُدمِّرة، يقودها المستوطن خريج المدارس الدينية بتسلئيل زيني، شقيق المرشح اليميني المتطرف لرئاسة الشاباك والمقرب من نتنياهو، ديفيد زيني.
تعمل هذه القوة الهندسية بالجرافات والحفارات تحت مظلة جيش الاحتلال. تُنفّذ عمليات هدم بلا إشراف، تستخدم الفلسطينيين دروعاً بشرية وتُعرّض أيضاً حياة الجنود الإسرائيليين للخطر أيضاً بحسب هآرتس. وفي قلب حرب الإبادة، تمثل هذه القوة الوجه الأكثر إجراماً للجيش الإسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على الفلسطينيين دون قانون رادع أو محاسبة.
من مستوطنات الضفة إلى غزة.. ما هي "قوة أوريا" الهندسية؟
- أفردت صحيفة "هآرتس" العبرية تقريباً موسعاً حول مجموعة هندسية خطيرة وقذرة، تعمل تحت إشراف الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، اسمها "قوة أوريا"، قائلة إنها تستخدم المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية. بحسب التقرير، تتألف هذه الفرقة من 10-15 مشغلاً لأدوات هندسية تشمل حفارات وجرافات، وتعمل في غزة منذ قرابة عام في مواقع مختلفة.
- وصفت الصحيفة "قوة أوريا" بأنها نقطة ضعف قوات الجيش الإسرائيلي لأنها غير منضبطة وتعرض حياة الجنود للخطر خلال عمليات الهدم الواسعة في قطاع غزة، ومعظم أفرادها هم مستوطنون متطرفون من الضفة الغربية.
- وفي التفاصيل، تقول هآرتس، إن أفراد هذه القوة يعملون في مناطق مختلفة بقطاع غزة، يستخدمون أدوات هندسية ثقيلة لغرض واحد: تدمير غزة. وهم لا يعملون ضمن إطار عسكري منظم، بل ضمن قوات صغيرة مُشكّلة بمبادرات مستقلة. بعضهم مقاولون مدنيون، وكثير منهم مستوطنون من الضفة الغربية، يُجنّدون في قوات الاحتياط عبر شركات المقاولات.
- الطريقة التي تنفذ بها هذه الفرق مهامها تعرضها للخطر بشكل كامل تقريبا، بحسب هآرتس، فهم لا يخضعون للإشراف من القادة العسكريين، وليس واضحاً لأفراد الجيش الآخرين دائماً من هم هؤلاء؛ وهم لا يتبعون إرشادات السلامة، وأكثر من مرة عرضوا حياة الجنود الآخرين للخطر، كما استخدموا الفلسطينيين العزل دروعاً بشرية في عملياتهم التدميرية.
- يقول قائدٌ عسكري إسرائيلي يشغل منصبًا محوريًا في لواء احتياط كان يعمل حتى وقتٍ قريب في غزة: "يقول أفراد قوة أوريا إنهم يحاولون اكتشاف أنفاق في غزة، لكنهم يسمحون لأنفسهم أيضاً بارتكاب أمورٍ كارثية". ويضيف أنهم أدخلوا مقاتلين إسرائيليين داخل أنفاق ومنشآت لم تُوافق عليها بعد قوات الهندسة التابعة للفرقة. ويقول مقاتل قام بتأمين أنشطة القوة في الأشهر الأخيرة أيضًا إنه في عدة حالات طُلب من المقاتلين الوصول إلى مكان مكشوف، أو تأمين العمل في مبانٍ لم يكن معروفًا بعد ما إذا كان بها متفجرات أو مقاتلون من حماس".
- وقد تحول هذا الخطر إلى كارثة، مثلما حدث مع المستوطن أبراهام أزولاي (25 عاماً) مستوطنًا من مستوطنة يتسهار (جنوب نابلس)، والذي قُتل بنيران مقاتلين من حماس بعدما وصلوا إلى جرافته التي تدمر منازل فلسطينية شرق خانيونس. وظهر أزولاي في مقطع فيديو لكتائب القسام وهم يطاردونه ويردوه قتيلاً ويجردونه من سلاحه وقد حاولات المقاومة خطف جثته لكن الظروف الميدانية لم تسمح لذلك بحسب ما أعلنت القسام.
- يقول أحد القادة العسكريين إن أعضاء قوة "أوريا" لا يُبلغون أحد بمواقعهم ولا المهام المطلوبة منهم. يوضح أحد القادة المشكلة قائلاً: "إنهم لا يُرسلون تقارير عن الموقع والعمل المطلوب منهم، لا إلى الكتائب، ولا إلى اللواء، ولا إلى الفرقة. ليس من الواضح من يعلم بدخول هذه القوة إلى منطقة القتال".
- وبموجب الأوامر، يجب الإبلاغ عن كل جندي أو قوة أو مدني إسرائيلي يدخل قطاع غزة. وتُحال هذه الأسماء إلى المقر الرئيسي لضمان مغادرة كل من يدخل. وتُطبق هذه القاعدة على كبار المقاولين الذين يعملون مع وزارة الدفاع، أما بالنسبة للقوات "المستقلة"، فوفقًا لمصادر عديدة، لا شيء يسير وفق القانون. يقول أحدهم: "نحن نخسر مقاتلين لأن المنطقة تُدار كحيّ سكني. كل سائق جرافة أصبح مهندسًا ميدانيًا يُقدم المشورة للقادة بشأن دخول المباني أو التعامل مع الأنفاق. إن تجاهل الجيش الإسرائيلي لهذا الوضع وعدم التحقق منه هو المشكلة، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من القتلى الإسرائيليين".
يستخدمون الفلسطينيين كدروع بشرية خلال عملياتهم في غزة
- لكن القصة لا تقتصر على المخاطر التي يتعرض لها أفراد هذه القوة أو جنود جيش الاحتلال الذين يؤمّنونهم في مناطق القتال. يقول مصدر عسكري إن قوة أوريا تستخدم ما يُعرف بـ"إجراء المنصة". ويضيف المصدر أن وراء هذا الاسم الغامض إجراءً آخر أكثر شيوعاً، وهو محظور بموجب قوانين الحرب: استخدام الفلسطينيين كدروع بشرية خلال عمليات الهدم، ويقول: "لقد وضعوا في إحدى المرات فلسطيني في نفق اكتشفوه للتو للتحقق من وجود أي آثار لمقاتلين أو متفجرات".

- وهذا ليس شيء جديد على الجيش الإسرائيلي، حيث كشف تحقيق لصحيفة هآرتس في أغسطس/آب من العام الماضي، أن هذا إجراء مألوف لدى الجيش الإسرائيلي، تقوم من خلاله القوات باستخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية في مناطق القتال، وكان يسمى هذا الأمر قبل عام "إجراء البعوض"، والآن يسمونه "إجراء المنصة"، الجريمة هي هي لكن المسمى اختلف قليلاً.
- لم تظهر قوة أوريا، كغيرها من الفرق المستقلة، من العدم، كان الطلب عليها كبيرًا لاستخدامها في الأعمال القذرة وغير النظامية. يقول مصدر عسكري مطلع على قوات الهندسة في غزة: "في بداية الحرب، كان لدى كل لواء حوالي 20 جرافة مدرعة ذات كفاءة عملياتية. أما اليوم، فلا نملك حتى 10 جرافات، وليس لديهم دائمًا مشغلون محترفون". لذلك، يقول، "يأخذ كل قائد لواء، حتى قائد كتيبة، يرغب في التقدم في القتال ويخشى من أفخاخ حماس، أفراد من قوة أوريا ويعمل معها دون الحاجة إلى الخضوع للفرقة أو انتظار وصول المعدات أو القرارات من القيادة". ويؤكد المصدر: "هذه القوات تنتقل من مكان إلى آخر دون علم ضباط الهندسة في الفرقة، كما أنها ليست ملتزمة تمامًا بالقادة المسؤولين في الميدان، ويتحركون دون الرجوع لأحد".
"مجموعة هدفها الأساسي تدمير غزة"
- يُشغّل جيش الدفاع الإسرائيلي كيانات مدنية للأعمال الهندسية في قطاع غزة على نوعين: المجموعة الأولى تضم شركات مقاولات أعمال الحفر التي تُنفّذ أعمال بنية تحتية واسعة النطاق، مثل رصف الطرق وهدم المباني وكشف الأنفاق. تُعترف وزارة الدفاع بالمسؤولين عن هذه الشركات كمقاولين مرخصين، ويُمنحون عقودًا بناءً على العمل المطلوب، ويعملون أيضًا أمام قائد الفرقة أو القائد، بمعرفة القوات على الأرض ووفقًا للخطة العملياتية لجيش الدفاع الإسرائيلي.
- إلا أن حالة قوة أوريا والفرق المستقلة الأخرى مختلفة. وبحسب المصدر، فإن هذه القوات يتم تجنيد أعضائها عبر مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي وجروبات الواتساب، أغلبهم من المستوطنات، وبعضهم بارزون من اليمين المتطرف في الأراضي المحتلة.
- من الأمثلة على هذا النوع من الفرق "لواء الفولاذ"، الذي كُشف عن أنشطته في صحيفة هآرتس في ديسمبر من العام الماضي. كان يقوده العقيد (احتياط) جولان فاخ، شقيق قائد الفرقة 252، يهودا فاخ. وأوضح ضابط كبير في قيادة الفرقة آنذاك أن فريق "لواء الفولاذ" كان يضم جنودًا ومدنيين يبدون كشباب التلال المتطرفين الذين ينشطون في مهاجمة القرى الفلسطينية بالضفة وإقامة بؤر استيطانية. وحسب قوله، "كان الهدف الأساسي لهذه القوة تدمير غزة".
من هو بتسلئيل زيني الذي يدير عمليات "قوة أوريا" في غزة؟
- عند الحديث عن "قوة أوريا"، يتكرر ذكر اسم واحد: المستوطن اليميني بتسلئيل زيني، شقيق الرئيس المقبل لجهاز، اللواء المتقاعد ديفيد زيني، وهو الذي يقود هذه القوة الهندسية.
- بتسلئيل زيني رجل غير معروف نسبياً، على عكس شقيقه ديفيد، وكلاهما خريج مدارس دينية متطرفة في المستوطنات. ويبلغ بتسلئيل زيني من العمر 50 عاماً ويمتلك شركة "بتسلئيل زيني لريادة الأعمال والمشاريع المحدودة"، وعنوانها هو نفس عنوان إقامته في مستوطنة عوفرا. وتصف تفاصيل الشركة أن نشاطها الأساسي هو "الإنتاج والخدمات اللوجستية".
- قبل نحو شهرين، ظهر اسم بتسلئيل زيني في منشور على فيسبوك لمراسل هآرتس أوري مسغاف، حيث ذُكر كشخصية رئيسية في قيادة "قوة أوريا". ردًا على ذلك، ادعى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن زيني ليس جزءًا من تلك القوة ولا يُصنف كعضو احتياطي نشط في الجيش. وادعى الجيش أن شركة زيتي هي شركة مقاولات تعمل لصالح وزارة الدفاع.

- مع ذلك، بعد أن حصلت صحيفة "هآرتس" على أدلة إضافية حول قوة أوريا وتورط بتسلئيل زيني فيها أثناء إعداد هذا التحقيق، طلب من المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي توضيح الأمر. في البداية، زعم الجيش أن زيني يرأس قوة أوريا، لكن المتحدث باسم الجيش استمر في الادعاء بأنها شركته للمقاولات تابعة لوزارة الدفاع فقط. لاحقًا، صحّح نفسه مجددًا قائل: "قوة أوريا هي قوة من جنود الاحتياط من وحدات متنوعة، تُشغّل أدوات هندسية من نوع الحفارات في جنوب قطاع غزة". كما أكد أن قوة أوريا "ليست مرتبطة بشركات مقاولات عاملة في قطاع غزة".
- يقول مصدر عسكري مطلع على التفاصيل إن زيني عبر قوة أوريا يحاول دخول غزة بعدد لا بأس به من الكتائب دون مهمة، وليس واضحاً ما الذي يبحث عنه هناك. وأضاف المصدر أن أمراً صدر مؤخراً في عدة مقرات بمنع أي فرد من قوة أوريا من دخول أراضي غزة، إلا "في حال أقرّ اللواء بهذا النشاط ووافق عليه".
- من جهته قال ضابط هندسة بارز في قطاع غزة لهآرتس: "ليس سرًا أن القيادة الجنوبية ترغب في إيجاد حل أفضل لقوة أوريا. وصلت جرافات جديدة إلى إسرائيل من الخارج، لكن حمايتها وتجهيزها لخوض القتال سيستغرق وقتًا، لذا يُفضل الجيش غض الطرف عن قوة أوريا وتركها تعمل في غزة لعدم وجود حل آخر".
- من جهته، صرح مكتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "قوة أوريا هي قوة من جنود الاحتياط من وحدات متنوعة، تُشغّل أدوات هندسية من نوع الحفارات في جنوب قطاع غزة. إنها قوة عسكرية منظمة لا تتبع شركات المقاولات العاملة في قطاع غزة. تعمل القوة ضمن فرقة غزة وبالتعاون مع ألوية ووحداتها، وهدفها هو دعم أنشطة القوات النظامية في غزة. تتكون من جنود احتياط من جميع أنحاء المجتمع الإسرائيلي، يُخاطرون بحياتهم ويخدمون ما يقارب 600 يوم في الاحتياط لتحقيق أهداف الحرب. أي ادعاء بأن هذه قوة غير نظامية وأنها تعمل بطريقة تُعرّض الجنود للخطر هو ادعاء باطل ولا أساس له من الصحة".
- وأضاف مكتب المتحدث: "يخدم بتسلئيل زيني في قوات الاحتياط كمسؤول عن الدعم اللوجستي للجنود في القوة، حيث يُعنى بجلب الطعام وجميع الاحتياجات الضرورية. نؤكد أنه لا يُشغّل الأدوات بنفسه، ولا يشغل منصبًا قياديًا في القوة، ولا يُقرر أنشطة المقاتلين. تُحدد أنشطة المقاتلين وفقاً لتوجيهات الفرقة ووفقاً لطلب قادة الوحدات التابعة لهم"، على حد وصفه.